الأحد 22 سبتمبر 2024 آخر تحديث: السبت 14 سبتمبر 2024
فن السرد الحر - جمال حسن
الساعة 10:14 (الرأي برس - أدب وثقافة)

 

البعض يعتقد أن الرواية لا تكتمل دون الشخصية، أو الوصف. يرى في الرواية فناً مكافئاً لمعيار المكان أو الواقع. إن لم ير فيها وجوهاً، أو يعثر على حبكة منطقية في تسلسل الأحداث، فلن تكون رواية. هنا تصبح مجرد ظاهرة وصفية، أو محاكاة طبيعية لما نراه في الواقع. 
 

لكن ما الذي يجعلنا نرى في أعمال بيكاسو فناً رفيعاً؟ رغم أنها لا تلتفت لتصوير الواقع إلا عبر تدميره. يتحقق الفن ضمن معيار آخر. خلق عالم متفجر ليس مرتبطاً بنسق كلي، أو باعتباره جزءاً لا يتجزأ مما سبقه أو سيتبعه.
 

في الرواية التي ليست مأخوذة بالجانب الوصفي يتحقق هذا الخلط اللعبي غير المنساق لحبكة مقلدة، أو القائم على درجة تطابقه مع الواقع الظاهر. معيار الحقيقة الفنية يتشكل في عالم آخر، أكثر نسبية، ولعله ملتصق بأبعاد وجودية أعمق. فتكون الرواية مسرحاً متأملاً لعوالم متداخلة وغير مستسلمة لمنطق العقدة. الرواية أيضاً قد تصبح اختلاقاً متحذلقاً لعدد من الحكايات المدمجة، والمتوالدة. سنسأل أنفسنا لماذا بيكاسو أصبح أحد فناني التصوير العظماء، مع أنه لا يتقيد بحقيقة الأشكال. لقد ابتكر أيضاً طريقة تتمسرح فيها الألوان بصورة تجعل العالم أكثر تعددية.
 

ومع الرواية يمكن اختلاق ذلك من دون الالتصاق بمنطق القرن التاسع عشر. أي الحبكة المستمرة بالتوالد المتسلسل. والسرد بحسب رولان بارت: دوره توصيل الحقيقة إلى نقطة ما، وأن ينتزع من الأزمان المعاشة المتعددة والمتراكبة، حدثاً لفظياً صرفاً، يجتث التجربة الوجودية من جذورها. 
وهكذا يبني السرد روابط منطقية من وقائع ومواضيع تؤلف حركة عالم بسيط أو نسق تراتبي، كما يرى. وبصرف النظر عن قناعتنا بتنظيرات ما بعد الحداثة، فإن الرواية أو الأدب، بناء متغير ومتجدد مدفوع بالحلم والعنفوان. والرواية التي تولد ليست محكومة فقط بنقد يؤسس نفسه على معادلات نمطية، بل تبحث عن أرض الخيال الجامح.

 

بالنسبة لميلان كونديرا توقفت الرواية عند شكلها الحداثي، ولا تعني تصوراتُ ما بعد الحداثة الكثير. لكن هل يقتصر معيار الرواية على نظريات الحداثة أو ما بعد الحداثة أو حتى ضمن صرامة السرد؟ ربما أنتج لنا القرن العشرون مبالغات في الجوانب المختبرية، لأنه قرن الاختراعات المدهش. تحول العمل الفني، بالنسبة للبعض، محتجزاً بحقل التجريب المبهور بالابتكارات.

كل كاتب هو تجسيد لشخصية عصره، لأنه من المثير للسخرية الكتابة بأسلوب كاتب يكون قد انعقد حوله ما يشبه اتفاقاً عاماً.
عندما قرأ فرويد رواية سيلين "رحلة في آخر الليل" قال: إنني ارتجي من الفن شيئاً آخر غير الواقعية. أي أن ميدان الواقع ليس مهمة الفن الخالصة. مع هذا سنعتقد أن ديستوفيسكي وبلزاك قدما لنا الواقع كما هو، ليس الأمر كذلك. وإن صدقنا أعمالهم لا نطالبها بالتطابق الدقيق مع العالم، لكن بما تدعنا نتصور أنه العالم. فالواقعية التي ابتكرتها رواية القرن التاسع عشر، هي شيء تميزه مخيلة صارمة، ولا يعني ذلك إدانة لسيلين وعمله. لأن الفن قد يكون استعداداً لسرد واقع ما، تبتكره اللغة.
سنجد أنفسنا في المقابل نتواجد داخل شعاب واسعة من الفن الروائي. فإن كُتبت رواية دون أن تأبه لشكل شخوصها، أو وصف المكان، قد تكون منشغلة ببعث أصوات أخرى. أو بصورة أكثر دقة، كل رواية مأخوذة بغايتها الفنية. ليس لأن الفنان لا يسعه أو لا يعرف كيف يخلق شخصية أو حبكة واقعية.

 

الخدوش التي تحدث ضد صرامة التقاليد، والتي قد تصبح ثورية، تأتي من لحظات عميقة لدى الفنان. ليس لأن بيكاسو لا يستطيع إعادة رسم الواقع كما هو. ربما هو أيضاً لا يستطيع، نتيجة رؤيته الخاصة، نتيجة عدم اكتراثه بما يجب أن تمليه شروط الآباء. الفن خرقٌ لأي وصاية.
لا يعجز الفنان أو الروائي عن كتابة عمل سردي، يتسم بالتسلسل الموضوعي للأحداث، أو العقلاني. بل أي نوع من الرواية يريد أن يكتب، وتطورت حوله شخصيته؟ ففي الرواية السردية تتشكل أصوات إنسانية ما، لكنها في أسلوب آخر تتوصل إلى أصوات يصعب على السرد بعثها. ولهذا ظهرت أساليب مثل تيار الوعي. فكان المونولوج كشفاً لأصوات دفينة، وكان تحطيم السرد ميلاد خلق فني مغاير.

 

وفي عصرنا تمتلك الرواية ثروة متنوعة من بعث أحلام جديدة، وواقع لا يجب أن نخلق معياره في الأصل، بل في إنتاج أصالته التي لا تتنكر لماضيها الفني إلا من باب تحقيق شخصيتها أو ميزتها. لا يأبه الفنان أن يكون مقبولاً من فئة معينة تحتكر تقييم الأدب، أو الفن، ضمن معايير متعارفة.
كثيرون عابوا بيتهوفن عدمَ قدرته كتابة عمل موسيقي متعدد الأصوات (بوليفوني) وخصوصاً ألحان الـ"فوغ" المتميزة بصرامتها التركيبية. وهو بالفعل ما عاناه حين كتابة قداس، حد أنه طرد خادمتيه، بعد أن ظل يسجل النوتات لعدة ساعات طويلة دون جدوى. وفي صباح اليوم التالي وجدوه بحالة يرثى لها، جائعاً ورثّ الملابس. لكنه بعد ثلاث سنوات يكتب قداسه. وفي الحركة الثانية من السوناتا 32 يضع لحناً متعدد الأصوات مبهراً. وبتصور توماس مان لحظة كمال للحن الفوغ. وضع بيتهوفن ألحاناً متعددة الأصوات في السوناتات: 23، 28، 29، 30، وفي الحركة الثالثة من السيمفونية التاسعة، كما وضعها في رباعيته الأخيرة رقم 15 والمصنفة 125. مع هذا، لم تكن ألحانه للفوغ بنفس صرامة سابقيه.

 

كان موزارت يضع ألحان الفوغ بسلاسة ودون إنهاك ذهني كالذي وجده بيتهوفن. ذلك على علاقة أيضاً بشخصية عصر استباحت العاطفة فيه الموسيقى؛ عصر الرومانتيكية المرهوب من هيمنة ثقافة ارستقراطية مفتونة بالضوابط. سيعود سترافنسكي إلى ضوابط الكلاسيكية، أو ما اعتبروه كلاسيكية جديدة. غير أنه كان شديد الموضوعية، ومتهرباً من أي نزوع عاطفي. هل ندرك لماذا ظهر الشعر النثري؟ كان نتاج بحثٍ عن مساحات قيدتها التفعيلة، وأخفقت فيها الأوزان والسجوع.
 

هل نستطيع كتابة رواية دون نظريات سرد؟ يمكن ذلك، لكن أصالة الرواية تعبّر عن ذاتها، بما تنسجه من نصوص إدهاش، وليس لتصبح فضاء تطفّلٍ لكتابات رديئة. والجمهور ماذا سيرى؟ كل رواية تخلق قارئها الخاص، ليست مأخوذة بالكمّ، ليسوا قراء ثابتين، بل قراء يشاركونها هم ولادتها. ومع إبهارها تتولد نظريات سرد جديدة.
يمكن أن تكون حقيقة: الرواية تسبق نظريات السرد، لا العكس.


 
* كاتب من اليمن

منقول من ضفة ثانية

 

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
اختيارات القراء
  • اليوم
  • الأسبوع
  • الشهر
  • الأكثر قراءة
  • الأكثر تعليقاً