الأحد 22 سبتمبر 2024 آخر تحديث: السبت 14 سبتمبر 2024
طاقة سلبية - كمال البرتاني
الساعة 13:00 (الرأي برس (خاص) - أدب وثقافة)


كان منير طلال يخطط للنوم مبكرا، إلا أن رقص المنزل على وقع الانفجارات العنيفة جعل رذاذ النعاس يتساقط من بين جفنيه.
تذكّر أنه سيشاركُ بعد يومين في فعاليةٍ خاصةٍ برواية (طقوس الشرنقة) لزميلته في نادي القصة (سيرين حسن).

 

انسحبَ من غرفةِ نومهِ بهدوء، أخذ بقية القات التي ادخرها للغد، وانزوى في ركنِ المجلس. شَرَع في مضغ القات والأفكار، ثم دوّن ملاحظاته الأولية على الرواية.
كان حائراً بين أمرين:
- الاعترافِ بأنه ليس لديه الكثير ليقوله عن الرواية، وأنه بذل جهدا كبيرا حتى أكمل قراءتها،
- أو التركيز على ما أعجبه فيها؛ تقديرا لحقيقة مفادها أن انشغال سيرين بالكتابة في زمن الحرب، في واقع مليء بالإحباطات، أمرٌ إعجازيٌّ تستحق عليه الثناء، إضافة إلى تصميمها على نشر ما تكتبه، مع أن الإبداع الأدبي هو آخر ما يمكن الاهتمام به في هذه البلاد.

 

بدأت الإضاءة في الغرفة تخفُت، بعد انطفاء الكمبيوتر، ومنير لايزال متوهجاً، يحاول تصميم بوابةٍ جميلةٍ للقراءة النقدية التي لن تعجب أحداً.
وفي منتصف الليل، فتح صفحة الغربي عمران في الفيس بوك، ليرى من سيشارك معه في الفعالية.
قرر الاتصال بالدكتورة مريم ليسترشد برأيها؛ لأنه عجز عن كتابة أي شيء لا يدفع الآخرين لاتهامه بتصيد الأخطاء والأستذة، ولا يجعله يتهم نفسه بالمجاملة والكذب!
كانت الدكتورة تتهيأ للنوم، حين رن هاتفها.
شعرت بهواء الغرفة الراكد يهتز، وبالدم يتدفق بسرعة في عروقها. . لا أحد يتصل في منتصف الليل إلا إذا حدثت مصيبة.
جاء صوت منير طلال هادئا وعميقا ليؤكد أنها لم تكن مصيبة في توقعها.
* مساء الخير.
ردت بصوت خافت، خالٍ من بهارات الغُنج ويدُها على قلبها:
- أهلا
بادرها بالسؤال:
* هل قرأتِ رواية سيرين حسن؟
كادت تفلت منها ضحكة مفاجئة، كتمتها وقالت:
- نعم
* هل أعجبتكِ؟
لم يكن الوقت مثاليا للنقاش، لكنها نهضت من الفراش. أضاءت الغرفة. شربت قليلا من الماء، وقالت:
- دعِ الإعجابَ جانبا، لدي العديد من الأسئلة التي تحيرني. .
بأدبه المعتاد ، قال منير:
*تفضلي، اسألي.
- أول تلك الأسئلة، يتعلق بمقاييس نجاح الرواية، وهامش الخطأ فيها. مثلا، تعمل سيرين في طب الأسنان، حين تقدم دواءً لمريض يعاني آلاما، فإما أن يزول الألم فتكون قد نجحت في التشخيص والعلاج، أو تستمر معاناة المريض فيتضح أنها فشلت. . هل تسمعني؟
* نعم نعم،
- وحين تصلح طقم أسنان مثلا، فإن هامش الخطأ في هذا العمل شبه معدوم؛ لأن كل شيء يكون محسوبا بدقة.. بالمليمتر..
السؤال هو: لماذا لا يوجد في عالم الأدب هذا الفارق الواضح بين النجاح والإخفاق؟ ولماذا يتغاضى القارئ الخبير والناقد المتخصص عن الأخطاء، ويستمر في التصفيق مع الآخرين؟!
*أي أخطاء؟
- مثلا، حين يفشل الكاتب في التفريق بين همزة الوصل و همزة القطع، بين التاء المربوطة والهاء، الضاد والظاء، والتذكير والتأنيث، ويخطئ عشرات المرات في التعامل مع علامات الإعراب الفرعية، ولا يميز بين ما ينصرف وبين الممنوع من الصرف، وكثيرا مايضع الهمزة في المكان الخطأ.
ويصبح الأمر أكثر فداحة حين تعانده اللغة، فيصوّب على معنىً ويصيب معنى آخر بعيدا عما كان يقصده. 
هذه الأخطاء جميعها تشير إلى عدم امتلاك الأديب المادة الأساس لفنه.. اللغة.
ولا يمكن التغاضي عن ذلك، والقفز عليه بالحديث عن تقنيات السرد وغيرها من الأمور الفنية.
*هل هذا موجود في رواية سيرين؟
- نعم، لكنها للأسف ظاهرة عامة لدى كثير من الأدباء. 
أضف إلى ذلك أن في طب الأسنان-مثلا- لا يمكن أن تضع الأنياب في موضع الثنايا، ولا أن تكرم شخصا تحبه فتصلح له طقما بعشرين ضرسا، هل فهمتني؟
أتحدث الآن عن بناء الرواية، عن الزوائد والحشو، عن الأحداث التي لاتضيف للعمل شيئا، فضلا عن الأحداث والمواقف غير المبررة، التي لايقتنع بها القارئ. والتطورات التي لم تمهد لها الكاتبة، أو التي تحدث في الظلام، من دون علمنا. تشعر حينئذ أن خيط السرد متقطع، وأن أجزاء الصورة مفككة.
أنفاس منير الصائتة العميقة جعلت الدكتورة تتوهم أنه قد نام، صمتت فقال: "أيوه، أكملي". 
تبتسم، وتشعر أنه رأى ابتسامتها ثم تضيف:
- سيرين حاولت ألا تلتزم خطا زمنيا متصلا، فأكثرت الاسترجاع، وتعمدت التقديم والتأخير، خلطت الأحداث التي تجري في الواقع بتلك التي تجري في خيالات بطلة الرواية، وشريط ذكرياتها.
هذه لعبة خطرة، تتطلب إجادتها مهارة كبيرة.
* نعم، أوافقك الرأي
- لا أستسيغ قطع خط السرد بكثرة الاسترجاع والرؤى الحُلمية، والاستباق والمونولوجات. . كل هذا يشتت تركيز القارئ.

 

لم يتوقع منير أن تكون الدكتورة متحمسة للنقاش مطولا في هذا الوقت المتأخر من الليل. بدأ يبحث عن حجة لإنهاء المكالمة قبل أن ينفد رصيد الاتصال. وبقلب الأم التي تشعر بهواجس أبنائها، طلبت منه أن يقفل الخط لتتصل هي. اعتذر بأدب وارتباك، قائلا: "لا لا، عادي"، بينما
يرجوها في أعماقه أن تصمم على موقفها. . ثم فاجأه رنين الهاتف.
* أهلا يا دكتورة. أنت تسألينني وتقدمين الإجابات نيابة عني، لكن كل ما أشرت إليه، يتطلب منك تقديم أمثلة.
- أعرف، لكن لن يكون لدي الوقت لذلك.
*لماذا ؟
- سأكون واحدة من ستة متحدثين.
* وماذا ستفعلين؟
- برغم قناعتي أن الكاتب في بداية مشواره بحاجة لمن يبصّره، ويدله على أخطائه، إلا أنني سأتناول المستوى الشعري في لغة السرد. هذا أمر نجحت فيه سيرين إلى حد ما، وإن كانت صياغة بعض الجمل تبدو مرتبكة، ولا تتناسب مع جمال الفكرة التي تريد التعبير عنها، كما أن في الرواية ومضات حكمة، ووصفا بديعا لبعض الشخصيات.
إضافة إلى ذلك، سأعاتب الكاتبة على نجاحها في إشاعة جو الكآبة في كل فصول الرواية: مشاعر سلبية، سلسلة من الفقدانات، حزن بطلة الرواية على رحيل الأم، يتبعه الوقوع في أسر الذكريات، وبكاء وتقيؤات من الغلاف إلى الغلاف، ثم ذلك التعلق المرضي بالأب، الذي يدفعها لتشرع في القتل، ويكون ارتكاب الجريمة تلو الأخرى وسيلة للفوز برضى الأب والقرب منه.

 

تنهد منير تنهيدة انتهت بصفير اخترق أذن الدكتورة، وظن أن الوقت مناسب لمقاطعتها، فقال:
* هذا هو بيت القصيد كما أرى، موضوع الرواية، العلاقة الشاذة بين البنت والأب.
قاطعته الدكتورة بصرامة؛ فهي مثل الكاتبة سيرين حسن، تتهرب من سرد تفاصيل هذه العلاقة المحرمة، قالت:
- ليس الموضوع بيت القصيد، يمكن أن يجعل الكاتب من أي قضية بسيطة، قضية كبرى ومثيرة لاهتمام القارئ، بامتلاك أدوات فنه: اللغة بمستوياتها المتعددة، تقنيات السرد، رسم الشخوص بحرفية عالية، دفع الأحداث إلى الأمام، أسر القارئ ومفأجاته بالتحولات والأحداث.
*نعم نعم. لقد فاجأتني مرة واحدة فقط، حين كان الأب يتحدث عن رغبته في الزواج بينما كان قد تزوج فعلا. 
نظرت الدكتورة إلى الساعة، وقالت كالمعتذرة:
- منير، لقد طال نقاشنا، وعليّ أن أجري عملية لأحد المرضى في التاسعة صباحا. .
شعر منير بالحرج، وقبل أن يعتذر، دوى انفجار عنيف أفزعه، فصاح: "يا ساتر، انفجار". 
طال صمته، فقلقت الدكتورة، قبل أن تتمكن من سماع خفق قلبه، وهو يبحث عن النقطة التي انتهى إليها حديثهما، قالت:
- إشرب الماء يا منير، أنت بخير، إشرب الماء.
أراد أن يتناول قنينة الماء فسكبها على الطاولة، وقال بارتباك:
* سعدت بالحديث معك.
- خذ قسطا من الراحة الآن، واستأنف الكتابة غدا.
* لن أكتب شيئا. 
قال ذلك باقتناع، وأضاف:
سأعتذر، ذلك أفضل من إفساد الأمسية وإفساد فرحة سيرين بروايتها الثانية. يبدو أني قد تشبعت بالطاقة السلبية الموجودة في الرواية التي تبدأ بالموت وتنتهي بالموت.
ضحكت الدكتورة وقالت:
- سأرسل لسيرين وردة تنوب عني في حضور الأمسية، ربما يسعدها ذلك، وحين ألتقيها سأقدم لها ملاحظاتي.. ربما يكون ذلك أجدى. وهذا سيتيح فرصة لبقية المشاركين كي يقدموا آراءهم.
كان هاتف منير قد انطفأ، فلم يسمع أي كلمة مما قالت.

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
اختيارات القراء
  • اليوم
  • الأسبوع
  • الشهر
  • الأكثر قراءة
  • الأكثر تعليقاً