الأحد 22 سبتمبر 2024 آخر تحديث: السبت 14 سبتمبر 2024
سربرينيتسا.. رواية إدانة شاملة - منير عتيبة
الساعة 15:54 (الرأي برس - أدب وثقافة)


(أيتها الإنسانية متى تتوقف أنهار دمائك؟ متى تعودين إلى إنسانيتك؟!)

عندما كان السلطان العثماني محمد الفاتح يخطط لفتح البوسنة؛ رأى في منامه الخلفاء الراشدين: أبا بكر الصديق وعثمان بن عفان وعلى بن أبي طالب، ولكنه لم يرَ عمر بن الخطاب.

فسر له المفسرون منامه مستندين إلى ما اشتهر به الخلفاء الراشدون من صفات؛ بأن الأرض التي سيفتحها هي أرض غنية واسعة الثراء لكنها ستتنازل عن ثرواتها، وأهل هذه الأرض سيكونون من المؤمنين الأتقياء الذين ليس لهم نظير فى العالم، وسيكونون من أعظم المجاهدين، ولكن لن تكون هناك أي عدالة في هذه الأرض، فهي أرض محكوم عليها بالظلم. 

وفى روايته "قصة سربرينيتسا" (المدينة ذات الطبيعة الجبلية التى تقع شمال شرق البوسنة) يضع الكاتب البوسني "إسنام تاليتش" هذه الرؤيا في بؤرة تفكيره، وهو يقدم رواية/شهادة تمثل إدانة تاريخية وشاملة للإنسانية التي وقفت مكبلة اليدين تشهد فصول مذبحة سربرينيتسا، ممثلة في الأمم المتحدة وحلف الناتو، وذلك بعد حصار دام لثلاث سنوات.

ففي مذبحة سربرينيتسا التي تمت سنة 1995م بيد الصرب ومباركة العالم المتآمر ممثلا في الأمم المتحدة وحلف الناتو، بعد حصار دام لثلاث سنوات تم خلالها ارتكاب كل ما يمكن أن يخطر ببال الشيطان من جرائم في حق هذا الشعب، من تجويع، لإرهاب، لقتل بكل أنواع الأسلحة المسموحة والممنوعة دوليا، لاغتصاب، لتسميم الآبار، وتسميم الأطعمة والعصائر (المعونات الدولية)، لدفن الجثث والأحياء فى مخلفات مصنع ألومنيوم...إلخ.

"مرجان جوزو" بطل الرواية شاب من سربرينيتسا، يعمل مساح أراضي، وإماما للمسجد، كتب عليه أن يعيش سنوات النكبة 1992-1995، ويعاني كل ويلات الحصار. وهو بطل الرواية والراوي الرئيسي الذي تسيطر رؤيته على بعض فصول الرواية، ليتخلل سرده للأحداث صوت جده "رحمن بك جوزو" في بعض الفصول.

أراد المؤلف أن يقدم تاريخ سربرينيتسا خلال ألفي عام، وأن يقدم تاريخها القريب منذ بداية القرن العشرين عندما تخلى الأتراك عنها لإمبراطورية التمسا والمجر، ثم عندما أصبحت جزءً من الاتحاد اليوغسلافى، مع التركيز على دمارها الأخير قبيل انتهاء القرن العشرين.

فاختار؛ كشاهد عيان على ما يحدث من دمار للمدينة، "مرجان جوزو" الذى حارب عصابات "التشتنيك" الصرب مدافعا عن مدينته، والذى عانى ويلات الحصار، والهروب من الحصار. 

وخلال وقوعه تحت الحصار يربط مرجان جوزو بين ما يحدث فى لحظته الراهنة، وما حدث لهذه الأرض من دمار مرات سابقة، فسربرينيتسا هى المدينة الرابعة التى تقام على هذه الأرض، وهى المدينة التى قدر لها أن تواجه نفس مصير المدن الثلاث السابقة، أن تدمر بسبب غناها، وخاصة ثرواتها من الفضة، وأن تضطهد بسبب تقوى أهلها ودينهم. وبينما يستل "مرجان جوزو" بعض الأخشاب من سقف بيته ليستخدمه فى التدفئة تحت الحصار؛ يعثر على مخطوط قديم للمصحف به مذكرات جده "رحمن جوزو" الذى كان جنديا فى الحرب العالمية الثانية فى قوات إمبراطورية النمسا والمجر، وأسره الروس، ثم هرب منهم إلى شعب البوريات الذى يسكن فى المنطقة الجنوبية والوسطى من سيبيريا على طول الساحل الشرقى لبحيرة بايكال، وبعدها يعود إلى سربرينيتسا التى لم يستطع نسيانها سواء فى اللحظات التى كان يقترب فيها من الموت أو المجد.

وبهذا فقد بنى الكاتب روايته على مدرج هرمي قاعدته تاريخ سربرينيتسا خلال ألفى عام، مستمداً مصادره من المراجع التاريخية، والحكايات الشعبية معا. وهو هنا يلتقط الأحداث والتواريخ والشخصيات التى تلقى الضوء على فكرته الأساسية حول مدينته الغنية/المظلومة، ويمد خيطا واحدا يربط به بين الحدث التاريخى والواقع الآنى.

ينسلخ من قاعدة الهرم السردى تاريخ المدينة فى بدايات القرن العشرين، ويعتمد الكاتب هنا على مذكرات "رحمن بك جوزو" التى تحكى قصة عائلة جوزو البوسنية المسلمة التى توارثت العلم الدينى والإمامة جيلا بعد جيل، كعينة ممثلة لعائلات المدينة، وما جرى عليها من تحولات، بعد أن تخلى عنها الأتراك وتركوها لقمة سائغة لعصابات الصرب "التشتنيك" التى انضمت لجيش إمبراطورية النمسا والمجر لتقضى على البوسنيين، ثم انضمت إلى الشيوعيين فى الاتحاد اليوغسلافى لنفس السبب، مؤصلا بذلك لأسلاف نفس العصابات التى قامت بعمليات التطهير العرقى التى كان ضحيتها أكثر من 15 ألف مواطن بوسنى من سربرينيتسا خلال ثلاث سنوات، بالإضافة إلى عمليات الاغتصاب المنظمة للنساء البوسنيات لتضييع هوية هذا الشعب وإذلاله.

وفى قمة الهرم تأتى سنوات الانهيار، يروى أحداثها شاهد عيان على المذبحة اللا إنسانية التى حدثت فى سربرينيتسا، "مرجان جوزو"، وكأن التاريخ يعيد نفسه بحق فى تلك المدينة الشهيدة.

فى الدائرة الأوسع لروايته، الدائرة التاريخية، نلاحظ أن لغة الكاتب أقرب إلى لغة المؤرخين المشوبة بروح شعبية ممزوجة بلذعة ساخرة نابعة من روح "مرجان جوزو" المحاصرة.

أما فى دائرة الرواية الوسطى، حكاية "رحمن بك جوزو"، فنحن أمام لغة قص حكائية شاعرية فى إطار رواية مغامرات عجائبية تلعب فيها المصادفات المبررة والقدر دورا كبيرا، تتميز بالانطلاقة والحيوية النابعة من روح "رحمن بك جوزو" المؤمنة المرحة.

وفى دائرة المركز السردى من الرواية، شهادة "مرجان جوزو" التى تنقلنا مباشرة إلى قلب الأحداث المأساوية، لنجد أنفسنا فى قلب قصة رعب مشحونة بالهوس والكوابيس والدماء والفصام النفسى، كل ذلك فى جو من القتامة الكافكاوية، بلغة قاتمة حادة مباشرة، إلا أنها محلقة فى سماء الكابوس ومتغلغلة فى عمقه.

تتداخل دوائر الرواية الثلاث لتطلق صرخة إدانة ضد الإنسانية على مر التاريخ، وضد الحضارة الإنسانية الحالية، ويقصد بها الكاتب هنا حضارة الغرب المهيمنة، ليكشف الفجوة الرهيبة بين الشعارات التى تطلق فى المحافل الدولية، وبين الممارسات الحقيقية على أرض الواقع، والإغضاء المتعمد عن المجازر الوحشية والانتهاكات الإنسانية. ولا يستثنى الكاتب أحدا، الكل مدان، الكل مشارك فى الجريمة، حتى الضحايا أنفسهم، هم ضحايا ومدانون فى الوقت نفسه. الغرب مدان لصمته ومراوغته وعدم وفائه بالعهود وكيله بمكيالين أحدهما مع الصرب والآخر ضد البوسنة. والأمم المتحدة مدانة، فقد كان كل شئ يحدث تحت سمعها وبصرها، بل وبمباركة ومساعدة قواتها للصرب فى تنفيذ مخططهم ضد المدينة العزلاء. والصرب مدانون لاعتدائهم على جيرانهم، واستخدامهم أقذر الأساليب فى تنفيذ هذا الاعتداء بهدف القضاء عليهم تماما، وتذويب هويتهم. والصرب الذين يعيشون فى البوسنة كأهلها مدانون لخبثهم وكراهيتهم للشعب الذى اعتبرهم جزءً أساسيا منه، وانخراطهم طوال سنوات فى التآمر بتكوين العصابات، وتخزين السلاح، واختيار الضحايا، حتى يتم التنفيذ فى اللحظة المناسبة. البوسنيون مدانون لتصديقهم الوعود الكاذبة، وتجاهلهم لما يحدث بينهم من تآمر طوال سنوات، ولعدم تعلمهم من تاريخهم البعيد ولا حتى القريب (رحمن بك جوزو)، ولخلافاتهم الداخلية فى تقييم الأحداث، ثم لوقوعهم فى الفخ الكبير، فخ الحصار والتجويع والإرهاب، والذى نتج عنه حالة من الهوس والفصام جعلت بعضهم يقتل أخاه وهو يظنه من الصرب، وبعضهم يصدق الجاسوس الصربى ويمشى خلفه إلى حتفه رافضا الاستماع لصوت أخيه البوسنى الذى يحاول أن يشرح له الموقف بمعطيات العقل والواقع. والإعلام العالمى مدان لأنه كان يركز على الأمجاد الوهمية للجلاد، ولرجال الأمم المتحدة، متجاهلا نهر الدماء والقسوة الهدار الذى تم إلقاء أهل سربرينيتسا فيه بلا رادع من ضمير.

تؤكد "قصة سربرينيتسا" أن الحرب على البوسنة هى حرب دينية بالأساس، هدفها استئصال آخر صوت للمسلمين فى أوروبا، وربما كان هذا هو السبب فى الصمت المريب للغرب على ما حدث فى البوسنة من مجازر تطهير عرقى، واغتصاب، وتمييع أو تذويب هوية شعب، وتؤكد أيضا وعى البوسنيين بهذه الحقيقة، حقيقة أن ما يملكونه حقا هو دينهم، وهو سبب كراهية الآخرين لهم، ومحاولتهم القضاء عليهم، لذلك نجد دور المصحف المحورى فى الرواية، ونجد تفكير أشخاص الرواية بصفتهم مسلمين بوسنيين فى كل الظروف، كما نجد الاهتمام بالتعليم الدينى، والمكانة الرفيعة لإمام المسجد، ونجد كثيرا من المواقف الصعبة التى يكون حلها عن طريق قراءة القرآن، ونجد أن أهم حدث فى حياة البوسنى هو قيامه برحلة الحج إلى مكة المكرمة، ومن المشاهد ذات الدلالة أن بطل الرواية "مرجان جوزو" يكتب على صدره إجابات المسلم على سؤال الملكين عند الموت، لأنه تحت الحصار الرهيب للمدينة لا يعرف أين ومتى سيموت؟ وهل سيدفن دفنا شرعيا أم لا؟ وهل سيجد من يمشى فى جنازته ويدعو له بالتثبيت عند السؤال؟ هل سيجد من يقرأ له القرآن أو يسقى قبره إن كان له قبر؟ هو واثق أنه لن يجد شيئا من ذلك، فيكتب شهادته على جسده (الله إلهى. الإسلام دينى. القرآن كتابى المقدس. مكة المكرمة قبلتى التى أتوجه إليها فى الصلاة. محمد صلى الله عليه وسلم نبيي. أنا من نسل النبى آدم. أنا من أمة النبى إبراهيم عليه السلام. أنا من أمه محمد صلى الله عليه وسلم). هذا الوعى الحاد بالهوية الإسلامية والتأكيد عليها هو تأكيد لوعى "مرجان جوزو" بهدف كل ممارسات الآخر ضده والتى تهدف إلى إفقاده هذه الهوية بكل الطرق الممكنة بغض النظر عن شرعيتها. لذلك يعلن الكاتب توجهه صراحة فى الفقرة الأخيرة من الرواية، بأننا كمسلمين يجب ألا ننسى، لأنه سيوجد من يحاول إسدال ستائر كثيفة على ما حدث، أو تشويهه، أو توجيهه وجهة أخرى، بل يمكن أن يوجد من بين المسلمين البوسنيين أنفسهم من يدعو إلى نسيان ما حدث من باب المغفرة، لكنها ستكون مغفرة قاتلة برأى الكاتب، ستكون غفلة وليست غفرانا.

(ويبقى تدمير سربرينيتسا أكبر وصمة عار وخزى على ضمير الحضارة الحديثة، وبقعة تلطخ بالدم وجه المدنية المعاصرة، وستبقى مأساة سربرينيتسا سُبة تمرغ سمعة الحضارة الحديثة فى الوحل. إن التضحية بسربرينيتسا وتقديمها كذبيحة أو قربان هى عهد أبدى للبوسنة ولجميع البوسنيين. منذ اللحظة وإلى الأبد، بعدم الاكتفاء بالشعارات الجوفاء مثل "لن ننسى أبدا" و "لن نغفر أبدا". إن ما حدث لسربرينيتسا لا يجب أن ينسى بأى حال من الأحوال، ويجب أن نمنع سقوط ستائر النسيان على سربرينيتسا بأى ثمن، وألا يُغفر ما حدث بها، مهما حاول أولئك الذين لم يتذوقوا الظلم شخصيا ولم يضطهدوا يوما أن يرغمونا على التسامح والصفح، ومهما كانوا كثيرين، أولئك الذين من بيننا ولم يبيتوا يوما مجنيا عليهم مهضومى الحق ومع ذلك يحاولون إجبارنا على القبول بفكرة أن الانتقام خطيئة ودنس ينتهك حرمة المقدسات).

هذه هى صرخة الكاتب الأخيرة التى أطلقها فى خاتمة من صفحتين بعد رحلة سردية قدمها فى حوالى 450 صفحة من القطع الكبير ترك فيها أبطاله يعرضون الموقف بأنفسهم، هذه هى دعوته: ألا يتم نسيان ما حدث، ليبقى الوعى بأسباب حدوثه، ويستمر العمل على عدم تكراره، وألا يموت الوعى بهوية البوسنيين كمسلمين، تلك الهوية التى كانت وستظل أرض المعركة الحقيقة؛ فالآخر يحاول الاستيلاء عليها وتدميرها، ولذلك فعلى كل بوسنى مسلم المحافظة عليها والتمسك بها بمنتهى الوعى واليقظة لما حوله.
------ 
هوامش:
سربرينيتسا، هى بلدة بوسنية قديمة، وهى المدينة الرابعة التى أنشأت فى نفس المكان خلال ألفى عام، كانت المدينة الأولى هى أرغنتاريا أى مدينة الفضة، والثانية هى دومافيا، والثالثة فى القرون الوسطى هى سربرينيتسا القروسطية. اشتهرت بثرواتها خصوصا مناجم الفضة بها. وكانت دومافيا أهم مدينة فى منطقة البلقان للإمبراطورية الرومانية، كما كانت سربرينيتسا القروسطية مدينة أوروبية كبرى عندما كانت لندن مجرد قرية صغيرة مقارنة بها.

"قصة سربرينيتسا"، رواية عن الحرب على البوسنة، تأليف إسنام تاليتش، ترجمها إلى الإنجليزية محمد باشا نبيجوفيتش، ترجمها عن الإنجليزية إلى العربية د.صهباء محمد بندق، قدم لها د.مهاتير محمد، دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع والترجمة، مصر، الطبعة الأولى 1429هـ/2008م. وقد ترجمت الرواية إلى 32 لغة.

الكاتب البوسني "إسنام تاليتش"، من مواليد ولاسنيتسا بشمال شرق البوسنة عام 1954م. يكتب الرواية والقصة والشعر والتحقيق الصحفى. نال العديد من الجوائز على أعماله الأدبية والصحفية.

 

منقولة من بوابة الأهرام ...

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
اختيارات القراء
  • اليوم
  • الأسبوع
  • الشهر
  • الأكثر قراءة
  • الأكثر تعليقاً