الأحد 22 سبتمبر 2024 آخر تحديث: السبت 14 سبتمبر 2024
تجربة التسعينيين بين المعايرة والمعاينة أفق الاختلاف من العناوين.. إلى النصوص(3-6) - علوان الجيلاني ...
الساعة 15:21 (الرأي برس (خاص) - أدب وثقافة)

 


مقابل الخط السري المتصاعد لاشتغالات نبيلة الزبير.. يمكن أن نتناول مثالاً أنثوياً آخر هو الشاعرة هدى أبلان، السباقة إلى افتتاح زمن التسعينيين بإصدارها الأول (ورود شقية الملامح) سنة 1989م.. في حالة هدى أبلان إذا استثنينا ديوانها الأول فإن اشتغالها في كل واحد من دواوينها اللاحقة (نصف انحناءة) سنة 1997م.. و(محاولة لتذكر ما حدث) سنة 1998م.. و(اشتماسات) سنة 2000م.. ستبدو كتابة تبدأ دائماً من الصفر.
 

في (نصف انحناءة) كانت قضايا المرأة حاضرة، تتواشج بذات الشاعرة، حيث يهيمن (الإحساس بالهشاشة في واقع لا يرحم.. والدلالة تبدأ من العنوان دلالة الانكسار، وشيوع روح التشظي..إذا الشاعرة في وضع يحتاج للترميم)( ): 
عندما انحنيت مرة...
انكسرت مرتين...
ومت أربعاً...
توزعت ذاكرتي فوق أرصفة الأبد...
كان يوماً موغلاً في الحب...
ممطراً بالبوح...
بالتضاريس التي كبرت مع الحلم

 

وكنوع من الانتقام لما حدث أو كاستجابة له ستتسم تجربة هدى أبلان الشعرية بتعامل خاص ومقصود.. مع الشعر من خلال كسر اللغة الشعرية المعيارية –إن جاز التعبير- حتى في قصيدة النثر.. ستتجه بشكل شبه متعمد إلى كسر النسق المألوف، وقطع روابط الجمل.. وخلق موازيات تعبيرية لهشاشة الروح وواقعها:
ترتب بيتاً من القطرات
تودع فيه خفقتها كلما حل الذبول
وتغسل جلدها كلما اغبرت رائحة الوقت
طريق مرصع بمر
نفرش حرقة الآهات
نستند إلى وجع في حفرة القلب
نرشف أغنية حامضة
نمضع خبز ضحكة لن تجيء
ننفي المرارات إلى ذاكرة الغد المغلقة
ننثر دمنا الحلو في كل الجهات

 

ولكن تجربة هدى أبلان ستتجه أكثر إلى تعدي خصوصية التجربة النسوية وخطابها الذي يتغيا تحقيق وجود معترف به للمرأة في مجتمع ذكوري إلى الانغماس في هم الشعر بوصفه عملية إبداعية أعمق كثيراً من أن يكون مجرد حامل للخطاب المشار إليه.. ربما كون هدى أبلان من نساء قليلات في اليمن استطعن أن يحققن ذواتهن وظيفياً ونقابياً.. سيتجه نص هدى أبلان إلى حفر نهره الخاص بما يجعله ماركة مسجلة لها وحدها.. فهي من أكثر المبدعين والمبدعات في اليمن الذين تشبههم نصوصهم إلى درجة التطابق.. وهي من خلال هذه النصوص تتجاوز وتجاور ولا تتشبه أو تماثل:
للمرة الخامسة والعشرين
ثرثرت المرآة بملامح امرأة كانت
غيباً ممتد الإيقاع
حلماً متسع الحدقات
دفئاً مشتعلاً بلحاف الموت

****
 

معاينة التجارب التفعيلية بدورها ستعطينا مزيداً من المؤكدات على ما سبق، وستمنحنا أدلة أخرى على كون التجاور داخل الشكل الشعري الواحد يتعزز بقوة انطلاقاً من تعدد المرجعيات والحساسيات بين التسعينيين... فحين نعاين (كتاب الرازم) لأمين أبو حيدر سنجد نصوصه تجافي كلياً العبارة الأليفة والمعنى الأليف والرؤية الأليفة....كما سنجد تلك العبارة تتعبأ بالطقوس والأسرار وروائح الكهانة.. والوحي.. واللغة التي تتواشج فيها ألغاز التركيب.. وألغاز الدلالات القادمة.. من خلط واعٍ بين لغة معجمية غير مستعملة اليوم، ومعجم محكي... تمكن الشاعر من جعلهما معاً فاعلاً إيجابياً في تكوين أداته التعبيرية... وسيجد القارئ الذي تنقصه خبرة القراءة أنه ما أن يلج إلى هذا النص حتى يجبهه بظاهر مربك، فيه قدر هائل من الغموض والتمترس وراء الرموز والإشارات المتمرجعة في التراث بشتى تجلياته المدونة دينياً وإبداعياً وتاريخياً وأسطورياً، وفي الثقافة الشعبية الحية وغير الحية... حتى ليبدو واضحاً أن الشاعر الذي ينجح على نحو رائع في الاستفادة من مبدأ وحدة الأضداد لتجسيد نمطية تشكيل العالم المحيط بنا بشكل أكثر مناسبة لفجاجة هذا العالم الفاجع.. وتناقضاته وظلمه الفادح.. وفوضاه العقيمة.. ولا معقوليته ليصيرا معاً (الرازم) و(القات) متلازمتين من متلازمات وضعنا المائل وحياتنا الغريبة..
 

ولذلك وتبعاً لما يريده أو يقترحه ظهرت طرق التفهم والاستيعاب وتمثل العادات الاجتماعية وتوظيف متلازمات الرازم على نحو ميثلوجي وأنثربولوجي معقد وجديد إلى حد كبير.. وإن كانت الأصول الأولى لهذا الاشتغال غير خافية في ديوانه الأول ((بيننا برزخ من زجاج)) الذي صدر سنة (1997م) معبراً عن رؤية لا تنفي الاتصال القوي بالقديم بمقدار ما تثبت القطيعة معه من خلال طريقة الشاعر في الاشتغال عليه مرة أخرى بخصوصية لا يماثله فيها أحد من زملائه: 
متفاعلن متفاعلن.. 
تتناسل الأشعار من تفعيلة تمنى
ومن جين يكرر نفسه 
تتناسخ الأطلال 
والأطلال أرحام الفنون جميعها

 

إنه كما يقول في أحد اعترافاته: (يقف بأقدام راسخة هناك على الأطلال، حيث وقف امرؤ القيس وعنترة وزهير وطرفة ماداً ذراعيه للمتنبي والمعري.. وهامته ونظره إلى هناك إلى حواشي الغيب في مكان طرقه من قبل ادوارد سعيد وأدونيس، وكاد ينفذ منه سركون بولص وعباس بيضون.. يتقبل كل الأجناس ويتلبس كل أشكال القصيدة.. منحازاً في الغالب إلى القصائد المركبة ذات الأصداء القوية والمرجعية التراثية والتأثير البعيد، متعمداً المزاوجة والجمع بين أشكال القصيدة المختلفة في النص الواحد)( ).
 

اشتغالات أمين أبو حيدر ستبدو للقارئ من خارج اليمن أكثر ابتعاداً عما يألفه، وأكثر إغراقاً في خصوصيتها التي تتراكن فيها المرجعيات الميثولوجية القادمة من حضارات مختلفة بالتراث العربي، مع تركيبة من الموروث المحلي بتجلياته المختلفة.
 

أما حين معاينتها في صف ما أنتجه زملاؤه من التسعينيين فإنها بحكم التجايل والمكان ستتجاور مع تجارب مجايليه التفعيليين، ولكنها لن تتشابه معها... فشتان بين اشتغالات أمين أبو حيدر التي أجملت بعض ميزاتها وخصائصها.. واشتغالات أي من زملائه التفعيليين حتى في لحظة الظهور والنشر والدراسة في الجامعة..
 

ما الذي يجمع بين أمين أبو حيدر، ومحمد جميح أو بين أمين أبو حيدر... وهزاع مقبل.. أو بين أمين أبو حيدر وجميل مفرح..
لو أخذنا جميل مفرح مثلاً في الشق التفعيلي من تجربته المنشورة في مجموعته الأولى ((على شفاه الوقت)) سنجد أن اشتغالات جميل مفرح.. تعكف على الذات... التي تحاول رصد ردات فعلها تجاه الزمن في سرمديته، ومحاولاتها الدائبة لتجاوز تلك السكونية عبر لغة تتكئ على بهاء المفردة والصورة من جهة.. وعلى محاولة صد فاعلية الزمن قدر الإمكان، عبر لغة بسيطة عذبة ومرجعيات أقل احتفالاً بما هو خارج ذات الشاعر وما يعتمل فيها.. حتى حين يستدعي جميل الأمكنة فإنه يستدعيها مؤطرة بزمنه الخاص به.. وبشكل حثيث يستقصي جميل وحدات الزمن ثواني ودقائق وساعات وأياماً وليالي وأشهراً وسنين وقروناً ودهوراً وأبدية.. كذلك لحظة ولحظات ووقتاً وأوقات، حاضراً وغيباً، ماضياً ومستقبلاً، حتى لتشعر وأنت تقرؤه بوطأة زمنه على صدرك.. فهو يتكبده زمناً كائداً مخاتلاً، بارداً، ثقيل الدم والظل، شديد الرتابة، كسولاً، خانقاً، خاملاً، مسموماً، واخزاً في نفس الوقت، كما في هذا النص:
مري...
ياساعاتي
لايخنقك إطار الساعة
أوميزان الوقت
مري..
واجتازي اللحظات الكسلى..
كيف تكاسلت اللحظات
وكانت في غير الآن
تسابقني..!؟
نامت في جوف الجمر
توارت تحت رماد
اللحظات القادمة الأخرى
وعذاب الغيب
مري ياساعاتي
إن الشارين لصاحبهم
سوط خمولك
مااحترفوا مثلي
أوملوا تعداد ثوانيك
الواخزة المسمومة..

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
اختيارات القراء
  • اليوم
  • الأسبوع
  • الشهر
  • الأكثر قراءة
  • الأكثر تعليقاً