الاثنين 23 سبتمبر 2024 آخر تحديث: السبت 14 سبتمبر 2024
أن تكتب "لوليتا" في صنعاء جدل الروح والجسد في رواية "حُرمة" - رياض حمَّادي
الساعة 16:58 (الرأي برس - أدب وثقافة)


 

في رواية “حرمة”، لعلي المقري الصادرة عن دار الساقي 2012، تحضر الصفة ويغيب الاسم عن شخصيتها الرئيسية. استخدام الصفة “حرمة” له دلالة رمزية تفتح باباً للتنميط والتعميم. أما أختها “لولا” فأصلها “لو” رُكِّبت مع “لا”. وهي حرف يدل على امتناع شيء لوجود غيره – الثقافة الذكورية.

و“لولا” تأخذ من وظائف اسمها في العربية الحض والحثّ، وخلافاً لوظيفتها في اللغة تمارس “لولا” دوراً لا يستجيب للتوبيخ ولا يستسلم للندم ولا يحن للماضي. كما تتمرد على معنى اسمها في الإسبانية LOLA: الذي يعنى الأحزان والأسى، فتصدح بضحكاتها الصاخبة التي لا تعكس بالضرورة سعادتها بقدر ما تعكس تمردها. وهنا لا ننسى أن اسم “لولا” هو أحد أسماء “لوليتا” عند فلاديمير نابوكوف في أيقونته “لوليتا” التي تشترك مع رواية “حرمة” في موضوع الجنس. ومثل “لوليتا”، تحاول “لولا”، بتمردها على الواقع ولو سراً، الفرار من عبودية الواقع المفروض عليها، بالبحث عن جيوب صغيرة للحرية. الحرية إذاً هي موضوع الرواية وما الجنس سوى مظهر لجوهر الحرية أو عرض لمرض الكبت. 
 

يقول كارلوس ليسكانو “إن على رواية ما ألاّ تقدم حكاية فحسب، وإنما أن تقترح ما هو جديد في فن الرواية”، ويضيف في مكان آخر من كتابه “الكاتب والآخر” أن “الأدب اليوم هو الواقع”. فإذا كان المقري قد التزم بعنصر الواقعية في هذه الرواية فما هو جديده ؟
“عندما أهداها جارها سهيل أغنية”سلوا قلبي“لأم كلثوم، لم تسمعها لاعتقادها أن الغناء حرام. وحين سمعتها بعد مضي سنوات، اكتشفت أنها أغنية مديح للنبي محمد”. 

 

المقطع السابق من الرواية يصلح وصفاً للرواية ذاتها التي أُسيء فهمها. من جهتي أرى أن مضمون الرواية وجديدها هو الانفصام بين الحياة في السر والحياة في العلن، بين الظاهر والباطن، ويتم من خلال الانتقال من أبيات “سلوا قلبي” - الأغنية الروحية في مديح النبي - إلى سرد مشاهد الجنس في الرواية. محاولة المزج بين الروح والجسد أو جدلهما هو الجديد ويتم من خلال هذه النقلات ليظهر الانفصام بين حياة الروح، المبثوثة في أبيات القصيدة/الأغنية، وحياة الجسد، المبثوثة في المشاهد الجنسية التي تبثها أشرطة الجنس وأحاديث “لولا”.
 

النقلة المعرفية التي أحدثتها “حرمة” – في فهمها لمدلول أغنية “سلوا قلبي” - تتخذ لها شكلاً آخر أو بعداً موازياً يتمثل في النقلة من السرد الجسدي إلى المناجاة الروحية لأبيات القصيدة/الأغنية. وهناك نقلة أخرى في سياق التاريخ، تريد أن تختبره الرواية، من اعتبار الجنس المكتوب عملاً إباحياً إلى اعتباره عملاً فنياً.
 

هناك نقلة أخرى، أو تحول اعتبرته الكاتبة التونسية سهام القشوري مفاجِئ وغير منطقي. وهو تحول عبد الرقيب (أخ حرمة و لولا) من الماركسية والتحرر والانفتاح، عندما كان عازباً، إلى الجماعات الإسلامية والتطرف والغيرة، بعد زواجه من نورا. 
أرى أن هذا التحول لم يكن مفاجئاً بدلالة أولى نستمدها من اسم “رقيب” الذي مهد لهذا التحول. كما أنها نقلة مفهومة في سياق حياة المجتمعات العربية المحافظة، وتكاد تتكرر مع حياة معظم الشباب العربي قبل وبعد الزواج، وتشير إلى انقلاب في الفكر المصاحب للملكية في عملية اختزال للفكر البشري الذي حوله الاستقرار والزواج إلى فرد غيور على ملكيته الخاصة – الزوجة والأرض، وفي إشارة إلى مفهوم الزواج عند كثير من الشباب. 

 

التحولات النفسية قد تكون مفاجئة، لكنها قابلة للفهم في سياق العلاقة التي تربط الفرد بالمجتمع والبيئة المحيطة وخصوصاً العلاقة التي تربط بين الجنسين، في مجتمع مكبوت، والتي لها أكبر تأثير في عملية التحولات النفسية. عبد الرقيب مر بثلاث تحولات لعبت فيها المرأة وبالتحديد في جانبها الجنسي الدور الرئيس: 
 

التحول الأول من الماركسية والانفتاح إلى الفكر الإسلامي والاجتماعي المحافظ بعد زواجه من نورا، والتحول الثاني إلى الفكر الديني المتطرف بعد خيانة نورا وخلعها له، والتحول الثالث إلى الفكر الدنيوي المعتدل بعد زواجه من الشيشانية فالنتينا.
وهكذا تلعب المرأة في الرواية دور المايسترو الذي يضبط إيقاع لحن الحياة إذا اعتدلت النظرة إليها وكانت الثقة هي النصيب المفروض المعتدل تجاهها، بها يتناغم الذكر والأنثى تناغم الروح والجسد، ويكون اللحن نشازاً حينما تختل هذه المعادلة. وهي معادلة يمكن النظر في نتائجها من خلال مصائر الشخصيات في الرواية.

 

فمصائر الكبت الجنسي أو مصائبه حلت بكل شخوص الرواية رجالاً ونساءً على حدٍ سواء: “لولا” فقدت بكارتها فحاولت تعويضها بأخرى مصطنعة، نورا تبحث عن الإشباع الجنسي عند رجل غير زوجها. و“حرمة” العذراء حملت بعد لقاء جنسي عابر لا يمت بصلة لما سمعته وشاهدته من أفلام جنسية، في دلالة على الانفصام بين الحياة المتخيلة أو المشاهدة في الأفلام والحياة كما هي في الواقع. 
 

أما مصائر الرجال: 
فعبد الرقيب غير متوافق جنسياً مع زوجته نورا فتطلقه بعد افتضاح علاقتها الجنسية بآخر. أبو عبد الله زوج “حرمة” عنين، مع ذلك يزوجه شيوخه بأخرى هندية ما زالت على علاقة جنسية مع زوجها الهندي السابق. هذا الفشل في باب جهاد الجسد يدفع عبد الرقيب وأبو عبد الله إلى الهروب لطلب النجاح في باب الجهاد بالنفس في أفغانستان والشيشان. وفي هذا التحول أو الهروب دلالة مهمة تشير إلى وجود دافع آخر للجهاد يشغل بال الشباب. 

 

الشيخ “أبو السرور” يتزوج “حرمة” لكنه يفشل جنسيا فيطلقها في نفس اليوم. نفس الفشل الجنسي يواجهه معها جارها سهيل. أما أبوها فيموت بعد مشاهدة ابنته “لولا” مع أحد الشباب في غرفتها. وتوجد شكوك في احتمال أنه الرجل الذي ظهر في مقطع الفيديو مع نورا زوجة ابنه عبد الرقيب. ومظاهر الكبت الجنسي لا تسلم منها الجامعة الإسلامية حين يمارس الشيخ سهواً ألعاباً جنسية أمام كاميرا تنقل محاضرته لطالبات في قاعة أخرى. 
 

هذا المصير المحفوف بالفشل يلاحق الجميع في دلالة على أن الانغلاق يولد الكثير من المشاكل. يقابله حالة ناجحة للانفتاح ممثلة بفالنتينا زوجة عبد الرقيب الثانية من أصل شيشاني ومن أبوين ملحدين، فمعها “وُلِد عبد الرقيب للمرة الثالثة”، ومعها يستعيد ثقته بالمرأة بعد أن فقدها إثر خيانة نورا.
يحتل موضوع الكبت الجنسي الأهمية لذلك يتضاءل الإحساس بالمكان في الرواية مثلما تبهت ملامح الشخصيات. فباريس هي أحد الأمكنة التي لم تتوقف الرواية عند روحها كمكان، وتوقفت عند جسدها ممثلاً في الفن التشكيلي، أحد أبواب الروح السبعة، لتفتح صفحة أخرى من كتاب فن الجنس. وهنا يحضر الجنس أيضاً لكن ليس كهاجس أو كرغبة، وإنما كفن، من خلال الفنان التشكيلي الذي يعقد مع “لولا” اتفاقاً على رسمها عارية، فيدور بينهما حوار صامت نكتشف معه رؤيتين مختلفتين للجسد:

رؤية “لولا” الشبقية المحكومة بمجتمع مكبوت، ورؤية الرسام لها كموديل فني بحت. وينتهي الحوار بإغوائها له في نهاية غير سعيدة لاكتشافه غشاء بكارتها المزيف. 
تلقت الرواية وكاتبها الكثير من الهجوم واعتبرها البعض عملاً إباحياً. وهذه تهمة واجهت كثير من الروايات العالمية التي مُنعت بسبب موضوعها مثل “عشيق الليدي تشاترلي” و“لوليتا” و“الكاماسوترا”، لكنها حظيت لاحقاً بمكانها اللائق بين روائع الأدب. 

 

هنا في اليمن “لوليتا” ما زالت “حُرمة” وكلاهما ضحية: “لوليتا” ضحية للشذوذ الجنسي، و“حرمة” ضحية للكبت الجنسي. وأن تكتب عنها يعني أن تكتب عن حياة لم تبدأ بعد. ولا نعلم كم من الوقت يلزم ليكتشف القارئ أن رواية “حرمة” ليست عملاً إباحياً، وإنما جدلاً بين الروح والجسد يتخذ شكلاً من أشكال الصراع بحكم المجتمع المكبوت.

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
اختيارات القراء
  • اليوم
  • الأسبوع
  • الشهر
  • الأكثر قراءة
  • الأكثر تعليقاً