الاربعاء 27 نوفمبر 2024 آخر تحديث: الخميس 21 نوفمبر 2024
عازف الناى - وليدالعليمي
الساعة 09:51 (الرأي برس (خاص) - أدب وثقافة)


             
بدأ عازف الناى طريقه ، بالعزف على ضفاف الأنهار، ووسط الحقول ، وعلى سفوح الجبال المجاورة لقريته ، كان عزفه فريدا ً من نوعه ، متميزا ً، كان يسحر العقول والقلوب ، كان الحزن يتدفق من بين أنغامه ، كسحابة ممطرة ، توجع قلوب مستمعيه ، وأُعجب الناس بعزفه كثيرا ً ، في بلدته ، والبلدان المجاورة ، وصعد نجمه بسرعة البرق ، وتزايدت شعبيته يوما ً بعد أخر، وخلال فترة وجيزة ، كان يتسابق لدعوته كبار القوم ليعزف أمامهم ،  في الإحتفالات الشعبية والرسمية والوطنية والخاصة ، أصبح عازف الناى هو العازف الأول ، كان يعود الي قريته التي تتوسط الحقول الخضراء ، نهاية كل أسبوع ، كان مغرما ً ب"قمر"بنت صاحب البستان الكبير في قريته ، كان والد قمر من وجاهات المنطقة ، وكان ثريا ً ، متوسط الثراء ، كان عازف الناى يطمع بعلاقته مع قمر الي أبعد الحدود ، كانت قمر على الرغم من غنى أبيها إلا انها كانت فقيرة ، وكانت تعيش مع أمها المطلقة في غرفة ضيقة في أطراف بستان والدها ، كانت تبيع اللبن لسكان القرية لتكسب قوتها وقوت أمها ، كانت تحث الخطى مع شروق شمس كل يوم ،  الي كل بيت من بيوت أهل القرية ،وكانت تترك اللبن الطازج بجواركل باب ، وتأخذ ثمن لبنها بعد ذلك ، وكان عازف الناى ، كلما تواجد في القرية ، يستيقظ مبكرا ًمع زقزفة العصافير وشروق أشعة الشمس ، ليرى قمر، ويستذكر معها أعذب ألحانه ،كانت تطرق باب  منزله طرقا ً 


خفيفا ً، ثم تضع إناء اللبن بجواره ، وعندما تهم بالرحيل ، كان يفاجأها بفتح الباب ، كان يقول لها ( لولاك ما عزفت لحنا ً ، قط ، ) ( قمر أنت معزوفتي الدائمة ، ولحني الخالد ) ، كان كلما جاء الي القرية ، والتقى بها ، عند الشروق ،كان يراودها عن نفسها ، فترفض ، بشدة  وتنهره ، بقسوة ، قائلة ً ( لولا انني أخشى على نفسي من كلام الناس ، لشكوتك إليهم ، إن عزفك تخشع له القلوب والأفئدة ، فأنت عازف ماهر ، فلا تعزف معي ، لحنا ً خاطئا ً ، لا يليق بعازف الناى ،الذي أبهر الملايين ) كان كلما تقول له ذلك ، يشعربالخزى ،وبضألة نفسه ، وضعف موقفه ، كانت قمر بالنسبة إليه كجبل إستعصى عليه تسلقه ، كان يشعر وكأنه تردى من على سفح جبل إسمه "قمر " ، لذلك كان يعود إلي رشده سريعا ً ، عندما يلسعه سوط كلماتها الواقعية والصادقة ، كان يتمنى لوأنه أطل من شرفة عينيها على قلبها ، أولوأنه كان تلك الدموع التي تتساقط منها عندما تبكي، لتحتضنه راحة كفها الرقيق ، كان عازف الناى يطالع الشمس بتحدي ويقول لقمر ( لو أردتي لعزفتُ  للشمس لحنا ً، لتصبح ، طوع يدك ، فتصنعي منها ضفائر تضاهي ضفائرك المدهشة ) ( ولورغبتي ، لعزفتُ ، لأشجارالحقول الممتدة أمامك بلا نهاية ، لتصبح رفيقةً لكِ ،و تبوح لك بأسرارها ،  فلا يموت كبريائك ، إلا ، مثلها، واقفة ) ( ولو شئتي ، لعزفت ُ ، لحنا ًفريدا ً ل "الليل" ، لعله يغسل سواده وعتمته ، بجزءً من بياض قلبك ، ) ( ولو شئتي لعزفت للجمادات ، ألحانا ً شجية ، بريئة ، كبراءة عينيك ، فتنفخ فيها الحياة ، وتجعلها ، وصيفات لكِ ، وأنت ملكة متوجة على مملكة الجمال الأبدي ) ( قمر ، أنت غزالي 

الشارد ، كلما حاولت أن أصطاده ، إصطادني ) تمتم عازف الناى بهذه العبارات ، كمجنون فقد عقله للتو ، وتركته قمر يهذي بهذه الكلمات ، وتابعت عملها في توزيع اللبن الطازج على بيوت أهل القرية  ، بعد عدة أيام ، غادر عازف الناى  القرية ، ليعزف في الحفلة الكبيرة التي تقيمها الدولة للإحتفال باليوم الوطني ، كان ترتيب فقرته الرابعة بين فقرات الحفل ، وعزف في تلك الحفلة ألحانا ً مدهشة ، أذهلت الحضور ، كان عندما يندمج في العزف ، يصبح إنسانا ً أخر  ،كان يصبح كفارس قادم من عصور ماضية بعيدة ،كان يحمل ألة العزف بين يديه وكأنه يحمل سيف القوة ، والقدرة ،والعزم ، وكانت ألحانه ليست مجرد ألحان ، بل كانت فتوحات خالدة ، وعظيمة ، تتخطى حاجز الزمان والمكان ، بل كانت خارج حدود الزمان والمكان ، وعندما عزف ألحانه الحزينة في تلك الحفلة، غرقت قاعة الحضور في الصمت ، والحزن ، والتشويق ، وتساقطت دموع الحضور بلا وعى ، فقد سلبت ألحانه عقولهم ، ووضعت كل فرد منهم في عالمه الخاص، وأجتر كل منهم ذكرياته ، وألامه ، وأفراحه ، وأحزانه ، كانت ألحانه قادرة على صناعة عوالم أخرى ،عوالم ممانعة ، متعددة ، يرى كل شخص فيها ، ماضيه ، وحاضره ، ومستقبله ، وصرخ أحد الحضور بلوعة ( من أين جئت أيها العازف ، لقد أمتنا إثنتين ، الأولى ،عندما عزفت لنا الفرح ، والثانية ،عندما عزفت لنا الحزن ، فمتنا من الفرح والحزن ) خرج في تلك الليلة من الإحتفال ، منتشيا ً ، فخورا ً ، فلقد طوى الزمن والأمنيات  بألحانه ، وصنع مجدا ً لم يرومه أقرانه ، وأسلافه ، وأستيقظ من غمرة الإنتشاء ، على خبر 
موت أمه ، وهووحيدها ، إنطلق مسافرا ً إلي قريته ، بلا وعى ، لم يدرك ، كم من الزمن قد مضى ، وكم قطع من المسافات ، وفي القرية ، ودع أمه ، الوداع الأخير، وأقام لها عزاء ً يليق بمكانتها في قلبه ، وبعد مُضي أسبوعين ، جائت إليه قمر قبل 

شروق أشعة الشمس ، لم تكن تحمل لبنها الطازج في يدهاذلك اليوم ، ولم يكن عازف الناى في إنتظارها كعادته ، وبعد أن طرقت باب منزله طرقاً كثيرا ً ، فتح الباب ، وظهر عازف الناى من ورائه وهوغائر العينين ، شاحب الوجه ، وبدى لون وجهه أصفر ، يحاكي لون وجوه الموتى ، طلبت لأمه الرحمة ، كما طلبتها لموتى المسلمين ، أخبرته أن أباها طردها وأمها المريضة من غرفتهما الصغيرة والحقيرة   ، وهما الأن بلا مأوى ، وأمها تصارع الموت والمرض ، ثم دخلت الي منزله ، وغلّقت الباب بسرعة، وقالت له بحزن ( لقد روادتني عن نفسي كثيرا ً ، ورفضتُ ، وأنا اليوم أقبل عرضك ،في مقابل أن تعطيني مالا ً لأعالج به أمي المريضة ، وأبحث لها عن مأوى يقيهامن حرالصيف،وبرد الشتاء ) إستل عازف الناى نايه ، ثم كسره الي نصفين بكلتا يديه ، وألقى بأجزائه من النافذة ،  ثم أخرج ، من حقيبته ، مبلغا ً كبيرا ً من المال ،ودفع به إلي "قمر "  ( إذهبي الي أمك ، عذراء كما أنت ، ولن أراودك عن نفسك بعد اليوم ،ولن أراود الألحان ، التي ، وهبتني نفسها ، لقد عزف الموت ، في قريتنا ، لحنه الخالد ، والدائم ، فهزم كل ألحاني ، إنه يعزف كل يوم ، بعيدا ً ، عنا ، ولاكننا لانكترث ، ولانصغي الي مغزى ألحانه التي تفوق كل الألحان ، عبرة ً ،وحزنا ً ، وعظة ) خرجت "قمر" من منزل عازف الناى ، وقد أدركت ، انه ، عزف  ، لحنه الأخير ، والأفضل ، والأكثر، إذهالاً  ، وتأثيرا ً، وأدركت أيضا ً أنه لأول  مرة ، يعزف عزفا ً مشتركاً ، ومؤازراً للموت .

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص