الأحد 22 سبتمبر 2024 آخر تحديث: السبت 14 سبتمبر 2024
مشهد اللاحياة في مدينة التسعينيين اليمنيين صنعاء من الأسطوري الباذخ إلى الوحشي المتآكل(2-3) - علوان الجيلاني
الساعة 14:34 (الرأي برس (خاص) - أدب وثقافة)

 


كثير من النصوص كتبت في هذه الظروف وأمثالها وهي تعكس إلى حد كبير الممارسات الفنية لشعراء التسعينيات... الذين نادراً ما شوهد أحدهم يدخل مكتبة عامة ليقرأ.
لطالما بدا هؤلاء المبدعون وكأنهم يعيشون حياة فراغ ولهو يحسدون عليه، ولكنه فراغ ولهو زائف.... فراغ الذي يراقب الحياة ولا يشارك فيها.... وفراغ الذي يعرف قيمة الحياة ومعنى الجمال فيها..... ولا يستطيع الاستمتاع به.

 

حياة منغصة بالعجز عن اقتناء كل شيء بما في ذلك الكتاب الجديد والقات الجيد.
حياة مطاردة بإيجار البيت وديون المطعم والبوفية والمقوّت... والمغسلة.... ونصف المرتب الذي يذهب أقساطاً بسبب الغياب عن العمل إن كان الواحد من هؤلاء موظفاً.
حياة يشكل بطؤها ورتابتها وتخلفها مفارقة واضحة مع شعور صاحبها بحداثة عالمه، حداثة الكتابة والأفكار.... التي يفترض أنها تتلازم تلازماً شرطياً مع الحداثة في كافة مجالات الحياة.... وهناك فرق لمن يريد أن يقارن وضع هؤلاء الكتاب بأوضاع كتاب أوروبيين... هناك تقوم ممارسة الحياة على الاختيار... وهنا تقوم ممارسة الحياة على الاضطرار.

 

من هنا يمكن لملمة (بنية الإحساس) بالحياة عند هؤلاء المبدعين، والحياة هنا تعني الكتابة؛ إذ الواضح أن ليس عند هؤلاء ما يدعون أنهم يحيونه غير الكتابة / غير الشعر.. وهو كما تقدم في هذه القراءة حياة تقدم طرقاً جديدة لرؤية العالم.. إذ العالم فيها مكسور النسق دائماً.. فهو يظهر على شكل لوحات... كل لوحة هي بحد ذاتها جغرافيا فرعية تقدم مشهداً خاصاً لذات خصوصية في ذوقها وتجربتها ومعرفتها بالحياة... ولذلك ستحاول هذه القراءة تقديم ديوراما أشبه ما تكون بتصوير مدينة من نافذة حافلة.... حيث تنقذف المشاهد باستمرار فيبدو فيها المتباين والمتجانس... وكل شيء ولا شيء.
عند الشاعر طه الجند ستبدو الأفضية في المدينة عالماً آخر.. ستبدو عالماً أجرد مظلماً..خالياً من الأحاسيس... عالماً يتخلى عن ما وعته ذاكرتنا عنه.. أقصد أوصاف الأدباء والمؤرخين والشعراء القدامى والمغنين... ولن نجد فيه إلا عالماً غامضاً يمثل الهامش الرطب الذي يوحي بالأسى فاتحاً ومرئياً إلى درجة فائضة عن المعقول:
لم أرها في مسودات المتأخرين
لم ألمح ظفائرها من بعيد
لم نلتق في ميدان عام
لم نتبادل أغصان القات في الأصيل
لم أنفرد بها في بستان السلطان
وأرتمي في حضنها شاكياً جور الزمان
إلى أين تشير أصابع الشعراء المنبوذين
لم أضع علامات على القبور
لم أسأل شيخي عبد العزيز
(أشياء لا تخصكم –إصدارات اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين 2004م – فقيد صنعاء ص15)

 

لا شك أن مدينة صنعاء كانت لردح طويل من الزمن مدينة من أكثر المدن ألفة وبساطة.. واندماجاً في الطبيعة، وقد ساعد عدد كبير من الشعراء والأدباء والمؤرخين والمغنين ليس في وصف جمالها وحسنها فحسب، ولكن في اختراع المدينة وتشكيل أخيلة الناس وإحساساتهم بها...
إلا أن أولئك المبدعين الذين كانوا من علية القوم –غالباً- (أهل منصب وجاه)قدموا لنا أفضية موصوفة من خلال تجاربهم مع الأماكن وحيواتهم وكيف يرون العالم... ولعلهم كانوا صادقين مع أنفسهم وهم يقدمون لنا عالماً علوياً للمدينة قد نستطيع تخيله من خلال أوصافهم الجميلة المثيرة للذكريات.. ولكننا لا نستطيع أن نجد فيما كتبوه تبصراً مشابهاً حين نتحدث عن تجربتنا الحالية مع هذه الأماكن... ثمة حقيقة مفادها أن الخصوصية الدقيقة للمكان قد تآكلت.. نص طه الجند كان يشير إلى كتابات متأخرة تجتر بوعي أو دون وعي كتابات المتقدمين عن صنعاء (لم أرها في مسودات المتأخرين) ثم تستطرد أداة النفي المتكررة لتنفي أي إمكانية للتعرف على المكان من خلال تلك الكتابات... لأن أصابعه وأصابع زملائه من الشعراء المنبوذين القاطنين في أسفل المدينة وعوالمها الرطبة تشير بالتأكيد إلى فضاء آخر تماماً.

 

الذين قدموا لنا صنعاء في إبداعاتهم من شعراء الأجيال والقرون السابقة كانوا يرونها من طيرمانات ومفارج عالية تطل على بساتين يرون خضرتها من رواشين غيمتها المباخر والتنباك الفاخر... ويسمعون ألحان طيورها وقد تماهت في أصوات مطربين يغنون أعذب ألحان الحميني (لله ما يحوي هذا المقام)، (صنعاء حوت كل فن)، (أحبة ربى صنعاء).
 

أما شعراء اليوم فيكتبون عن مدينة صنعاء من غرف رطبة عفنة امتزج فيها هواء الحمام غير المهوى -إن وجد- مع روائح أحذية رديئة ومهترئة.
ولعل في قول الشاعر (لم أسال شيخي عبد العزيز) إيحاء بالقطيعة التامة بين عالمين وفضاءين.. بين حياتين لا تلتقيان وليس بينهما وجه للشبه... سوى واقعية الاعتراف بأنهما يعيشان في نفس الفضاء الجغرافي.
الكتابة عن الفضاء المكاني لم تعد كما كانت فالتسعينيون أكثر من سابقيهم تناصاً مع أعمال عربية وعالمية وأفكار فلسفية.. وتقنيات كتابية مغايرة، وهم يبرعون في رسم تقاسيم المكان وإعادة خلقه في نص أدبي.. هو في المقام الأول سيرة ذاتية.. هذا شاب من أصغر شعراء المشهد التسعيني سناً، جاء إلى صنعاء أواخر التسعينيات مثقلاً بأحلام الحداثة والكتابة فكانت النتيجة:
(لا تعرف جيرانك في الشقة
لا تعرف أهل شارعك الجديد
لا تعرف من أنت
قلبك تفاحة
وصنعاء خنجر.......
(فتحي أبو النصر نسيانات أقل قسوة) إصدارات اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين 2004م (نص وحشة ص24)

 

إنها كتابة ترسم أماكن غامضة في مدينة لا يمكن أن تقدم عناية ولو في الحدود الدنيا لهذه الكائنات البشرية القادرة على الإبداع.
ويمكننا أن نقول إن نصوص هذا الجيل تقوم بتعرية هذه الأفضية الغامضة القاسية، وتطرح أسئلة حادة حول ارتباطنا بها خاصة حين تتحول إلى أفضية مجردة من أقل الصفات حميمية، إن شعورنا بحميمية المكان يأتي ببساطة من شعورنا بالجمال الإنساني فيه.. وسلاسة علاقاتنا اليومية فيه.. توفر الحياة الكريمة والنجاح في بناء علاقات عاطفية.... والشعور بالتساوي مع الآخرين في الطموحات وإمكانية تحقيقها.... لهذا اقترحت مقاربات المكان الأهمية الحيوية للإحساس بالانتماء إلى الكائنات البشرية؛ ذلك أن الوجود الإنساني الحقيقي يمتد وراء نطاق فكرة الموقع.. فنحن في الواقع نحدد أنفسنا من خلال الإحساس بالمكان.. قولك أنا من المكان الفلاني يعني أن هذا المكان أكثر من مجرد بقعة على الأرض، فهو يرمز إلى مجموعة من الصفات الثقافية المميزة... تتعدى الإشارة إلى أين نقطن.. فتشير إلى من أنت.

 

وبما أن القادم الجديد إلى مكان ما يحتاج ليتأهل اجتماعياً لأنماط السلوك الموجودة في تلك الأماكن... فإنه إذا كان قادماً من الريف بالذات سيشعر بفداحة ما يحدث له من تكييف –أحياناً- يكون قسرياً بفعل الظروف المعيشية بالذات.. 
لماذا نتحدث عن هذا الجانب ونحن نتحدث عن التسعينيين اليمنيين خاصة؟ الجواب دون عناء... أن المدن اليمنية وفي مقدمتها صنعاء التي تتموضع هذه المقاربة أفضيتها، وتعاين منتج التسعينيين الخاص بها، قد حدث لها تحول خطير بعد عام 1990م.. فنمت على نحو ضار.. نمت كركام لا يقتل القادمين إليها فحسب بل يقوض علاقة ساكنيها القدامى بأفضيتها... وكان سوء حظ التسعينيين أن جاءوا إليها محاطين بظروفهم الذاتية.... وظروف العالم من حولهم ليصطدموا بظروفها.. ويحاولوا عبثاً التكيف مع شروطها.. ولكنهم وجدوا أنفسهم يتحولون كل يوم إلى مسوخ تعوي نادبة خساراتها... كما في حالة أحمد السلامي:
- لا فراش لروحي المعلقة مهما اضطجعت
الجدات تموت وجلودنا تتجعد
مثل أرض زراعية أهملها الأهل
تركوها ليقودوا سيارات الأجرة
في طريق تبيع الخمر للنادمين
ونحن دون أن ننتبه
أكلنا نصف دجاج المدينة
وغدونا ثعالب ترتدي النظارات
(حياة بلا باب- إصدارات اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين –صنعاء 2002م- نص (تجاعيد) المقطع 70 –ص85)

 

لم تعد هناك أي صفة تعبر عن البعد الرمزي للجماليات المقدمة التي اشتهر بها المكان، كما أفصح النص السابق وكما سيفصح المقطع القادم للشاعر محمد المنصور:
كم يلزمنا من الوقت
لنخلع هذا العري
في المدينة التي تبيض أشجارها غباراً
وتمنح الوحل أظافر إضافية
(سيرة الأشياء- إصدارات اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين 2003م – نص (مواقيت ص11)

 

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
اختيارات القراء
  • اليوم
  • الأسبوع
  • الشهر
  • الأكثر قراءة
  • الأكثر تعليقاً