الأحد 22 سبتمبر 2024 آخر تحديث: السبت 14 سبتمبر 2024
قراءة في قصة "بالمؤبد" الفائزة بجائزة القراء - مصطفى لغتيري
الساعة 14:27 (الرأي برس (خاص) - أدب وثقافة)

 


تمتاز القصة الومضة بكونها فن الاختزال بامتياز، وهي بذلك تعد بنتا شرعية لعصرها الحالي المتسم بالسرعة  وطابع "الميكرو " الذي غزا جميع المجالات، حتى أن كثيرا  من مشروعية وجودها تتأتى من كونها سليلة هذا المحيط المكثف والمتسارع.
 

وبالفعل يلاحظ أنه في المدة الأخيرة نالت القصة الومضة حظوة كبيرة لدى الكتاب والقراء على سواء، وذلك بفضل قدرتها الفائقة على اختزال البحر مثلا في قطرة ماء، والشجرة في ورقة، والأفكار الكبيرة السيارة في إشراقة ذهنية لامعة،  خاصة إذا قيد لها مبدعون أفذاذ يستطيعون ضغطها في كبسولات، شديدة الأثر، قادرة على الاقتصاد في اللفظ مع تحقيق وفرة في المعنى.
 

ولا شك أن المتتبع  للومضات القصصية المشاركة في مسابقة غاليري في فن الومضة، وخاصة تلك التي تم اختيارها في المراحل الأولى، أو تلك الفائزة بجائزة لجنة التحكيم ومثيلاتها الفائزة بجائزة القراء، سيلاحظ- لا محالة - قدرة هذا النوع من الكتابة على حمل المعاني الكبيرة بما قل ودل، دون التفريط في الإمتاع، ضالة الإبداع الأدبي عموما.
 

وتعد ومضة المبدع المغربي عيسى ناصري نموذجا حيا للجدارة التي تتسم بها القصة الومضة كنوع كتابي حري بالاهتمام. يقول الكاتب:
 

بالمؤبد
رسم وجهه على جدار الزنزانة، صفعه طويلا.
 

فقارئ هذا النص سيبهره طبعا التكثيف القوي والفعال الذي ميزه، وغني عن القول أن التكثيف من أهم مميزات الومضة، وإذا نجح الكاتب في تحقيقه يكون بذلك قد حقق لومضته أحد مقومات النجاح الأساسية، فنحن هنا أمام جملتين تختصران مسار حياة بالكامل، فالتواجد بالزنزانة له ما قبله طبعا، وليس للقارئ سوى إطلاق العنان لمخيلته لبناء أحداث ما قبل التواجد بالزنزانة، وتخمين الأسباب المفترضة التي ألقت بصاحبنا بين جدران السجن، ثم يمكننا أن نتوقف عن كلمة "رسم" التي تبدو أحد مفاتيح النص، وربما تكشف المسكوت عنه، فالرسم يدل على أن صاحبنا فنان، وهنا تأخذ القصة أبعادا أخرى، إذ يرجح أن دخول السجن بسبب ممارسة الرسم، ويمكن أن نفكر كذلك في رسم الكاريكاتير تحديدا، الذي كثيرا ما أدى بممارسيه إلى غياهب السجون. وهنا تحديدا يمكن الحديث عن القيمة الإنسانية التي تحملها القصة ممثلة في حرية التعبير.
 

الجملة الثانية تضعنا أمام مفارقة درامية، تمنح النص بعده الإبداعي اللازب، وتبعده -بالتالي-عن السرد العادي لأحداث عادية، وترقى به إلى مستوى الإبداع، فعملية الصفع تدل على الندم، وهو عكس ما ننتظره من معتقل رأي- إن صح افتراضنا طبعا-، ففي الوقت الذي نتصور فيه أن يكون المعتقل فخورا بنفسه وبما قام به كنوع من البطولة، فإذا به يتقهقر نحو إنسانيته، بعيدا عن  التبجح  والدينكوشوطية، أو العنتريات الفارغة، فنجد الندم قد حاق به من كل جانب، فلم يجد سوى وجهه ليشفي فيه غليله صفعا، وقد يكون هذا الندم قد تولد عن الخذلان الذي لقيه هذا المناضل من قبل الناس، الذين لم ينشغلوا بمصيره، وهذا الأمر كثيرا ما يحدث خاصة في المجتمعات المتخلفة، التي يكون تضامنها مع معتقلي الرأي في حدوده الدنيا بل كثيرا ما يكون منعدما. ومما يرجح فكرة الكاريكاتير تلك السخرية اللاذعة في النص التي نجحت الكلمات في تحقيقها، فأصبحنا وكأننا أمام صورة كاريكاتيرية غنية بالمعاني الدالة.
 

إن القصة الومضة غنية بالدلالات التي تفتح باب التأويل على مصراعيه، وهذا ما حاولت القيام به، وبالطبع أحمل وزره وحدي حتى لا أحمل الكاتب تبعات ما لم يقصده، فالومضة ضاجة بالمعاني الكامنة و لعمري تلك سمة النص الناجح، الذي يسمح بتعدد القراءة والفهم والتأويل، وهكذا يستطيع كل منا التعاطي معه انطلاقا من وجهة نظره الخاصة دون التعسف على النص، وهذا ما أتمنى أنني تجنبته في هذه القراءة المتواضعة لومضة المبدع عيسى ناصري.

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
اختيارات القراء
  • اليوم
  • الأسبوع
  • الشهر
  • الأكثر قراءة
  • الأكثر تعليقاً