الأحد 22 سبتمبر 2024 آخر تحديث: السبت 14 سبتمبر 2024
تأملات في "أوتار لأوردة الغبار" للقاص اليمني زيد صالح الفقيه - مصطفى لغتيري
الساعة 14:58 (الرأي برس (خاص) - أدب وثقافة)

 


تتميز القصة القصيرة في اليمن بتعدد تجاربها الإبداعية، فكلما أطلعت على مزيد من المجاميع القصصية المنتمية هذا البلد الجميل، التي نتمنى أن يتجاوز محنته قريبا، زاد اقتناعي بمراهنة أدباء اليمن على هذا الجنس الأدبي، الذي لا شك يتيح للكاتب الغوص عميقا في تكنيك الكتابة، من خلال التعاطي مع صيغ وأساليب متنوعة، تجعل من القصة القصيرة ، هذا الجنس الهجين، مختبرا حقيقي، لأساليب الكتابة المتنوعة. فالقصة القصيرة كما هو معلوم تحتفي بالسرد والوصف والحوار...، كما أنها فن الاختزال بامتياز، بما يعني الاحتفاء بالتكثيف في أرقى حالاته.
 

والمطلع على التجربة القصصية للكاتب اليمني زيد صالح الفقيه، وخاصة في مجموعته"أوتار لأوردة الغبار" الصادرة عن الهيئة العامة للكتاب بصنعاءعام 2004،سيلاحظ لا محالة، أن الانشغال بأسلوب الكتابة اتخذ حيزا كبيرا من اهتمام الكاتب، حتى أننا نجد كل قصة من المجموعة تكاد تبرع في مراودة أسلوب معين أكثر من غيره، ففي قصة "...!!"هكذا صاغ الكتب عنوانها، نجد طغيان الوصف على باقي مكونات الفعل القصصي، وقد جاء هذا الوصف وظيفيا، يساعد على إجلاء ملامح الشخصية، بل ويساهم في تطوير القصة إلى النهاية التي ارتضاها القاص لها، فيصف الكاتب القرية مثلا بقوله: "الشمس صفراء اللون، تضع القبلات الأخيرة على قمم الجبال، الرعاة عادوا بأغنامهم.. أصوات النعاج ألمرضع تملأ أجواء القرية، الحمير القادمة من سوق الخميس ترفع أصواتها معلنة سرورها بانتهاء المهمة.. أصوات الناس ترتفع من القرى المجاورة.. الصبيات الصغيرات يتحلقن في دوائر يلعبن"الذيب يابه"..الأولاد الصغار يتجمعون في دائرة كبيرة يلعبون"دار النمير داح".
 

ولأن القرية لا تحلو تفاصيلها في الريف اليمني إلا إذا كانت منبثقة من أعماق الجبل، بل وتكون امتدادا له، فإن القاص محض الجبل بوصف جميل، يتماشى مع الحالة النفسية التي توجد عليها الشخصية، يقول السارد" في نهاية يوم جديد.. ما زالت آخر أنسجة الشفق معلقة في السحب المتراكمة حين أدار جسمه إلى الخلف وودع جبل "ألقلة"  أن تصبح أمام عينيه حصن"ريمان" الذي تتصاعد منه أخرى تحمل رائحة الحبر، السحب المتراكمة تنثر لؤلؤها على أوراق البن، امتد قوس قزح يحمل أخرى الحبر ملكة بلون الأحلام.. الواقف فوق السور يفتح جمجمة لا تشبع من رائحة الحبر الأصفر" .
 

ويستمر هذا الوصف في تألقه، حين ينبري الكاتب لوصف الضوء، الذي يلف القرية في ردائه النوراني، جاعلا منه معبرا بشكل غير مباشر عن طموحات الشخصية الرئيسية في القصة يقول السارد:"اتسع رواق الضوء تجمعت كل  حباله فارتسمت خطوط المستقبل: خط أحمر يسير في اتجاه الجنة، خط أبيض يسير في اتجاه الشمس، خط أسود يسير في اتجاه القبر، سارت نحو الأفق الأوسع في اللاشيء، في دائرة الضوء انطفأت كل الفوانيس التي "تطفطف" داخل دائرة الضوء".
 

ويبلغ الوصف ذروته في نهاية القصة، حين يصبح مشهد الطبيعة موازيا لمصير الشخصية "عمران" يقول السارد: "القرية الحانية مرمية هناك في بطن الوادي... الشمس صفراء تضع القبلات الأخيرة على قمم الجبال.. عمران ظل واقفا على قمة جبل السور.. باب الغرفة مفتوح... أظلم كل المنزل إلا مسرجة... اكتشفت أنه يقرأ في قصص وسمت ب" أوتار لأوردة الغبار".و إذا كان الوصف قد كان الشخصية الأبرز في القصة السابقة، حتى أنه طغى على شخصية عمران، فإننا سنجد السرد متسيدا في قصة"المحجبة"  التي تحكي قصة تبدو كثير من تفاصيلها مقتبسة من الواقع، تصور الحياة البسيطة للشعب، وكيف يناضل من أجل أن يظفر بلحظة فرح منفلت حتى وإن كانت مجرد حكاية ، يجود بها " أبو دلامة" على الصبية، الذين يستهويهم هذا الشغف لدى الرجل لسرد الحكايات، فيتعلقون به،فيما يتعلق قلبه هو بواحدة من هؤلاء الأطفال التي كبرت في غفلة من الجميع، فمنعها أهلها من متابعة الحكايات، بعد أن فرضوا عليها غطاء الرأس، لكن الفتاة تجد طريقة مناسبة لارتشاف نسغ الحكاية، حكاية أبي دلامة وحكايتها الشخصية، التي تتعقد أكثر فأكثر كلما راكم سنين في عمرها، في مجتمع محافظ تظل فيه الأنثى متهمة حتى تثبت براءتها.
 

ولعل رغبة الكاتب زيد الفقيه المتجذرة في التجريب هي ما دفعته لركوب صهوة التكثيف في مجموعته، مجربا أسلوب "ما قل ودل"من خلال بعض القصص القصيرة جدا، التي تحتفي بالقص الوامض، فجاءت النصوص صغيرة ومكثفة ولماحة، ويبدو أن الكاتب زيد الفقيه من رواد هذا الفن الوامض، إذ أن النصوص ، التي ضمتها المجموعة مؤرخة بعام 1994، وهذا الأمر يفرض حتما على مؤرخي القصة القصيرة جدا إعادة حساباتهم، والتفكير من جديد في مسألة الريادة، يقول الكاتب في قصة"صراع":
 

دخل من الباب
وبعد زمن طويل..
طويل... خرج من النافذة.
وفي قصة أخرى  عنوانها  الكاتب بمواطن، يقول فيها:
أنا المواطن.. أعلن حكم الإعدام على
نفسي شريطة أن لا تبحث الأسباب.

 

أتمنى في نهاية هذه التأملات أن أكون قد وفقت في إثارة الانتباه إلى بعض الشغالات الكتابة القصصية عند الكاتب زيد الفقيه، التي تبدو متعددة ومتشابكة وغنية، وبالتأكيد لا يمكن لهذا المقال الإحاطة بها، ويكفيه شرفا المساهمة بقدر ولو يسير في الإشارة إليها والاهتمام  بها.

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
اختيارات القراء
  • اليوم
  • الأسبوع
  • الشهر
  • الأكثر قراءة
  • الأكثر تعليقاً