الثلاثاء 24 سبتمبر 2024 آخر تحديث: السبت 14 سبتمبر 2024
عازف الناى - وليدالعليمي
الساعة 09:51 (الرأي برس (خاص) - أدب وثقافة)


             
بدأ عازف الناى طريقه ، بالعزف على ضفاف الأنهار، ووسط الحقول ، وعلى سفوح الجبال المجاورة لقريته ، كان عزفه فريدا ً من نوعه ، متميزا ً، كان يسحر العقول والقلوب ، كان الحزن يتدفق من بين أنغامه ، كسحابة ممطرة ، توجع قلوب مستمعيه ، وأُعجب الناس بعزفه كثيرا ً ، في بلدته ، والبلدان المجاورة ، وصعد نجمه بسرعة البرق ، وتزايدت شعبيته يوما ً بعد أخر، وخلال فترة وجيزة ، كان يتسابق لدعوته كبار القوم ليعزف أمامهم ،  في الإحتفالات الشعبية والرسمية والوطنية والخاصة ، أصبح عازف الناى هو العازف الأول ، كان يعود الي قريته التي تتوسط الحقول الخضراء ، نهاية كل أسبوع ، كان مغرما ً ب"قمر"بنت صاحب البستان الكبير في قريته ، كان والد قمر من وجاهات المنطقة ، وكان ثريا ً ، متوسط الثراء ، كان عازف الناى يطمع بعلاقته مع قمر الي أبعد الحدود ، كانت قمر على الرغم من غنى أبيها إلا انها كانت فقيرة ، وكانت تعيش مع أمها المطلقة في غرفة ضيقة في أطراف بستان والدها ، كانت تبيع اللبن لسكان القرية لتكسب قوتها وقوت أمها ، كانت تحث الخطى مع شروق شمس كل يوم ،  الي كل بيت من بيوت أهل القرية ،وكانت تترك اللبن الطازج بجواركل باب ، وتأخذ ثمن لبنها بعد ذلك ، وكان عازف الناى ، كلما تواجد في القرية ، يستيقظ مبكرا ًمع زقزفة العصافير وشروق أشعة الشمس ، ليرى قمر، ويستذكر معها أعذب ألحانه ،كانت تطرق باب  منزله طرقا ً 


خفيفا ً، ثم تضع إناء اللبن بجواره ، وعندما تهم بالرحيل ، كان يفاجأها بفتح الباب ، كان يقول لها ( لولاك ما عزفت لحنا ً ، قط ، ) ( قمر أنت معزوفتي الدائمة ، ولحني الخالد ) ، كان كلما جاء الي القرية ، والتقى بها ، عند الشروق ،كان يراودها عن نفسها ، فترفض ، بشدة  وتنهره ، بقسوة ، قائلة ً ( لولا انني أخشى على نفسي من كلام الناس ، لشكوتك إليهم ، إن عزفك تخشع له القلوب والأفئدة ، فأنت عازف ماهر ، فلا تعزف معي ، لحنا ً خاطئا ً ، لا يليق بعازف الناى ،الذي أبهر الملايين ) كان كلما تقول له ذلك ، يشعربالخزى ،وبضألة نفسه ، وضعف موقفه ، كانت قمر بالنسبة إليه كجبل إستعصى عليه تسلقه ، كان يشعر وكأنه تردى من على سفح جبل إسمه "قمر " ، لذلك كان يعود إلي رشده سريعا ً ، عندما يلسعه سوط كلماتها الواقعية والصادقة ، كان يتمنى لوأنه أطل من شرفة عينيها على قلبها ، أولوأنه كان تلك الدموع التي تتساقط منها عندما تبكي، لتحتضنه راحة كفها الرقيق ، كان عازف الناى يطالع الشمس بتحدي ويقول لقمر ( لو أردتي لعزفتُ  للشمس لحنا ً، لتصبح ، طوع يدك ، فتصنعي منها ضفائر تضاهي ضفائرك المدهشة ) ( ولورغبتي ، لعزفتُ ، لأشجارالحقول الممتدة أمامك بلا نهاية ، لتصبح رفيقةً لكِ ،و تبوح لك بأسرارها ،  فلا يموت كبريائك ، إلا ، مثلها، واقفة ) ( ولو شئتي ، لعزفت ُ ، لحنا ًفريدا ً ل "الليل" ، لعله يغسل سواده وعتمته ، بجزءً من بياض قلبك ، ) ( ولو شئتي لعزفت للجمادات ، ألحانا ً شجية ، بريئة ، كبراءة عينيك ، فتنفخ فيها الحياة ، وتجعلها ، وصيفات لكِ ، وأنت ملكة متوجة على مملكة الجمال الأبدي ) ( قمر ، أنت غزالي 

الشارد ، كلما حاولت أن أصطاده ، إصطادني ) تمتم عازف الناى بهذه العبارات ، كمجنون فقد عقله للتو ، وتركته قمر يهذي بهذه الكلمات ، وتابعت عملها في توزيع اللبن الطازج على بيوت أهل القرية  ، بعد عدة أيام ، غادر عازف الناى  القرية ، ليعزف في الحفلة الكبيرة التي تقيمها الدولة للإحتفال باليوم الوطني ، كان ترتيب فقرته الرابعة بين فقرات الحفل ، وعزف في تلك الحفلة ألحانا ً مدهشة ، أذهلت الحضور ، كان عندما يندمج في العزف ، يصبح إنسانا ً أخر  ،كان يصبح كفارس قادم من عصور ماضية بعيدة ،كان يحمل ألة العزف بين يديه وكأنه يحمل سيف القوة ، والقدرة ،والعزم ، وكانت ألحانه ليست مجرد ألحان ، بل كانت فتوحات خالدة ، وعظيمة ، تتخطى حاجز الزمان والمكان ، بل كانت خارج حدود الزمان والمكان ، وعندما عزف ألحانه الحزينة في تلك الحفلة، غرقت قاعة الحضور في الصمت ، والحزن ، والتشويق ، وتساقطت دموع الحضور بلا وعى ، فقد سلبت ألحانه عقولهم ، ووضعت كل فرد منهم في عالمه الخاص، وأجتر كل منهم ذكرياته ، وألامه ، وأفراحه ، وأحزانه ، كانت ألحانه قادرة على صناعة عوالم أخرى ،عوالم ممانعة ، متعددة ، يرى كل شخص فيها ، ماضيه ، وحاضره ، ومستقبله ، وصرخ أحد الحضور بلوعة ( من أين جئت أيها العازف ، لقد أمتنا إثنتين ، الأولى ،عندما عزفت لنا الفرح ، والثانية ،عندما عزفت لنا الحزن ، فمتنا من الفرح والحزن ) خرج في تلك الليلة من الإحتفال ، منتشيا ً ، فخورا ً ، فلقد طوى الزمن والأمنيات  بألحانه ، وصنع مجدا ً لم يرومه أقرانه ، وأسلافه ، وأستيقظ من غمرة الإنتشاء ، على خبر 
موت أمه ، وهووحيدها ، إنطلق مسافرا ً إلي قريته ، بلا وعى ، لم يدرك ، كم من الزمن قد مضى ، وكم قطع من المسافات ، وفي القرية ، ودع أمه ، الوداع الأخير، وأقام لها عزاء ً يليق بمكانتها في قلبه ، وبعد مُضي أسبوعين ، جائت إليه قمر قبل 

شروق أشعة الشمس ، لم تكن تحمل لبنها الطازج في يدهاذلك اليوم ، ولم يكن عازف الناى في إنتظارها كعادته ، وبعد أن طرقت باب منزله طرقاً كثيرا ً ، فتح الباب ، وظهر عازف الناى من ورائه وهوغائر العينين ، شاحب الوجه ، وبدى لون وجهه أصفر ، يحاكي لون وجوه الموتى ، طلبت لأمه الرحمة ، كما طلبتها لموتى المسلمين ، أخبرته أن أباها طردها وأمها المريضة من غرفتهما الصغيرة والحقيرة   ، وهما الأن بلا مأوى ، وأمها تصارع الموت والمرض ، ثم دخلت الي منزله ، وغلّقت الباب بسرعة، وقالت له بحزن ( لقد روادتني عن نفسي كثيرا ً ، ورفضتُ ، وأنا اليوم أقبل عرضك ،في مقابل أن تعطيني مالا ً لأعالج به أمي المريضة ، وأبحث لها عن مأوى يقيهامن حرالصيف،وبرد الشتاء ) إستل عازف الناى نايه ، ثم كسره الي نصفين بكلتا يديه ، وألقى بأجزائه من النافذة ،  ثم أخرج ، من حقيبته ، مبلغا ً كبيرا ً من المال ،ودفع به إلي "قمر "  ( إذهبي الي أمك ، عذراء كما أنت ، ولن أراودك عن نفسك بعد اليوم ،ولن أراود الألحان ، التي ، وهبتني نفسها ، لقد عزف الموت ، في قريتنا ، لحنه الخالد ، والدائم ، فهزم كل ألحاني ، إنه يعزف كل يوم ، بعيدا ً ، عنا ، ولاكننا لانكترث ، ولانصغي الي مغزى ألحانه التي تفوق كل الألحان ، عبرة ً ،وحزنا ً ، وعظة ) خرجت "قمر" من منزل عازف الناى ، وقد أدركت ، انه ، عزف  ، لحنه الأخير ، والأفضل ، والأكثر، إذهالاً  ، وتأثيرا ً، وأدركت أيضا ً أنه لأول  مرة ، يعزف عزفا ً مشتركاً ، ومؤازراً للموت .

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
اختيارات القراء
  • اليوم
  • الأسبوع
  • الشهر
  • الأكثر قراءة
  • الأكثر تعليقاً