الأحد 22 سبتمبر 2024 آخر تحديث: السبت 14 سبتمبر 2024
نزهة عائلية.. رواية في انتهاك اﻷعراف - د.عبدالحكيم باقيس
الساعة 11:02 (الرأي برس (خاص) - أدب وثقافة)

 


"وهناك أطلق لأشجانه الحبيسة العنان، وجعل يندب حظه، ويحس بالندم، ليس لديه هذه المرة هدف يسعى إلى تحقيقه، إنه فقط دليل لفتى يرغب في أن يموت على النحو الذي يشرح أفئدة أهله وقبيلته، أما هو فإن موته إلى جانبه يعتبر موتًا هامشيًا، لقد جعله حظه السيئ يقف في قلب الأماكن التي وقعت فيها الأحداث المهولة التي عاشتها القبيلة، وكلما تنفس الصعداء إثر عناء سابق، أو أحس بفرح بنجاته إثر حادث، سرعان ما يعصف به حدث جديد وخطر محدق.." ص149.
 

هذه هي الرواية الخامسة لبسام شمس الدين، بعد رواياته (الطاووسة 2004، الدائرة المقدسة 2008، هفوة 2011، لعنة الواقف 2013) صدرت قبل أيام عن دار الساقي ببيروت، ولعلها الرواية الثانية في أعماله، التي تروي جوانب من حياة المهمشين اجتماعيا، بعد رواية (هفوة) التي تناولت موضوع اليهود في اليمن، غير أن نزهة بسام شمس الدين في روايته الأخيرة لا تنتقد الأوضاع الاجتماعية والأعراف القبلية التي تسود المجتمعات المحلية وتتحكم في شؤونها فتصبح سجنًا لمن يؤمنون بها فحسب، وإنما تتحول الرواية إلى مسبار لاختبار صدق هذه الأعراف والقيم القبلية وإبراز تناقضاتها.
 

تتناول الرواية خطًا سرديًا رئيسا يروي تفاصيل الحياة التي يعيشها (مأمون) الشاب الجزار الذي ينتمي إلى فئة (البَيَع)، والتي ينظر إليها بشيء من الانتقاص، بعد أن يجد نفسه متورطًا رغمًا عنه في نزاع بين قبيلتي آل طعيم وآل شهوان، حين تقوم الأخيرة باغتيال زعيم القبيلة الأولى في وسط السوق، ما يعد عيبًا وانتهاكًا للعرف القبلي الذي لا يسمح بذلك، ويشهد مأمون تفاصيل واقعة الاغتيال من عتبة باب دكانته، فيجد نفسه مضطرًا في تلك اللحظة للدفاع عن الفتى الصغير ابن الزعيم القبلي المقتول، الذي استنجد به حين دلف إلى دكانته، ويحول دون قتله، ويترتب على ذلك سخط قبيلة آل شهوان على مأمون، فيصبح متورطًا في هذا النزاع القبلي، وتتوالى مجموعة من الأحداث التي تستمر لأكثر من عشرين سنة تصف اتصاله وتبعيته لأسرة الشيخ القبلي المقتول، وما يحدثه ذلك من تأثيرات إيجابية وسلبية في مسارات حياته.
 

ينتقد بسام شمس الدين في هذه الرواية فكرة (الأعراف) حين تتحول إلى مجموعة من المبررات السلبية تسوقها بعض التقاليد القبلية، وتعيد إنتاجها وتكييفها بناء على رغباتها، حالات الانتهازية القبلية التي يمارسها زعماء القبائل، وتتحول رحلة مأمون وحركته في الفضائين القبلي قرية (كازم) التي تقطنها قبيلة آل طعيم، ومنطقة السوق ذات المباني، والتي تتجمع فيه الفئات الأخرى إلى مناسبة لنقد الأعراف الاجتماعية والقبلية السلبية التي تقسم المجتمع إلى فئات ثلاث: أبناء القبائل، الباعة، والأخدام، وتصف الرواية محاولاته فئة البَيَع الخروج عليها، يقول مأمون: "نحن وجهاء لدى أنفسنا، وسنظل كذلك، لا يهم ما يقوله الناس عن فئة البَيَع، إنهم يحترموني كثيرًا كإنسان طيب، ولكن على رغم أنفي أنتمي لفئة البَيَع، لا أدري لماذا تنتهك الأعراف الحسنة، وتبقى الأعراف السيئة دون مساس".
 

إن قيم الشجاعة والصدق والوفاء تتجسد في شخصية مأمون الجزار أكثر مما تتجسد في الزعيمين القبليين ناجي وحسون اللذان يتميز سلوكها بقدر كبير من الانتهازية وانتهاك لفكرة العرف القبلي الإيجابية.
 

ليست نزهة عائلية أول رواية تتناول البعد الاجتماعي الفئوي في البيئات القبلية المحلية، لكن الذي يميزها ـ من وجهة نظري ـ ذلك التركيز العمودي حول المفهوم الزائف للعرف القبلي، ومساءلته وانتقاده بقسوة، وبناء على ذلك ظلت الرواية تدور حول ثيمة انتهاك الأعراف، ويصل معدل تكرار مفردة (الأعراف) في الرواية عشرات المرات، حتى يظن القارئ أنها المفردة اﻷجدر أن تتبوأ مكان عنوان الرواية، تتعدد أشكال الانتهاك في الرواية التي تبدأ بانتهاك عرف قبلي، وهو عدم القتل في السوق القروي، وتنتهي بانتهاك آخر حين ينتقل القتل المدينة (السوق الكبير) حين تتجه قبيلة آل طعيم بكل أفرادها إلى المدينة، وكأنها في نزهة عائلية، في إصرارها من أجل تنفيذ عملية الثأر من القاتل الأول، (المنتهك الأول للعرف) فتتحول القبيلة إلى منتهكة لأعراف المدينة المسالمة، عندما يسقط في عملية الثأر المأسوية عدد من الأبرياء ومن بينهم أفراد القبيلة نفسها، وبين هذين الحدثين تتكرر في الرواية سلسلة من انتهاك الأعراف من وجهة نظر الذين يؤمنون بها، ومن وجهة نظر الذين لا يؤمنون بها كذلك، فمأمون الجزار ينقذ الفتى الذي لاذ بمحله من قبلية آل شهوان، وهذا انتهاك من وجهة نظر القبليين، لأن موقعه الاجتماعي لا يسمح له بأن يجير أحدًا، وقبيلة آل شهون ورئيسها (حسون) يتعامون مع اعتذاره خارج تقاليد العرف الذي سنوه، فيعذب ويسجن أسيرًا، وحين يخرج بعد مقايضة للأسرى بين القبيلتين يقرر حمل السلاح، وهذا خروج عن الأعراف، لأن العرف لا يسمح لفئة البَيَع بحمل الأسلحة، وتتوطد علاقة مأمون بقبيلة آل طعيم بسبب إنقاذ الفتى من القتل، لكنه يبالغ في مكانته عندهم، ويتدخل في شؤون القبيلة ومجالسها، وهذا اختراق للأعراف التي لا تبيح له المجالسة وإبداء الرأي، ويتعلم مأمون القراءة ويتفوق على أميي القرية، وينظر إلى ذلك بوصفه خروجًا عن الأعراف، ويُعلم مأمون ابنه حتى يصل الابن إلى مرتبة قائد مركز شرطة في القرية، ما يستدعي انصياع الجميع له بوصفه ممثلا للدولة ولفكرة القانون، وهذا خرق للأعراف كما يرى القبليون، لأنه مجرد ابن لجزار، وعندما يعمل مأمون وكيلا لأعمال أسرة شيخ قبيلة آل طعيم المقتول، يحقق تحسنًا في وضعه المادي، فيعيد بناء بيته الذي تهدم بفعل الحرب القبلية، لكنه يُبنى بهيئة أفضل من بيوت القبليين، وهذا في نظرهم تباهٍ لا يمسح به أن يصدر لمن ينتمي إلى فئة البَيَع، وعندما يتردد مأمون على المدينة يذهل من انتشار الأنشطة التجارية فيها، ويجد أن ممارسة التجارة جعلت الطبقة الأولى في المدينة من فئة التجار (أي البَيَع) فيقاوم فكرة الإذلال التي يتعرض لها في القرية، وهذا رفض لمنطق اﻷعراف القبيلية، وابنة مأمون تتزوج من منتصر حفيد الشيخ القبلي بعد أن تفر معه، وهذا خروج عن الأعراف فلا ينبغي أن تتزوج بمن في مكانته، وهكذا يتكرر فعل مقاومة الأعراف السلبية، والخروج الإيجابي عنها من وجهة نظر مأمون، ولكن من وجهة نظر القبليين يتكرر فعل الخروج السلبي عنها بالقتل في السوق، وتزييفها وإعادة تفسيرها من جهة نظرهم متى استدعت الحاجة لذلك.
 

 

قد يبدو عنوان الرواية مخاتلا للقارئ الذي لن يدرك شفرته إلا في نهاية الرواية، فالنزهة العائلية هي اجتياح القبيلة بكل أفرادها للمدينة للقيام بعملية الثأر القبلي، تصبح المدينة مكانًا مستباحًا للقيم القبلية السلبية.
 

من ناحية أخرى تحفل الرواية بعناصر إبراز التراث المحلي، بما ينطوي عليه من عادات ومظاهر فلكلورية، وتصوير دقيق للحياة الريفية واﻷمكنة والعلاقات الاجتماعية.

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
اختيارات القراء
  • اليوم
  • الأسبوع
  • الشهر
  • الأكثر قراءة
  • الأكثر تعليقاً