الأحد 22 سبتمبر 2024 آخر تحديث: السبت 14 سبتمبر 2024
تجربة التسعينيين بين المعايرة والمعاينة أفق الاختلاف من العناوين.. إلى النصوص (6-6)..- علوان الجيلاني
الساعة 15:49 (الرأي برس (خاص) - أدب وثقافة)

 


يمكننا في هذا السياق أن نتوقف قليلاً لمعاينة بعض هذه التجارب، ولنأخذ على سبيل المثال تجربة الشاعر جميل مفرح في مجموعته (العراجين) لنتساءل: من توقف من النقاد عند هذه المجموعة؟ قارئاً مقترحاتها الدلالية المنزاحة التي تترتب على استبدالات المدلول الصوفي للألفاظ والتصورات؟..
يمكننا أن نتبين جزءاً كبيراً من اشتغالات هذه المجموعة الصغيرة التي كان منتج الحالة الشعرية فيها اللفظ الصوفي بانزياحاته الدلالية المختلفة.. وعبر الإفادة من مصفوفة ألفاظ صوفية منها: (المعنى، الفضاء، المدار، الألق، يد الغيب، الهجس، الوحي، الحيرة، اليقين، الترتيل، الفاتحة، الوجد، المعراج، الوارد، المسجد، السجود، الركوع، الإطراق، الروح، الصلاة، التواجد، المنهل، الغربة، الخشوع، الجهر، السر، التسبيح، التوق، الغياب، الحضور، الوله، الصحو، التشبيه، الكناية، قطرة السماء، يد الغيب، فضاءات التجلي، عراجين البهاء، برق الفوات، رياضة القلوب.. إلخ).

 

 

فهي مصفوفة لفظية صوفية تحول النص إلى ملاذ لخطاب الشاعر، فالنص هنا مستقبل الخطاب ومستوعبه، فهو يتوجه لغوياً ودلالياً من نفسه إلى نفسه؛ لأن الشاعر يوجهه من نفسه إلى نفسه، ولذلك سيبدو النص فاقداً لليقين شأنه شأن النص التسعيني في تجلياته الشكلية الأخرى.. لنعاين معاً نص (العراجين) الذي تسمّت به المجموعة:
طالت مسافاتي إليكِ
تناسلت حولي جهاتي
شاخ الحريق ولا أزال
أراك في نفَس الأواتي
يا نكهة الرؤيا التيقظ
لم يدعك فكيف آتِ
أشعلت بي ورق التي
فخبت عناقيد اللواتي
أدمنت إدماني عليك
وعشت كي يحيا مماتي
فنأيت يا سببي اليتيم
وأنتِ دانية كذاتي
أذكيت هاجسك اللذيذ
على رئات الأمنيات
فأمال عنواني الحنين
إلى رصيف الذكريات
حاذرت أحجار التعثر
فانزلقت على حصاتي
حتى اتكأت إلى رجاك
أسوق قرباناً حياتي
كم في عراجين البهاء
علقت يا شغف التفاتي
فكبوت وانكسرت رؤاي
ونمت في كف العصاة
يكفي فما أكل العصاة
سواك يا شغب الدواة
هش اليقين على مداك 
فلاح لي برق الفوات
وسجدت فاندلقت على 
رمل انهزاماتي صلاتي

 

مفرح يؤكد في نصه العمودي على رفض تلك المرجعيات السابقة، ويعلن عن رغبته في الانشقاق على كل موجودات رفض المرجعيات المتحكمة في وجوده.. مع ما يخلقه ذلك الانشقاق من أزمة طاحنة لوجدانه.. فهو يعتبر الذاكرة عبئاً وقبواً قديماً خانقاً، أو جداراً ملطخاً بالمرويات التي صارت مخيلة الشاعر المختلفة اختلاف واقعها الجديد تفز منها وتقشعر بسبب تداخلها بصوته الذي لم يعد ينظر لحضورها فيه بوصفه مباركة له أو تطويباً، بل ينظر إليها بوصفها شتاءً بارداًَ يتعب ذلك الصوت ويمرضه.. ولكنه شأن التجربة التسعينية في كل تجلياتها، سيشعر بعد انشقاقه على ذاكرته بعدم التوازن وبالعدمية، وهو لا يندم بل يرتاح؛ لأنه صار يتحقق بذاته حتى لو كانت هذه الذات تساوي اللاشيء.. كما سنفهم ونحن نعاين نصاًَ آخر هو (تنهيدة في دمي):
كقشة من أعاصير المنى تهوي
أضعت في زمجرات المشتهى شدوي
تركت قلبي مع التسويف منطلقاً
فتاه في آية من سورة السهو
زلت به في سرابات الهوى قدم
مخلوقة من شظايا الوهم واللهو
فظن أن السماوات التي اتسعت
من حوله جنة في العالم العلوي
تقاذفتني رياح التوق من عبث
حلو إلى عبث أشهى من الحلو
لكنني لم أجدني غير ذاكرة
تلطخت في جدار السالف المروي
أحسست شدوي -وقد هزت مخيلتي
بصفعهم – في دمي تنهيدة تدوي
هذا مداهم.. فهل لي أن أفارقه
غامرت لما اعتزمت النأي عن قبوي
عانيت يادفء صوتي من شتائهم
ولم يكن لي مقام في الهوى الشتوي
أدليت في جوعهم بالنبض مشتعلاً
حباً فما عاد لي حبي ولا دلوي
وها أنا في يد اللاشيء أدركني
ما جئت في نهجهم قبلي ولا تلوي

 

ثمة سمة أخرى في النص العمودي التسعيني تتجلى في كونه جزءاً من لعبة الوجود.. الوجود بشكل عام.. ووجود الشاعر بشكل خاص، بما يمتلئ به من مفارقات:
للحزانى وإن تباكوا أغانٍ 
حالماتٌ تبرَّأتْ من شقاها
وأنا سيِّدُ الطروبينَ, لكن
حرَّزتْني مواجعي من سواها
كان لي موسمٌ لنيل الأماني
فجأةً ضاعَ في حسابي وتاهَ
أزِفَ الآنَ يا بساتينُ نأيي
عن حكايا الهوى وعمَّن حكاها
لم أعد فيكِ برعماً ودِّعيني
قطف الزيفُ بسمتي في صباها
وهو دفقة الشعور الذي يتكشف للنفس في ذاتها حين لا يجدي إلا الغناء بكل ما تعنيه الكلمة:
نبهتني أن لي قلباً وعاطفة
لقنتني روعة التسبيح تلقينا
إن الصلاة التي طالت.. تقربني
مني فأدري لماذا قدسوا الطينا

 

فأين هموم وأثر اشتغالات البردوني أو مجايليه من الشعراء بالمحمولات الأيديولوجية التنويرية والتثويرية لتلك الاشتغالات في النماذج التي أوردناها من نصوص جميل مفرح العمودية.. وأين نجدها في تغريد النص العمودي للشاعر أحمد الزراعي خارج سرب المعنى المألوف، والقول المألوف كما يعلن عن نفسه في هذا النص مؤكداً هو أيضاً على اللايقينية، وعلى عدم الاكتمال، مقابل تمجيد الاعتراف بجماليات النقص رغم حرقة ذلك الاعتراف:
أنا 
الطائر 
المجهول 
في 
كل 
رفة
بكل 
بروق 
الأرض 
لم 
يكتمل 
عشي

 

النص العمودي التسعيني أيضاً لا يخلو من الوثبات المثيرة للدهشة، التي كانت تمتثل لإحدى مقولات الحداثة التي شاعت قبل منتصف التسعينيات.. وهي أن النص الجديد بمقدار ما هو خلق لعلائق جديدة من الألفاظ ومدلولاتها هو أيضاً كون من الصور التي لا يحد تدفقها حد.. وقد كان بحر الوافر فضاءً أكثر قبولاً لاستجابة النص العمودي التسعيني لتلك المقولة.. كما تؤكد ذلك نصوص كثيرة للشعراء أحمد الزراعي، جميل مفرح، علي جاحز، عبد المجيد التركي، علي ربيع، حتى إن العدوى انتقلت إلى شعراء مميزين ولكنهم أقل احتفالاً بمقولات الحداثة مثل الشاعرين سليمان معوضة، إسماعيل مخاوي، وغيرهما.. ولعل هذا المجتزأ من نص شهير للشاعر أحمد الزراعي يدلل على ما ذهبنا إليه:
من الأسرار في لغتي نزيفُ
به حامت على البحر الهضاب
تلحن في عروقي الأرض عمراً
وتنأى في أقاصيها الرحاب
وألمح في مصابيحي الصبايا
أزاهيراً فتشتعل الرغاب
فأكتب غامض الأكوان سطراً 
وعشقي فيه للأكوان باب
أيشربني سؤال من حنين
على ظمأ وأنتِ له الجواب
وألقاها على أبراج حلم
ويلقاني على الريق العذاب

 

مرة أخرى، وحتى نكون حقيقيين يجب أن نؤكد على جزئية هذا الاشتغال في المدونة العمودية التسعينية.. فإذا كانت تجارب شعراء مثل علي جاحز، علي ربيع، عبد المجيد التركي.. ستندرج في هذا السياق، فإن تجارب هذا المنحى الجزئي في قصيدة العمود التسعينية سيتجاور أيضاً مع تجارب عمودية أخرى.. حفرت كل تجربة منها مجراها الخاص بها... كما في تجربتي الحارث بن الفضل الشميري وإسماعيل مخاوي.. وهما تجربتان لم تنشدّا إلى الحاضر بنفس المواضعات التي ذكرناها بما فيها الإفادة من اللغة الجديدة لنصي التفعيلة والنثر... شأن التجارب المشار إليها.. ولكنهما أثبتتا لنفسيهما مكانة كبيرة في المشهد الشعري لجيل التسعينيات.. بتراكنهما على ثلاثة متكآت معروفة في تقاليد الشعرية العربية، تتأسس في الموروث الشعري بكل روافده، والموهبة الكبيرة، والإحساس الحار بمواضيعهما.. سواء كانت تلك المواضيع ذاتية أو عامة...

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
اختيارات القراء
  • اليوم
  • الأسبوع
  • الشهر
  • الأكثر قراءة
  • الأكثر تعليقاً