الأحد 22 سبتمبر 2024 آخر تحديث: السبت 14 سبتمبر 2024
القصة الومضة فن ما قل ودل.. - مصطفى لغتيري
الساعة 14:26 (الرأي برس (خاص) - أدب وثقافة)


 

برهنت مسابقة غاليري الأدب بالملموس أن فن الومضة ماض في طريقه بنجاح لتكريس نفسه كأحد الأجناس الأدبية المتطلعة بثبات نحو المستقبل، خاصة وأن النصوص التي جادت بها قرائح مبدعينا تتوفر على كثير من الاستحقاق لتمثيل هذا النوع الوامض من الكتابة، وتؤكد قدرته على التعبير على مختلف الثيمات والمواضيع ، وإن كان قانون المسابقة لا يسمح إلا بتتويج نص واحد ، فإن ذلك لا يلغي أبدا أحقية باقي النصوص في جلب الاهتمام، وهذا ما نتمنى أن نقوم به لاحقا في غاليري الأدب، وقد نفكر مستقبلا في نشر النصوص المنتقاة في كتاب، كما سبق وفعلنا مع نصوص الهايكو ونصوص القصة القصيرة جدا وغيرها.
 

وقد راعت لجنة التحكيم في اختيار النصوص توفرها على مقومات الومضة الناجحة من قبيل:
- التكثيف الذي يعني هنا تجويع اللفظ وإشاعة المعنى بشكل دال وفعال.
-الجملة السردية، بما يعني أننا إزاء فن سردي وليس شعرا أو خاطرة أو أي جنس أخر ، و أبسط تعريف له: حدث يتطور بشكل أفقي ليصل لغاية ما.
- الإبداعية ونقصد بها توفر موهبة الكتابة لإنتاج نص أدبي، إذ لا يكفي اللعب بالكلمات لإنجاز نص أدبي وخاصة في فن الومضة الذي يعاني من كثير من الاستسهال.
- الرؤيا ونقصد بذلك أن يتوفر النص على معنى إنساني عميق، يتفاعل معه القارئ مهما كانت خلفيته الثقافية.
- التوتر والرشاقة، ونقصد به أن يكون النص نابضة بالحياة، يجذب القارئ جذبا للتفاعل معها، ويتعلق الأمر هنا بالصياغة اللغوية بالخصوص.
-الشمولية، ونقصد به أن يكون النص كاملا متكاملا لا يحتاج إلى شيء خارجه ليتم معناه ، أي أن يكون نصا مكتفيا بذاته.
في دورتها الأولى استحق نص المبدعة زكية زيناتي التتويج ضمن مسابقة"ومضة وبورتريه"بعد أن نال أعلى تنقيط بالمقارنة مع باقي النصوص، حتى وإن كانت حصيلة نقط جميع الومضات متقاربة جدا لدرجة مربكة، وهذا يدل بالطبع على جودة النصوص المتبارية.

 

النص الفائز: 
"إبادة
على صفحات الحرية يخط قلم، تترقبه ممحاة من رصاص."

 

لعل أهم ما يثيره هذا النص في نفس المتلقي أنه كتب بدون بهرجة لغوية أو ادعاء، وهذا ما يميز في رأيي الإبداع الحقيقي، فببساطة خطت المبدعة زكية الزيناتي كلماتها القليلة في عددها، الثرية في مضمونها، واضعة القارئ وجها لوجه مع أعمق معنى ممكن بأقل عدد ممكن من الكلمات، وفي بناء جملتها عمدت الكاتبة إلى اختراق الرتبة النحوية فقدمت الفضلة" الجار والمجرور" على العمدة"الفعل" الذي جاء في النص على صيغة المضارع، مما منح النص بعدا ديناميكيا قويا، فنظن معه وكأن الحدث يقع الآن حيا أمام أعيننا، كما أضفى على الحدث بعدا تجسيديا لا غبار عليه، وقد تأكدت هذه الحركية في المتوالية السردية الموالية، حيث وظفت الكاتبة الفعل المضارع كذلك،"تترقبه" وهنا كذلك نجد الرتبة النحوية مخترقة، إذ تقدم المفعول به وهو الضمير"ه" على الفاعل "الممحاة" الذي جاء متأخرا، ولا شك أن هذا التلاعب بالرتبة النحوية منح النص بعدا جماليا لا ريب فيه، كما أن الكاتبة قدمت من خلاله نصا إبداعيا، يستثمر اللغة بطريقة جيدة، وهذا -لعمري-ديدن الإبداع، الذي لا يبدع باللغة فقط، بل ويبدع فيها كذلك.
 

وقد وظفت الكاتبة في قصتها المجاز في حدوده الدنيا، حتى لا ينزاح نصها نحو الخاطرة أو قصيدة النثر أو الشعر عموما، فعّبارة "صفحات الحرية" جاءت عفو خاطر الإبداع، ولا تبدو مفتعلة أو مقتحمة اقتحاما، وإنما تطلبها السياق، لتعمق المعنى المرتجى، فأدت وظيفتها بكثير من التوفيق. ولعل ذلك مما يجب أن ينتبه إليه كاتب الومضة والقصة عموما، حتى لا يغرق في بحيرة المجاز، فيفقد نصه هويته.
 

كما يمكن أن نلاحظ أن العنوان يتكامل بنيويا مع النص، فقد ساهم في تعميق الإحساس بثيمة النص، وهو ما يبدو جليا ومبررا بعد نهايتنا من قراءة القصة المومضة، فلا كلمة أحق من الإبادة للتعبير عن مأساوية الوضع، الذي يفجره الصراع الأبدي من أجل الانعتاق من براثن الظلم والاستغلال والعبودية.
وبما أننا أمام نص في فن الومضة، فإن الكاتبة كانت واعية بأنها أمام فرع ينتمي إلى شجرة السرد،  وهذا ما جعلها تخلق متتاليتين سرديتان، يتطور فيها الحدث بشكل فعال، فهناك فعل نية الكتابة ، ثم هناك الكتابة ، ثم المرصد والانتظار الذي سيتبعه بطبيعة الحال فعل المحو، إننا أمام مشهد درامي ، يتوفر على الفاعل السردي والمعيق للفعل، ضمن صراع درامي استطاعت الكاتبة التعبير عنه فيما قل ودل.

 

أما على مستوى الرؤيا، فلن يعزب عن الذهن أبدا القيمة الإنسانية للنص، فلا يمكن للحرية إلا أن تظل قيمة القيم التي يناضل الإنسان من أجل تحقيقها بشتى الوسائل، ممثلة هنا بالقلم، وستظل هذه القيمة تحارب بشتى الوسائل، وقد رمزي لها الكاتبة هنا بالممحاة، والمملكة من رصاص، وفي ذلك تعامل ذكي، فالحياة تحيل هنا على قلم الرصاص، لكنها كذلك تحيل على الرصاص القاتل الذي يعد الوسيلة القذرة لتصفية دعاة الحرية.
 

لقد عبرت الكاتبة من خلال هذه الومضة على معنى كبير، موظفة أسلوب التلميح والرمز، فأجادت، إذ لا يمكن إلا أن ترسخ هذه القصة في أذهاننا قيمة الحرية، والأهم من كل ذلك قيمة الإبداع الأدبي الذي يمكنه أن يعبر عن أكثر المواضيع تعقيدا بما قل ودل، وقد نجحت الومضة بقلم المبدعة زكية الزيناتي في ذلك نجاحا مبهرا، استحقت معه التتويج بأول مسابقة في فن الومضة نظمها غاليري الأدب.

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
اختيارات القراء
  • اليوم
  • الأسبوع
  • الشهر
  • الأكثر قراءة
  • الأكثر تعليقاً