الأحد 22 سبتمبر 2024 آخر تحديث: السبت 14 سبتمبر 2024
غُربة الشخصيّات في «ذاكرة الكوفيدا» للعماني الخطّاب المزروعي - محمد زروق
الساعة 13:47 (الرأي برس - أدب وثقافة)

 

روايةُ «ذاكرة الكورفيدا» للكاتب الخطّاب المزروعي هي روايتُه الأولى، وإن كان له تراكمٌ سالفٌ في تجربة الكتابة القصصيّة، تَجسّد في «التباسات» و»الرائحة الأخيرة للمكان» و»لعنة الأمكنة» و»سيرة الخوف».
تُبطنُ الروايةُ رؤيةً وتُظهِرُ بناءً، قالبا اختاره الروائيّ ليُجلّي معانيه أو يُخفيها، هي روايةُ الثنائيّات تشدّ الضَدِيدَ إلى ضَدِيده، والنقيضَ إلى نقيضه، تَجْمَع المُتَفَارق وتُحرّك بالسرد آفاقا من تقلّبات النفس البشريّة في حالاتٍ عددٍ.

 

لقد صدَّر الكاتب روايته بالذاكرة مصْدرا للانسياب في الحكاية، وبالكورفيدا نوعا من الأغربة، وقَرَن الاسمين جمعا، لِيُحدث تماهيا جليّا بين شخصيّةٍ من شخصيتيه والغرابِ الذي تحوّل – في ملمحٍ لطيف من الكاتب- إلى موضوعِ سردٍ في ذاته، وفي قَرْنه قراءةً بالشخصيّة المتأثّرة به، العالمة بصفاته، المدركة لخصاله وفعاله.
 

من الغُراب تتكوّن الرواية، يُقَامُ عُنصرُها ومزاجُها لغةً وحدثا إذْ تستوي بناءً يَخْلُص لعنصره وإنْ شَابَتْهَا من العناصر الأخرى أنواعٌ وأشكالٌ، «ما الذي يجعل هذه الصورة الوحيدة في البيت والأثيرة عند مرزوق: غرابا محلّقا، بدا كأنّه يحمل السحابة التي كانت فوق ذيله مباشرة». 
يحضر الغراب على وجْه العموم في عددٍ من المواطن في الرواية، منقذا لشخصيّة مرزوق من الانهيار النفسي في السجن، إذ كان مَخْرَجَه للاطّلاع على عالمه ولرسمه، والتواصل معه حتّى تَسمَّى به. ويحضر الغراب في دلائل الرواية، فالكلّ غريب، والكلّ يعيش غربةً ما، ومرزوق الغراب يحمل أبوه اسم «غريب»، فيُقيم الغراب بصفاته وتسميته نسيجا للرواية جامعا دون أن يكون حضوره حضورا فجّا.

 

شخصيّتان تنازعتا السرد رؤيةً ورأيا، واحدةٌ تابعةٌ والثانية متبوعة، واحدة قويّة ظاهرا، والثانية هشّة، واحدةٌ فاقدة والثانية مفقودة، وهما في الهمِّ واحدٌ، وفي اليأس واحدٌ، يتحكّم فيهما ساردٌ عارف عالم، ينظر فيهما ويُنطقهما متى أراد، ليرويا من الذكريّات ما به يقوم أوْدُ الرواية.
 

هما الشخصيّتان الفاعلتان، مرزوق بفضائه السرديّ الذي يحمله معه، بقصّته وقَصَص مَنْ جانَبهُ وصاحَبه وتواصلَ معه، وعثمان، بحكاياته وشخصيّاته العالقة به وأهمّها أمّه التي تركت أثرا في نفسه برحيلها.
هي شخصيّات تبدأ غربةً وتُنهى غريبة، في عالم لا تُحسن التفاعل معه، بعُقدها وعمق تفاعلها مع كون يسير عكس الاتجاه. شخصيّتان تُقيمان أوْد الرواية وترفعان عِمادها، «مرزوق» ملفوظ السجن، ومنه اكتسب حياةً جديدة ارتبطَ فيها ارتباط وجودٍ بالغُراب، و»عثمان» ضديده وتابعه، خصيّ حرب، عديم ثقافةٍ، فاقدُ مِحَنٍ، له في «مرزوق» القدوة والمثال والهادي.

 

من الذاكرة، الركن الأوّل في العنوان، تتأتّى أحداثُ يلتقطها «مرزوق»، المرجع، النموذج، بالنسبة إلى الشخصيّة المقابلة، إلاّ أنّ لكلّ مرجعَه ونموذَجه، فـ»مرزوق» يستحضر من الذاكرة صورة شخصيّة أثّرت فيه وغيّرت حياته على تضادّهما وتعارضهما، وهو الذي يدخل السجن من أجل امرأة عشقها وضاجعها، وهي لغيره كُتبت وسُجّلت، أمّا نموذجه فهو سجين سياسيّ، له آراء في الحريّة والظلم ونقد الحالّ السياسيّ، شخصيّة «سيف بن عليّ» شخصيّة مهمّة في المكوّن الروائيّ لـ»ذاكرة الكورفيدا»، ومن زلاّت الرواية أنّ الذات الكاتبة لم تفتح له المجال ليبعث آفاقا جديدة في الحوار الثنائيّ، بل هي تركته صورة تُتَذكَّر ورمزا يُتّبع فحسب، «كان الماء يتساقط على رأس مرزوق، ينساب على وجهه فيختلط بما يُشبه الدموع، وهو يتذكّر وجه سيف بن عليّ، مرّ وجهه على ذاكرته كالبرق، واختفى سريعا».
 

شرارة الحبّ هي التي كوّنت شخصيّة «مرزوق»، وبَعَثَتْها، وغَيّرت مسارها الاعتياديّ، النمطيّ، يُحب امرأة، وتُحبّه، ويأتي الثالث المرفوع للفوز بها، فتكون العقدةُ، ويكون السردُ، وتتحقّق المغامرة، فالعشق «لائط بالقلوب، مُحبّب إلى النفوس»، وشأنُه في السرد شأن الأوطان، يجوز فيه العُمرُ أن يضيع، وتجوز فيه التضحية. ليظهر الثالث المرفوع، شخصيّةً أخذت من السرد حيّزا، هي في السرديّات القديمة تتنزّل منزلة الشخصيّة المُعرقلة، «سعيد بن مبروك»، لا يتعامل معه الراوي بموضوعيّة، وإنّما بذاتية مفرطة، فهو في أصل الوضع رجل قد ضُوجعت زوجته من قِبل غريب، غير أنّه يُصوَّر على أنّه مُهدّم اللّذات، وواضع العقبات. هو الشرير في الرواية وهو العلّة الأساس في تغيير حياة «مرزوق» من الحريّة إلى السجن، ومن حبّ المرأة إلى حبّ الوطن، ومن التحقّق الجنسي إلى التحقّق الوجوديّ، «سعيد بن مبروك، حدّثتني نفسي بخنقه، هذا الكلب الذي خلق خصوصا ليسلب مني من أحب».
 

تلك مداخل لروايةٍ قليل عدد صفحاتها، عميق سبر شخصيّاتها. وهو الأمر الذي سيثير إشكالا في تجنيس هذا العمل وضبط حدوده، بتكثيف الأحداث واختزال الشخصيّات، والسكوت ساعة الكلام، غير أنّ ذاك يرجع إلى اختيار باعثها، فليُصنّفوها قصّة طويلة أو رواية قصيرة، فأنا شخصيّا أرى أنّها إنجاز سرديّ روائيّ، وإنّ ضنّت صفحاته وتكثّفت أحداثه. روايةٌ تشي بقدرة على إمساك الحكاية والتدرّب على كتابة الرواية المقبلة، فالخطّاب يُحسن تبئير الشخصيّات وبيان همومها، وإن أعرض عن شخصيّات وحوادث تمنّى القارئ أن تُضاء وأن تأخذ من السرد حيّزا ومن الوجود اللغويّ تحقّقا.

٭ ناقد تونسي
جامعة السلطان قابوس

منقولة من القدس العربي ..

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
اختيارات القراء
  • اليوم
  • الأسبوع
  • الشهر
  • الأكثر قراءة
  • الأكثر تعليقاً