الأحد 22 سبتمبر 2024 آخر تحديث: السبت 14 سبتمبر 2024
"أولاد الغيتو" لالياس خوري: حكايات وشظايا من "الصندوق الفلسطيني" - عمر شبانة
الساعة 16:51 (الرأي برس - أدب وثقافة)



 
ما بين "رجال في الشمس" - خزّان الفلسطيني غسّان كنفاني، وبين صندوق وضّاح اليمن، والمصير التراجيديّ للشاعر العاشق، تحضر حكاية ومأساة "غيتو اللدّ" التي تنتهي بـ"محرقة" لجثامين الضحايا الفلسطينيّين، بأمر الضابط الإسرائيليّ في قوّات "تساهال"، ولكن بالأيدي الفلسطينيّة، لتعيد تمثيل "محرقة" نازيّة لليهود باليد اليهودية.. في ما يشبه "مصادفات القدَر".

 

لن أقدّم عرضًا للرواية (صدرت في دار الآداب، 420 صفحة، 2016)، هي غير قابلة للعرض.

فقط للتعريف بمنطلقها وعنوانها، نستعير ما كتبه آدم، الراوي/ البطل، كما جاء على غلافها الأخير: لا تعرف منال معنى كلمة غيتو، أو من أين أتت، كل ما تعرفه أنّ سكّان اللدّ سمعوا الكلمة من الجنود الإسرائيليّين، فاعتقدوا أنّ كلمة غيتو تعني حيّ الفلسطينيّين، أو حيّ العرب، مثلما قرّر الإسرائيليّون تسمية سكّان البلاد الأصليين. وحده مأمون كان يعرف.. الغيتو هو اسم أحياء اليهود في أوروبا". وهو يسخر من هذه التسمية العنصريّة، فيستكمل "هؤلاء الحمقى لا يعرفون أنّه لا توجد في بلادنا غيتوات، وأننا نطلق على أحياء اليهود اسم حارة اليهود، كغيرها من حارات المدن..".

وكما يبرع الياس خوري في خلق الشخصيّات، وليس آدم/ البطل سوى نموذج، رغم أنني أحببتُ شخصية مأمون "الضرير" في إمكاناته العجيبة، فإن روايته تقوم على "الإيهام" بالواقع، في جوانب كثيرة منها، ففي مقدمتها يظهر هو بصفته الأستاذ المحاضر في إحدى جامعات نيويورك، ليقول إنه حصل على مخطوط كتاب للمَدعو "آدم"، من خلال الفتاة الكورية "سارانغ لي"، وهي تلميذته وصديقة "آدم"، وقد أرسل (خوري) المخطوط، بعد الاشتغال عليه، إلى "دار الآداب" بهدف النشر.

يوضح: "استحوذت فكرة جهنَّمية على تفكيري، وهي أن أسرق الكتاب وأنشره باسمي، هكذا أكون قد حقَّقت حلمي في كتابة الجزء الثاني من رواية "باب الشمس"، وهو أمر عجزت عن القيام به". كأنّ خوري أراد جذب انتباه القارئ بخصوص هويّة "البطل- آدم"، ليشغلنا بمتابعة هذه الهوية الفلسطينية التي هي في أساس الرواية، لذلك فهو يسمّيه بـ"الإسرائيليّ الذي يتقن العربية، أو هذا الفلسطينيّ الذي يتكلّم العبريّة كأبنائها و.. لا أدري لماذا خطر لي أنه قد يكون عميلًا للموساد الإسرائيليّ".

وفي المقابل يُبدي آدم، من خلال علاقته وأحاديثه مع الفتاة الكورية، عدم ارتياحه تجاه الياس خوري، فهو لا يحب روايته "باب الشمس" مثلا. ويرى أن "يونس (بطل "باب الشمس") أكثر واقعية من هذا الكاتب اللبناني الذي شوّه صورته في رواية "باب الشمس". كما أنه يتّهمه بالكذب "رأيت مؤلّف رواية "باب الشمس" يقف إلى جانب المخرج الإسرائيلي الأصلع، ويقدّم نفسه بوصفه خبيرًا في الحكاية الفلسطينية، ويكذب" (المقصود هو زيارة المخرج الإسرائيلي حاييم زيلبرمان إلى نيويورك لعرض فيلمه "نظرات متقاطعة"، بحضور الياس خوري، كما في المقدّمة).

وللمزيد من الإيهام، يخبرنا خوري "أنّ هذا الكتاب يكشف حقيقة لم ينتبه إليها أحد، وهي أنّ الفلسطينيّات والفلسطينيّين الذين استطاعوا البقاء في أرضهم، هم أولاد الغيتوات الصغيرة التي حشرتهم فيها الدولة الجديدة التي استولت على بلادهم ومَحَتْ اسمها، فقرّرت أن أضع لهذا الكتاب عنوان "أولاد الغيتو"، وبذا أكون قد ساهمت، ولو بجزء يسير، في كتابة رواية لم أستطع كتابتها".  

 

وضّاح اليمن.. نوفيلّا

 

بعد المقدّمة، يأتي خوري بقصّة "وضّاح اليمن"، وهي كما أرى "قصة طويلة"، أو "رواية قصيرة" (نوفيلا)، تمكن قراءتها مستقلّة. إذ عبر حوالي ستين صفحة، ومن خلال سبعة "مداخل" يعيشها وضّاح مع عشيقته "أمّ البنين"، زوجة الخليفة الوليد بن عبد الملك.. تنتهي بـ"مدخل الصمت".. ورغم ما تنطوي عليه القصة من  جماليّات وإبداع، يأتي التساؤل هنا عن ضرورة دمج هذه القصّة، قصة "وضّاح اليمن"، الشاعر العاشق الذي لم يصرخ وهو يسمع الخليفة يعلن نيّته بدفنه في البئر حيّا، هو وصندوقه الذي يختبئ فيه..، مع قصة "غيتو اللدّ" وأهله، ولماذا لم يصرخوا رغم هول المجزرة التي ارتكبت في "جامع دهمش" أوّلا، ثم "الغيتو" الذي سُجنوا فيه، ثانيا؟  

وفي قصة "وضّاح" نفسه، يحقّ للقارئ التساؤل عن "السهولة" التي سلّمت بها أمّ البنين صندوقها، الصندوق الذي يختبئ فيه عاشقُها وضّاح، إلى زوجها الخليفة، ولم تصارع من أجل الاحتفاظ به، رغم ما ينطوي عليه تسليم الصندوق من مغامرة اكتشاف وضّاح في داخله، أي التأكّد من "الخيانة"، وما يمكن أن ينجم عن هذا الاكتشاف للخيانة من مصير لها ولعشيقها معا؟ ولماذا ترك المؤلّف مهمّة التضحية لوضّاح فقط، ولا نعلم عن مصير عشيقته، فهل هي مجرّد "جارية" عند الخليفة؟ وغير ذلك من أسئلة يمكن أن تثيرها هذه القصة.

أكتب عن هذه الرواية، كما قرأتها بمتعة وسلاسة، ولكن مع شعور بتعقيد في الحكاية/ الحكايات التي تتناسل من بعضها، لكثرة ما تشهد الرواية من "استطرادات" وتفريعات وتشعّبات. ونبدأ بالتعرف على "البطل"، آدم دنّون "ابن التراب"، الذي سيترك مجموعة أوراق ودفاتر جمع فيها "شظايا" حكاية "الغيتو"، بما فيها حكايته هو قبل أن يقرر الهجرة إلى أميركا، ويواصل من هناك الكتابة، بحثا عن الذات، فيكتب الرواية المبتورة لوضّاح اليمن مع عشيقته أمّ البنين (روض) زوجة الخليفة، فالقصة – بحسب وصف آدم لها "استعارة كبرى، استعارة كونيّة صنعها شاعر عربيّ مغمور، عاش في العصر الأموي، ومات كما يموت الأبطال"، لكنه يتركها ناقصة، وينتقل لكتابة حكايات "غيتو اللدّ".  

 

في تصنيف الرواية

 

باستخدامه أسلوب الراوي/ البطل/ الكاتب، ورغم أن هذه التقنية/ الحيلة شائعة في الرواية العالمية، فضلا عن العربية بالطبع، ينجح الياس خوري في الفصل، فصلاً تامّاً، بينه كمؤلّف أوّل وبين المؤلّف الافتراضي، أو ما أسمّيه "كاتب الظلّ"، لجهة القدرة على بناء شخصية "بطل" ومؤلّف بعيد كلّ البعد عن شخصيته التي نعرفها، لكنّ ظلال الياس خوري وروحه وآراءه حاضرة بقوة، كما هي في أعماله كلّها، وخصوصا في "باب الشمس"، وحيث "الدكتور خليل" يروي في تلك الرواية التي يمكن اعتبارها الأخت الكبرى، وربّما الأمّ لـ"أولاد الغيتو..".

لكنّنا، هنا، أمام "أكثر" من مجرد رواية. هل هذا مديح؟ لا، أبداً، هو توصيف لعمل لا أعرف إن كان صاحبه أراد أن يتجاوز حدود الرواية، حتّى إنه هو نفسه لا يمكنه تصنيف عمله هذا. لا يعنيني التصنيف كثيراً، أو قليلاً، فهذا عمل الناقد، وما يعنيني هو أن الكتابة عن "أولاد الغيتو.."، هي عملية معقّدة لجهة كثرة العناصر المكوِّنة للرواية، وتعقيد العلاقات بين مكوّناتها. فهنا يكتب الياس خوري، لا بوصفه روائيّا فقط، بل أيضاً بوصفه ناقدًا أدبيّا (عرفناه ناقداً في كتب عدّة)، وباحثا منقّبًا في التاريخ، ومثقّفًا كبيرًا أيضًا. وبذلك فهو واحد من أبرز من كتبوا "الرواية الشفويّة" للفلسطينيّ، للردّ على بعض مؤرّخي "النكبة".  

ومن بين حِيَل المؤلف، أن يقول بلسان آدم "سوف يلاحظ القارئ أن هذه الدفاتر تتضمّن نصوصاً غير مكتملة، تزاوج بين الرواية والسيرة الذاتيّة، وبين الواقع والتخييل، وتمزج النقد الأدبيّ بكتابة الأدب. لا أعرف كيف يمكنني تصنيف هذا النصّ من حيث الشكل أو المضمون، فهو يمزج الكتابة بكتابة تمهيدية، ويخلط السرد بالتأمّل، والحقيقة بالخيال، كأنّ الكلمات تصير مرايا للكلمات، وإلى آخره...".

وربّما لا يعنيني رصد الحكايات وتناسلها، فهذا عمل يتطلّب دراسة وحده، لكثرة الحكايات ولكثرة من "يحكون"، وبحسب تعبير آدم، في وقوفه على كل شخصية، فلكل منها روايتها. لكن قد يعنينا نحن قرّاء الرواية التعرّف إلى "آدم"، الذي يحاول بدوره التعرّف إلى "هويّته"، وماضيه وأصوله، فلا يعرف سوى القليل، هو المولود لعائلة فلسطينية من قرية دير طريف، ناحية الرملة القريبة من اللدّ. من دون الوصول إلى نتيجة مقنعة حول أصوله لجهة والده البيولوجيّ تحديداً.

وفي محاولة تجمع رؤيته النقدية، إلى تساؤلات الهوية- هويّة آدم الفلسطينيّ، تأتي تأمّلات الياس خوري، على لسان آدم نفسه "أرهقني العمل على تأليف نفسي.."، ثم يدخل في مقارنة بين مقالة لوليد الخالدي عن "سقوط حيفا" وبين رواية كنفاني "عائد إلى حيفا"، ليكتشف أن شخصية "آدم" أكثر تعقيدًا من "خلدون- دوف"، إذ إن "آدم صار إسرائيليا باختياره، وألّف قصّته كي تكون حيلته في الحياة، أمّا دوف فساقته الأقدار إلى موقع الضحية – الجلاد، ولم يكن يملك خيارات أخرى.."، كما أن آدم "أكثر قربًا من شخصية سعيد أبي النحس المتشائل في رائعة إميل حبيبي.."، مع أن شخصية سعيد، كما يتحدّث عنها آدم نفسه "جرى تركيبها على النمط الكانديديّ كي تنقل تجربة المقاومة عبر التعامل، أو التعامل عبر المقاومة، وتقدّم شخصية رمزية تختزل معاناة الفلسطيني في دولة إسرائيل. أما أنا فلم أتعاون ولم أقاوم، ولستُ مركّبا انطلاقا من أي نموذج، وحكايتي لا تختزل سوى حكايتي، ولا أريد أن أكون رمزا..".

 

بين "وضّاح" وأولاد الغيتو

 

ولمّا كنّا منذ بداية الرواية، نجد أنفسنا أمام حكاية "أجمل عاشق في تاريخ الحب عند العرب"، كما يصف آدم حكايةَ الشاعر العاشق "وضّاح اليمن"، في محاولة من المؤلّف للربط بين وضّاح اليمن و"رجال في الشمس" كنفاني، عبر سؤال "لماذا لم يدقّوا جدران الخزّان" في ما يتعلّق بـ"رجال.."، وسؤال "لماذا لم يصرخ؟"، في ما يتعلّق بوضّاح، فإنّ أحد الأجوبة يكمن بالقول إن وضّاح "رمز فلسطيني، والقصة استعارة إنسانية عن الفلسطينيّين وكل المضطهدين، فهو كان شاعرًا وعاشقًا وشهيدًا للحبّ، وصندوق موته (قبره) هو صندوق حبّه..".

أمّا في ما يتعلّق بأهالي "غيتو اللد"، فالسؤال الأهمّ من الحكايات كلّها، هو الذي يحضر في نهايات الرواية، وهو شبيه بسؤال الخزّان والصندوق، لكنّه يتعلق بمجازر مدينة وأهلها: "لماذا لم يهربوا؟" بعد ما شهدوه وشاهدوه من مجازر، خصوصا ما يتعلّق بمجزرة جامع "دهمش" وآثارها المرعبة؟ وهذا السؤال هو ابن الحكايات، وهو يشكّل ردّا ساطعا على سؤال شائع يتعلّق بهروب الفلسطينيّ وتخلّيه عن بيته وأرضه، بل بيع أرضه كما في بعض الروايات؟ 

كما أنّ الحكايات التي يسردها آدم، وكما يقول في "العتبة" الأخيرة من الرواية "لا تنتهي، وإذا كنتُ سأواصل الحفر في ذاكرات الآخرين كي أرمّم ذاكرتي المنسيّة، فإنّ عليّ أن أكتب آلافَ الصفحات.."، كما أن هناك كتّابا من اليهود الإسرائيليّين الذين عاشوا "النكبة" كتبوا عن اللدّ، ومنهم يزهار سميلانسكي في روايته الشهيرة "خربة خزعة" (1949)، التي يذكرها خوري في روايته هنا، بل يورد تفاصيل ذكرها سميلانسكي حول "غيتو اللدّ"، والفارق الوحيد بين خوري وسميلانسكي، أن خوري يتعامل مع شخصيّات من لحم ودم وأسماء، فيما يكتفي الكاتب اليهوديّ بذكر بعض الحالات كأنّها مجرّد أرقام في الذاكرة.

ولعلّ قارئ الرواية يتساءل، مع كاتبها "لماذا جلب المخرج اليهوديّ الفرنسيّ كلود لانزمان (مخرج فيلم "شُواه"- الهولوكوست)، رجال الـ Sonder Commando إلى اللدّ؟"، وماذا عن احتمال لقاء "هؤلاء التعساء بمُراد العَلَمي ورفاقه الذين قاموا بإحراق جثث اللدّاويّين، بناء على أوامر رجال "تساهال"؟ صمت مراد يشبه صمت وضّاح اليمن.."، ومع قوله "لا أريد المقارنة بين الهولوكوست والنكبة، فأنا أكره مقارنات من هذا النوع.."، فإذا لم يكن المؤلّف (خوري أو آدم) يريد المقارنة، فلماذا يأتي بهذه الحادثة إذن؟ هل لأنه يدرك ما فعلته الحركة الصهيونية "التي حوّلت اليهود من ضحايا إلى جلّادين، وحطّمت فلسفة المنفى الوجوديّ اليهوديّ..".

كثيرة هي الأسئلة التي تثيرها الرواية، ولكن يبقى، أخيرًا ربّما، ردّ الياس خوري على سؤال إدوارد سعيد حول كون الفلسطينيّ "ضحيّة الضحيّة"، فهو يجعل بطل روايته آدم يخوض متاهة البحث عن هويّته الشخصية، للوصول إلى هويّته الوطنية، وعبر ذلك يخترع حكاية اعتقاده بأنه ربما كان ابن اليهوديّ البولندي "يتسحاق"، الهارب الناجي من "غيتو وارسو".. فلماذا يخترع الياس خوري هذه الحكاية، مثلا؟

منقول من الضفة الثالثة..

 

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
اختيارات القراء
  • اليوم
  • الأسبوع
  • الشهر
  • الأكثر قراءة
  • الأكثر تعليقاً