الأحد 22 سبتمبر 2024 آخر تحديث: السبت 14 سبتمبر 2024
قراءة في رواية (اليقطينة) للكاتب محمد مسعد - د. محمد ردمان
الساعة 15:17 (الرأي برس (خاص) - أدب وثقافة)

 


الانتماء النوعي: 
أثبتت الرواية الواقعية خلال مسيرتها الطويلة التي تزيد عن قرنيين من تاريخها أنها أكثر الأنواع الروائية انفتاحا على التجدد والتطور بنية وتقنيات ومنظورا سرديا، الأمر الذي ساعدها على الاستمرارية والتجديد في مختلف العصور، فقد تنقلت من الطبيعية إلى الواقعية الاجتماعية والواقعية الاشتراكية إلى الواقعية السحرية. والرواية العربية بوصفها جزء من الرواية العالمية ظلت وفية للاتجاه الواقعي، بسبب انشغالات الكاتب بهواجسه الفكرية والسياسية والاجتماعية، وحين يقول جورج لوكاتش "كل الوان الكتابة الروائية يجب أن تتضمن قدرا من الواقعية نعتقد معه مايعتقده"()، مما يعني أن الواقعية ارتبطت بالفن " ، وهذا هو السبب الذي يفسر" كيف أن الفن يحرك مشاعر مشاهديه تحريكا عميقا فهو يثير فيهم مشاعر القربي والحياة التي يشترك فيها الجميع . إن الفن يجسد الحياة الانفعالية التي تبدأ من الشعور بنمو الإنسان وتطوره وهو يتغلب على العقبات ولما كان الإنسان قد بث في محتوى الفن الذي هو تفكير في الحياة شكلا موضوعيا فإن الفن يصبح عاملا فعالا في الحياة الاجتماعية .. أنه يصبح جزءا من تربية المجتمع "() . ورواية الكاتب اليمني محمد مسعد العودي (اليقطينة) التي صدرت في فبراير 2016م من الروايات التي اتخذت منحى واقعيا في سرد الأحداث، حيث انطلقت في أحداثها من الخاص إلى العام، لقد اتخذ الكاتب من سرد الشخصية مجالا للإمساك بكلية المواضيع.
********
 

العنوان: 
يعد العنوان البؤرة المركزية لفهم النص، وموجه دلالي للقارئ يسهم في الكشف عن طبيعة النص وفك غموضه، فماذا أراد الكاتب باليقطينة؟ وعلى أي أساس اختاره؟،وهل استطاع هذا العنوان الإحاطة بالمحمولات الدلالية في النص؟ جاء في معجم المعاني أن اليقطين مالا ساق له كالقِثَّاء والبِطِّيخ، وغلب على القرع. وفي لسان العرب: اليَقْطِين كل شجر لا يقوم على ساق نحو الدبّاء والقَرْع والبطيخ والحنظل، ويَقْطِينُ اسم رجل منه، واليَقْطِينة القَرْعة الرَّطبة، واليَقطين شجر القرْع، وورد ذكر اليقطين في القرآن الكريم في سورة(الصافات) مرة واحدة قال تعالى: « وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (139) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (140) فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (141) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (142) فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144) فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (145) وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (146)». وتشير الرواية إلى أن شجرة اليقطينة ارتبطت بحكاية عامر وتاج على وفق الأسطورة اليمنية القديمة، إذ إنّ عامر دفن أخته تاج في بئر بسبب وشاية زوجته التي ادعت أن تاج ارتكبت خطيئة مع أحد الشبان، فنبتت شجرة اليقطينة في المكان الذي دفنت فيه تاج، فعادت إلى الحياة من إحدى ثمارها.ص115. وعلى هذا الأساس فالعنوان بمرجعيته الدينية والأسطورية يحمل دلالة العودة إلى الحياة، والكاتب إذ اختار هذا العنوان إنما أراد أن يبث الأمل باستمرارية الحياة، رغم الدمار والقتل الذي خلفته الصراعات على السلطة في هذا البلد العريق.
***
 

أحداث الرواية:
تبدأ أحداث الرواية من ساحة التغيير في صنعاء، وذلك أثناء ثورة الشباب السلمية عام 2011م، فقد كان السارد أحد المشاركين في ساحات النضال السلمي، وفي هذا الفضاء تتبدى المفارقة عند السارد وتثار الأسئلة عن عجز هذه الثورات في تحقيق أهدافها في اليمن وليبيا وسوريا في زمن الربيع العربي، فهو ربيع ولكنه مصحوب بالخيبات والانتكاسات. فما مقصدية الكاتب من هذه الواقعية التسجيلية التي يفتتح بها أحداث الرواية، هل هي مجرد استهلال أراد منها الكاتب الولوج إلى عالم الرواية، أم هي تحمل دلالات أخرى وهل كانت إجابته على لسان السارد عن ((مؤامرة دولية تحول دون وصول هذه الثورات إلى غايتها)) مستندة على الوعي الجمعي السائد عن نظرية المؤامرة؟ ثم يقدم السارد عددا من الأسباب التي وقفت عائقا دون الوصول إلى الغاية المرجوة. ربما أراد الكاتب أن يثير قضايا الثورات إحدى القضايا البارزة على السطح التي أحدثت خلخلة في بنيان النظام العربي المستبد ثم وقفت في منتصف الطريق لم تستطع أن تحقق أهدافها في أحيان كثيرة. هكذا يبدأ السارد من لحظة قائمة في الحاضر، لينطلق إلى الماضي.
 

 

تدرجت أحداث الرواية، على لسان السارد المشارك (علي) الشخصية المحورية في الرواية التي تتمحور حولها الأحداث. بدءا من وصف حالة أمه(خديجة) في الحاضر بعد أن صارت عجوزا لا تقوى على شيء، وإزاء هذا الوضع الذي وصلت إليه الأم ينقلنا السارد إلى استرجاع جزء من حياته الماضية مع أمه عندما كان طفلا في سن الرابعة عشرة، والهدف من هذا هو تنوير القارئ بحياة الشخصية السابقة (الأم)، وعبرها ينفذ إلى ارتباطها بالأب(سعيد) الذي ترك قريته في ذمار، واستقر في قرية (العقلة) الحدودية التي تقع شمال مدينة الضالع وتحيط بها جبال (مريس) موطن الأم، والفضاء الذي ستنطلق منه أحداث الرواية، وفي خضم الأحداث الماضية عن علاقة (علي) السارد بأمه، تظهر هذه الأم بقوتها وحيويتها وجمالها وارتباطها بسعيد الذماري، ومقاومتها للإغراءات التي حاولت أن تصدها عن حبها ووفائها لزوجها، كحكايتها مع (مرعي) ابن قريتها الذي حاول كثيرا أن يفوز بحبها، ولم يستطع، حتى أنه أراد في إحدى الليالي أن ينال من تلك الأم مبتغاه في ظل غياب زوجها الذي انشغل بالنضال ضد الاستعمار البريطاني ولكنها صدته. هكذا يتدرج السارد من الخاص إلى العام، ويستمر في سرد الأحداث القديمة في خط تصاعدي مذ كان طفلا في العاشرة، وخلال هذه الفترات الزمنية يستعرض الأحداث والمتغيرات التي جدت في الساحة منذ ثورة 14أكتوبر حيث كان أبوه أحد المشاركين فيها، ويشير إلى حدوث متغيرات في حياته وانتقاله إلى عدن بعد أن أصبح أبوه وكيلا لوزارة الثقافة في الدولة الجنوبية وهناك يلتقي ببنت عمه (سمية) القادمة من محافظة ذمار الشمالية وتربطه بها علاقة حب وهنا يصبح (علي) في حيرة من أمره وذلك بين حبه القديم لسهى التي ارتبطت بوجدانه منذ الطفولة وحبه الجديد لبنت عمه،(( لا أستطيع أقول إني سأنسى سمية ولست بقادر على أن أضحي بإحداهن على حساب الأخرى...لو استطعت جمعهما في واحدة سأسميها سهية))ص102، ولكن فجأة ينقلنا السارد إلى تغير في الموقف وذلك حين يصحو (علي) ذات يوم ليفاجأ بسفر بنت عمه مع أبيها إلى ذمار، ثم يخطف القدر (سهى) في اليوم الثاني من زواجها بطلقة نارية، وإزاء هذه الفاجعة المؤلمة تظهر شخصية(جبار) شقيق علي الذي كان مهاجرا في أمريكا، فيحدث تحولا في الموقف، إذ يسافر (علي) إلى أمريكا مع أخيه (جبار)، وهناك تجمعه الأقدار بسمية التي تصبح باسم سهية((سهية لا تلغي سمية بل تدمج سهى إلى جانبها)) ص305. التي سافرت هي الأخرى بعد زواجها إلى أمريكا، وهناك يتضح لها أن زوجها خنثى، فتتركه وتتزوج بعلي ويرزقان بثلاثة أطفال ويقرران أن يعودا إلى الوطن((لقد جمعنا نقودا كثيرة ولدينا تجارتنا في جبن سننقلها إلى الضالع أو عدن))ص306. ويعودان بعد ذلك إلى عدن ويلتحق علي بجامعة عدن، وتكون الفاجعة الثانية حين تقتل سمية هي وأطفالها بقذيفة طائشة في صيف حرب 1994م.
************
 

 

بين التاريخي والأدبي:
إنّ أحد القوانين الرئيسة للواقعية هو ما تطلق عليه في نظرياتها(النمذجة، التنميط) ومن خلال النمذجة يتم التقاط (خبث الواقع) على وفق لوكاش أو (القيم تاريخيا) على وفق بريخت أو كما يسميه لينين (شيطانية الواقع) . في رواية اليقطينة لا نجد تلك النمذجة بالصيغة المشار إليها، فالواقعية تكشف عن نفسها من دون ذلك، إذ قدمت الرواية في إحدى وجوهها صورا لذلك الواقع المشين الذي تمثل في تلك اللمحات الواقعية التي تجلت في الرواية التي يمكن تلخيصها في الإسقاطات التي كان يرمى إليها الكتاب من وراء هذه العمل، المتمثل في الحروب العبثية والدمار والقتل الذي خلفته الصراعات على السلطة على مدار نصف القرن الماضي، والتي كان لها انعكاساتها السلبية على حياة الناس ووقفت عائقا أمام طموحاتهم، فدفعتهم إلى الهجرة خارج الوطن، وهناك يحققون ما لم يستطيعوا أن يحققوه في الوطن، و الكاتب إذ يضع عينه على تلك القضايا، إنما أراد أن يؤسس لغد مشرق خال من تلك النزعات التسلطية، وتلك الأيدلوجيات المصحوبة بالتعصب التي أفقدت الإنسان العيش الكريم. وعلى هذا النحو هل يمكن أن نعد (اليقطينة) رواية عن السلطة المستبدة التي أغرقت البلاد بحروبها العبثية، وأقامت تحالفات هنا وهناك للنيل من خصومها الأمر الذي خلق توازنات مجتمعية، جعل ثورة التغيير تقف في منتصف الطريق عاجزة عن تحقيق أهدافها؟ أم مُسألة تاريخية أراد الكاتب منها مواجهة الذاكرة اليمنية الراهنة بتاريخ قريب محرضا القارئ على قراءة حاضره في ماضيه، فلم يقبل الكاتب بما جاء به مؤرخ السلطة المحاصر بمنافعها، خصوصا إذا عرفنا أن الكاتب قد عايش كثيرا من الأحداث، فأراد أن يقيم تناظرا بين التاريخي والأدبي، فهو يسرد أحيانا وقائع تاريخية، ثم ينتقل إلى السرد المتخيل، وفي خضم هذه السرود تظهر حكايات الحب السائدة(بين خديجة وسعيد، وبين علي وسهى أو سمية) في إشارة إلى استمرارية الحياة رغم عوائق السلطات المستبدة على مدار العقود الماضية، فوسط الحروب العبثية وحالة الاستبداد والفوضى يحاول الإنسان البحث عن حياة هادئة تقيه هذا العبث والدمار، لذلك كان الحب في الرواية تعبيرا عن إنسانية الإنسان(( ذلك هو التعبير الأرقى عما أحس به من فرح وحرية معا.. أريد أن أتحرر من هذه المدينة التي قيدت حريتي وأعجزتني عن التعبير.. التعبير مهم مثل الماء والهواء.. وما هذه السعادة التي أحس بها الأن إلا لأني استطعت أن أعبر عن بعض مشاعري، وأظهر قدراتي تجاه المرأة المختلفة)) ص44. وتماشيا مع هذا الواقع حاول الكاتب أن يخلق شخصيات قوية تواجه هذا الواقع المدمر المصحوب بالانكسارات النفسية.
 

 

يمكن القول أن الرواية في بعض وجوهها تقدم الأحداث كما هي في الواقع بطريقة مباشرة لتصوير فضاعة هذا الواقع و فضاضته المأساوية باستعمال أسلوب سردي تقريري، إذ تكشف عن الواقع السياسي الذي طرأ بعد الاستقلال خصوصا بعد وصول اليسار الماركسي إلى السلطة((هذه المذكرات خطيرة إذا عرف بها أحد أعضاء الحزب سيدخل أبي السجن.. لقد شتم فيها قيادات في الجبهة القومية وشتم فيها الاشتراكية)) ص218 وتشير إلى تشكل الجبهة الوطنية تحت رعاية جنوبية وكيف ظلت تقارع النظام في الشمال، ولأن أحداث الرواية تدور في معظمها في تلك المنطقة الحدودية(قرية العقلة) في محافظة الضالع الجنوبية، فقد شهدت ذلك الصراع، حيث كانت منطقة العبور إلى المناطق الشمالية المجاورة والسارد يستعرض تلك الأحداث في بعض الأحيان بشيء من المرارة والألم، نظرا لسلوك بعض أفراد الجبهة الوطنية((مجموعة من المسلحين يقتادون رجلا معصوب العينيين.. تجمدنا في مكاننا وهم يقدمون له الإهانات: عميل رجعي مرتزق، ومن خلال هذه التعابير عرفنا أنهم من عناصر الجبهة الوطنية في شمال الوطن تقدموا به إلى حافة الهاوية وفكوا عصابه وقالوا له اقفز))ص79 .كما تستعرض الرواية الأحداث الكبرى التي عصفت بالبلد خصوصا أحداث يناير 1986م وما خلفته من ضحايا بسبب الصراع على السلطة((في 13 يناير انفجر الموقف جاء أعضاء الحزب ليبلغوا الناس أن الموقف انفجر في عدن تجمع الناس في النادي الثقافي ذهبنا أنا وأبي معاهم وأخذنا نتابع الإذاعة بيان هام بيان هام... لقد حاولت بعض قوى اليسار الانتهازي بالتحرك والانقلاب على النظام الاشتراكي التقدمي))ص251. وهكذا حاولت الرواية أن ترصد الأحداث التي مرت بها البلاد في النصف الأخير من القرن الماضي إلى مطلع القرن الحالي، وهي أحداث ارتبطت بحياة (علي) الشخصية المحورية في الرواية التي أخذت على عاتقها رواية الأحداث، وقد تداخل فيها السياسي والاجتماعي الذي صاحب شخصية (علي) منذ أن كان طفلا في سن العاشرة وتدرجه في التعليم إلى أن أصبح شابا ناضجا حاصلا على شهادة الدكتوراه في الأدب ومشاركته في ثورة الشباب في عام 2011م ثم الحوار الوطني، وعلى هذا الأساس حاول الكاتب على لسان السارد- الذي يعد ساردا مشاركا والشخصية المحورية في الوقت نفسه التي تدور حولها الأحداث- أن يقدم رؤيته عن الأوضاع السياسية والاجتماعية التي حدثت على مدار نصف قرن ويزيد، مستفيدا من مخزونه التاريخي والثقافي والمعرفي، ولم تخلو الرواية من التأملات الفكرية وتحليل بعض المواقف النفسية. 
*********
 

 

حركة الأحداث في الزمان والمكان: 
قدمت الرواية سرداً لأحداث وأزمنة وأماكن متعددة، (تحالف السلاطين مع الإنجليز في الجنوب، صراع الجبهة القومية مع جبهة التحرير، صراعات الجبهة الوطنية مع النظام في الشمال، الصراعات على السلطة في الجنوب والتي أفضت إلى أحداث يناير الدموية، ثم حرب 94م) هذه الأحداث بأزمنتها المتعددة، كانت تعبيرا عن زمن خارجي تصاعدي طارئ، حيث اللحظة التاريخية كانت مؤاتية لتأسيس الدولة الوطنية، وهو ما لم يتحقق، ولكن تلك الأحداث المأسوية التي فقدَ (علي) فيها أسرته لم تثنه عن الأمل بغد مشرق، هذا الأمر يفسر لنا ظهوره بداية الرواية مشاركا في ثورة التغيير عام 2011م. إنّ هذه الحركة الدائرية المتعددة في الأماكن(العقلة، المعزبة، عدن، أمريكا، صنعاء) ثم العودة إلى العقلة ثم الهجرة إلى أمريكا ثم العودة إلى عدن تشير دلاليا إلى شدة التعلق بالمكان المعبر عن الهوية((كيفما كان هو وطني.. إنه ذاكرتي)) ص306.
********
 

تعدد الأصوات السردية:
تحضر في الرواية فاعلية الأصوات السردية، فإلى جانب صوت الرواي الذي يأتي مشاركا والشخصية التي تتمحور حولها الأحداث(علي)، هناك أصوات سردية كان لها استقلالية و لعبت دورا في الحكي بدءا من الأم خديجة التي ظهرت نموذجا للمرأة الريفية الصلبة التي جابهت الظروف والتحديات واختارت شريك حياتها عن حب وانجبت منه أولادها علي، وسميرة ،وسمير، وجبار، ثم الأب سعيد الذماري القادم من ذمار إلى العقلة للعمل في الأرض واندماجه في مجتمع العقلة حتى صار أحد أبنائها والتحق بالنضال ضد الاستعمار البريطاني، ودخل دورات في التثقيف الحزبي، حتى صار بعد ذلك وكيلا لوزارة الثقافة، وتأتي شخصية مرعي الذي مثل شخصية الرجل الانتهازي الذي مثل تحديا لخديجة وسعيد للحيلولة دون تحقق حلم الحب، وتحضر أصوات سردية مثل سهى وسميرة وسمية وهي أصوات قامت بدور حيوي في مفاصل الأحداث ولم تظهر هذه الشخصيات النسوية بمظهر تلك المرأة الريفية الفاقدة لإرادتها، ولكن ظهرت نموذجا للمرأة الواعية القادرة على اتخاذ قرارها واختيار شريك حياتها، وكأنما الكاتب أراد أن يصحح تلك الصورة النمطية السائدة عن المرأة الريفية الجاهلة الخاضعة لإرادة الأهل المسلوبة الإرادة. وتحضر في الرواية شخصية مقيبل الدجال الذي يقوم بأعمال السحر والشعوذة، وعبر هذه الشخصية أراد الكاتب أن يقدم صورة لمجتمع القرية القائم على الخرافات والشعوذة، وهي ظاهرة اجتماعية مترسخة في الوعي الجمعي للناس، وهناك أصوات سردية كثيرة تظهر مع الأحداث بعضها أدت دورا في موقف معين وبعضها لم يكن لها فاعلية سرية، لقد أراد الكاتب أن يخلق مجتمعا متساو بين المرأة والرجل من ناحية، ومن ناحية أخرى مجتمع يتساوى جميع أفراده بعيدا عن التمييز المناطقي والعصبوي، وذلك ردا على الواقع المدمر للمساواة.
ولا شك أن شخصيات مثل: علي عنتر، صالح مصلح، علي شائع، محسن ناجي، قايد صالح شخصيات حقيقية تحضر في الرواية، الأمر الذي يشي أن النص التزم بالميثاق المرجعي في إنتاج التطابق بين المحفل السردي الداخلي وما يعادله في الواقع الخارجي. هذه الإشارات المرجعية التي تحضر بداية الرواية (ص37)، على لسان (علي) هي تعبير دلالي مكثف عن بدء تشكل الوعي الوطني، وتشكيل الخلايا المسلحة التي أخذت على عاتقها مهمة النضال ضد الاستعمار البريطاني، إذ إنّ (علي) الطفل ابن العشر سنوات الذي عايش هذه الواقعة في بيته(اجتماع هؤلاء المناضلين) تبادرت إلى ذهنه بطولات علي بن أبي طالب والمقداد والزير سالم، وأبو زيد الهلالي(( خرجوا وبقيت اختصر الزمن الأكبر بسرعة وأحمل بندقية وجعبة وجاكيت منتفخ وجزمة عسكرية لها نفس الرائحة التي تركوها في بيتنا ومضوا في حال سبيلهم، بدأت أحلم بالنضال لا من أجل تحرير الوطن ولكن من أجل أن أكون بطلا)) ص38،واضح هنا تدرج وعي الشخصية في رغباتها وميولها ودوافعها وطريقة تعبيرها، والكاتب إنما يلجأ إلى ذلك من باب خلق وعي مطابق لشخصياته.

****** 
 

فتنة اللغة الشعرية : 
واضح ولع الكاتب باللغة الشعرية التي تسربت من الشعر إلى الرواية، وسنلمس ذلك في المشاهد الوصفية البديعة التي تتخلل الرواية مثل قول السارد يصف القرية: (( قريتنا من بعد المغرب تغرق في الظلام.. تغرق في الصمت.. تغرق في محيط السكون إلا من نباح الكلاب أو أصوات الليل وحركة الحيوانات أو مواء القطط في لحظات شبقها الجنسي... قريتنا من بُعيد المغرب تدخل تابوت مرقدها حتى تستفيق على نفخة بعثها من فم الصباح))ص12. وقوله ((نظرت إلى المرآة وهي نائمة على بطنها حزنا لفراق سهى.. عدلتها كي تشرب من ضوء القمر.. سأهدي ذلك لروح سهى.. روح سهى هنا ليست في كان آخر ..أحس أنها قريبة مني .. قطعة من كبد القمر أنسب للأرواح من كبد الشمس)) ص276. أو كقوله على لسان سعيد يصف غرفة الدجال((كان الدجال يجلس على دكة مرتفعة تحته فُرش سملة وخرق متعددة وخلفه أواني مغلقة.. بعضها زجاجي وبعضها معدني فيها مساحيق مختلفة الألوان.. والبخور يتصاعد جزء منه يخرج من الشجج والجزء الأخر تقبض عليه شبكات العنكبوت التي تملأ السقف)) ص165, أو ما يجري في بيت الدجال (( البخور يتلوى داخل المكان والعطر يغازل أنوفنا.. من أين يأتي بهذه العطور الغريبة.. قامت زوجته حين بدأ النغم بالتسارع جرّت صفية من معصمها فأوقفتها على قدمها.. جثت الملعونة على كبتيها وأدخلت يديها تحت فستان صفية وسحبت سروالها الطويل الأبيض الذي يمتد تحت الخاصرة حتى أدنى القدمين حيث يضيق هناك)) ص173.واضح في المشهد الثاني الذي جاء على لسان سعيد ما قام به الكاتب من تسريب الصور المجازية على لسان سعيد(البخور يتلوى، والعطر يغازل أنوفنا).هذه اللغة الفنية البديعة تجعل القارئ يتفاعل مع التفاصيل البالغة الإثارة والجمال. ولكن الواقع يقول لا يمكن لشخص عادي مثل سعيد أن يأتي بهذه الصور المجازية البديعة، هذا الأمر سيظهر للقارئ من خلال تتبع الشخصية في الرواية، وهل استطاع الكاتب تحقيق التوازن بين الوظيفة الشعرية والوظيفة الإخبارية الإشارية للجملة؟. فالمتتبع للشخصيات في الرواية سيلاحظ عناية الكاتب بشخصياته، فهي لا تظهر من خلال سرد الشخصية، ولكن يتم من خلال المشهد السردي، فسعيد القادم من ذمار يكشف عن نفسه في سياق المشاهد السردية، فقد تخرج من (المدرسة الشمسية) التي تعلم فيها الفقه والنحو والصرف والأدب، وكان زميلا للشاعر عبدالله البردوني، وبعد انتقاله إلى قرية(العقلة) ثم إلى (عدن) سنجد هذا التغيير في المكان يترك أثاره على الشخصية. 

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
اختيارات القراء
  • اليوم
  • الأسبوع
  • الشهر
  • الأكثر قراءة
  • الأكثر تعليقاً