الأحد 22 سبتمبر 2024 آخر تحديث: السبت 14 سبتمبر 2024
انتصار.. لحرب واحدة ! - د.عبدالحكيم باقيس
الساعة 15:43 (الرأي برس (خاص) - أدب وثقافة)

 


هل لنا أن نلتمس بعض الشيء من بلاغة العنوان الذي يحمل خمسة عشرة قصة قصيرة كتبتها انتصار السري، وحملتها فوق ظهر هذا العنوان المثير (لحرب واحدة) الذي ينتج دلالة مخاتلة حين يقرأ في الفضاء السوسيوسياسي الذي نعيش تفاصيله المؤلمة، والذي يفرض على القارئ الآن فك شفرة هذا العنوان المفخخ بألم الواقع الذي تجتاحه الحروب من كل الجهات.
 

جرت عادة كتاب القصة، شأن الشعراء كذلك، تخير أحد العناوين الداخلية للنصوص وانتزاعه إلى صفحة العنوان الرئيس للمجموعة، وقلما يأتي العنوان بعيدًا عن هذا الاختيار، وعند النظر في العناوين الداخلية للقصص لا نجد أثرًا لتحديد معلن عن الحرب، ويصبح بياض الكتابة مسرحا مفتوحا لهذه الحرب، ما يتطلب من القارئ المزيد من مقاومة لعبة المخاتلة، وتغدو الإجابة عن سؤال العنوان برسم جهد القارئ في اكتشاف دلالته وصلته بالمتن ثانيًا، وفي منح العنوان المعنى بداية من سدة ثغرة النقص التي تعتري البناء التركيبي للعنوان، بكلمة أو أكثر أولاً.
 

تتناول قصص هذه المجموعة موضوعات إنسانية، ومشاهد واقعية من الحياة لذوات إنسانية متشظية تخوض حرب وجودها في الحياة، وهنا تتخذ مفردة الحرب بعدًا دلاليًا، وتنتج شعريتها في النص، ففي قصة (اختراق) تصف حالة الابتزاز القمعي الذي تتعرض له بطلة القصة، حين يتم انتهاك حسابها الاليكتروني من قبل إحدى المنظومات الأمنية، من أجل انتهاك جسدها، يصبح اﻷمني في صورة مفارقة لوظيفته، وفي (قهوة مرة) يتحول حدث اللقاء بين عاشقين إلى حالة من فوبيا من الإرهاب حين يقبض على الفتاة المنتقبة بسبب هيئتها، وتقدم قصة (صورة) مفارقة لحالة من الحب الصادم الضائع بين حبيبين صامتين، وتتناول (القطط المتشردة) فكرة القدر المحتوم، وتحول الضحية نفسها إلى جلاد قاس في بنية دائرية لتكرار فعل الجرم والانتقام، وفي (حياة) تصل الذات المنهكة إلى لحظة مواجهة حاسمة للحياة، فترفض خيط حبة الدواء، ذلك الخيط الواهن الوحيد الذي يربطها بالحياة، وتتناول (عابرون) فكرة الخيانة الزوجية بوصفها أحد أشكال خيانة الحياة نفسها، وفي (الموكب) تصف حالة الخوف والقلق من الفقد حين تتداخل أصوات الأعراس بالحرب في وعي امرأة في انتظار عودة الزوج من جهة قتال، وتتناول (دخلة) فكرة التزييف والأنوثة المزيفة في صورة مفارقة كاريكاتورية، وفي (قفص) يتحول وفاء الانتظار إلى سجن، فتذبل حياة الفتاة في انتظار عودة الحبيب، ليس من غيبته كما يحدث في بعض القصص الرومانسية، وإنما من سجنه الذي تذبل فيه حياته هو الأخر، أما في (سنَّارة) فتبدو السمكة والصياد ضحيتين في الوقت نفسه، وفي (ضريح) تناولت مشهدًا سورياليًا يصف قلق الموت الذي يفتك الحياة، وترسم (وليمة) لوحات مفارقة لمشهد جلوس عاشقين في أحد المطاعم، فيستدعي السرد عذابات أخرى وسط المشهد الرومانسي تصنع هذه الجلسة، فيؤنسن السرد بعض عناصر هذا المشهد إمعانا في الإدانة، فالدجاجة المشوية تلعن حظها الذي أوصلها إلى طبق الطعام، والقمر الذي يطل على العاشقين يشكو وحدته، والمقاعد الخشبية تتذكر شجرتها المورقة التي كانت، وفي قصة (الحقيبة) تستدعي بعض مشاهد الحرب في صورتها الدموية، فيصبح انتظار الفتاة في محطة القطار في مدينة هادئة تشق طريقها في التمدن الحضاري إلى مناسبة لاستدعاء ألم الحرب وبشاعتها في أمكنة أخرى، وهنا تُعقدُ المفارقة بين صورتين ومشهدين متناقضين، ولعلّها القصة الوحيدة التي تحضر فيها الصورة المأساوية للحرب بمعناها الحربي التقليدي، وهكذا تبدو كل ذات في قصص المجموعة، أكانت الشخصيات أو الذوات الراوية في القصص تعاني في حربها الخاصة، ويبدو الجميع ضحايا في هذه الحرب الواحدة التي تتعدد أشكالها.
 

 

تنهي الكاتبة انتصار السري مجموعتها بحرب أخرى في قصة (فكرة) والتي تتناول فكرة البحث عن الموضوع أو الكتابة، فيتحول جلوس الساردة في المقهى إلى رصد مشاهد الحياة المتعددة من حولها، فتقترب في أثناء ذلك من تخوم الميتاقص، أو الكتابة التي تصف نفسها، وبظني هذا اختيار موفق من الكاتبة في ترتيبها للقصص، وفي نهاية المجموعة القصصية التي احتشدت بنماذج ولوحات إنسانية متعددة، ما يشير في نهاية هذه القصة إلى انفتاح السرد نحو المزيد من موضوعات الحياة الإنسانية، وتصوير مشاهد متناسلة لحروب وجودنا الإنساني.
 

في لغة سردية حافلة بالدلالات والتكثيف، وهو أحد عناصر السرد القصصي، وفي دقة التصوير للوحات الحياة، وقد استعانت الكاتبة بالمفارقة على مستوى اللغة السردية والشخصية والحدث، واستطاعت أن تنجز حربها في بياض الكتابة، فتولد عنها هذا الأثر السردي القصصي المتعدد، الذي جاء لحرب واحدة.
 

صدرت هذه المجموعة مؤخرا في القاهرة عن مؤسسة أروقة للدراسات والنشر والترجمة

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
اختيارات القراء
  • اليوم
  • الأسبوع
  • الشهر
  • الأكثر قراءة
  • الأكثر تعليقاً