الأحد 22 سبتمبر 2024 آخر تحديث: السبت 14 سبتمبر 2024
تجربة التسعينيين بين المعايرة والمعاينة أفق الاختلاف من العناوين.. إلى النصوص(2-6) - علوان الجيلاني
الساعة 14:41 (الرأي برس (خاص) - أدب وثقافة)


بالعودة إلى معاينة العناوين نفسها وهي لا تشكل إلا عينة من عناوين كثيرة ينطبق عليها ما سبق، سنجد أنها تعبر عن تجاور التجارب التسعينية من حيث كون التعامل معها يتم من خلال استراتيجيات فنية فردية ليس فيها ميل للترادف أو التماثل.. وهذا الاشتغال ينطبق على عناوين النصوص.. عناوين الشيباني في (تكييف الخطأ) –مثلاً- تنطلق من استراتيجية غير تلك التي تنطلق منها عناوين أحمد الزراعي في (أسلاف الماء) أو عمار النجار في (الصيرورة شجرة تثمر فؤوساً).. يعتمد الشيباني كثيراً على العناوين الطويلة.. قد يتكون العنوان عنده من ثمان كلمات.. مثل: (شخص ما ندخره بداخلنا ليكذب ويصلي بثياب معطرة) هذا الاشتغال يخدم استراتيجية الكتابة عند الشيباني، ويؤكد على مماهات نثرية الشعر بنثرية الحياة.. من خلال تجليات اليومي بالذات، أو من خلال شخوص تتغيا النصوص تقديم حيواتهم.. فيما يعتمد الزراعي كثيراً على العناوين القصيرة جداً، معظم العناوين في (أسلاف الماء) تتكون من كلمة واحدة، مثل (نظرة، حيرة، حكاية، نورس، صداقة) أو من لفظين يتكونان غالباً من المضاف والمضاف إليه، مثل (هاجس الفراشة، إرث العين، مزامير الينبوع) وقليلاً ما تكون العناوين عنده جملاً مثل (أعماقنا تدب في حواف الأرض) والسبب في ذلك أن اشتغالات الزراعي مهمومة بالكوني والجوهري وبالمشكلات الكبرى، جمال الكائنات وبؤسها، مصائر البشر وجيرانهم في الطبيعة.
 

في العناوين القصيرة جداً التي تقتصر على كلمة واحدة يتأمل وينطق بالحكمة، وفي العناوين المكونة غالباً من لفظي المضاف والمضاف إليه يترجم للكائنات أو يرسم بورتريهات لكينونتها.. أما في العناوين الطويلة فيتخذ من السرد وسيلة لكتابة نص موازٍ لحكاية الوجود إما من خلال البشر أو من خلال الكائنات..
أما اشتغالات عمار النجار كما نقرؤها في مجموعته الأولى (الصيرورة شجرة تثمر فؤوساً) فتنطلق من مشابهة بعيدة لتأملات الزراعي في جزء من اشتغالاته.. ولكنها في الحقيقة مشابهة ليست مقصودة، فهي تنفرد انطلاقاً من كونها (مشاهدة للأحوال على قدم الانفراد) –على حد تعبير المتصوفة-.. تبدو كذلك لأنها تجمع بين الوعي المعرفي واستنفار السر الوجداني للغة الشعرية:
اليد أكثـر من شاغرة 
المسـاء أوحش من عـدم 
الصخرة طريق 
وحيــــــد 
إلى عوالـم 
لدنــة

 

وهو يمزج سمتي الوعي المعرفي واستنفار السر الوجداني للغة الشعرية بشيء من سخرية تماثل سخرية طائفة من الصوفية تصفهم كتب التراث بـ(المخربين) سخرية التخريب عادة تتخلق من المفارقة الناشئة عن إسقاط الهيبة والتقديس عن إنسان ما، أو شيء، أو معنى من المعاني بكشف عيب أو سر فيه.. جهله الناس أو تواطأوا على جهله كما في حالة الصهباني أحد متصوفة اليمن الكبار عند مطلع القرن السابع الهجري (كان يحضر صلاة الجمعة فإذا نزل الخطيب هجم الصهباني على المنبر باكياً يضربه بالعصا ويصيح به: يا حمار الكذابين)..
ولكن اشتغالات عمار النجار تتجه بشكل أوسع إلى الأشياء والأفكار والمواضيع، تستنطق بمفارقاتها أسرارها وحقائقها التي يشعرنا الكشف عنها بدهشة لذيذة كما يفعل حين يكسر الحق الخالد والمقدس والبديهي أيضاً، الذي آمنا به دائماً لشجرة تنمو أمام أعيننا: 
شجرة سرخسية
تشمخ عالياً
كأنما لا شيء 
يستحق بالأسفل
أو حين يملأ أنفسنا بالتشفي حيال موضوع علاقة الرجل بالمرأة.. وهي علاقة حافلة بالمرارة.. يتكئ فيها على أسطورة (بجماليون) الشهيرة التي أعيد إنتاجها في نصوص أدبية وسينمائية ومسرحية كثيرة في شرق العالم وغربه.. وموضوعها من أكثر الموضوعات المتعلقة بإشكاليات الوضع البشري، وبؤس الكائنات الإنسانية بوصفها كائنات تكرر نفس التجارب منذ الأزل، وهو ينجح في تلخيص ذلك الوضع المأساوي من خلال نص كثيف يختصر المعنى كما يختصر البرق أضواء النجوم:
الإنسـان الأول 
ضاجـع حجـراً 
فصارت امرأة 
واليوم 
أضاجع امرأة 
فتصـير حجـراً

 

التجاوز أو القطيعة مع الأجيال السابقة في الإبداعات الشعرية للشاعرات التسعينيات في اليمن يبدو كالبديهي بحكم خصوصية وضعهن في مجتمع من أكثر المجتمعات ذكورية، ظل دائماً يهمش وضعهن الثقافي والإبداعي.. وبحكم خصوصية تعاملهن مع الكتابة من منطقة أشبه ما تكون بمنطقة صفرية، خاصة حين يحاولن التحرر من التراث الإبداعي الذكوري.. مع ذلك فإننا قد نسلم بمشترك يجمعهن جميعاً هو التجاور المكاني والزماني في الجيل والوطن.. تالياً الرغبة المشتركة في اجتراح نموذج إبداعي يعبر عن توقهن لتجاوز ركام الإرث الذكوري من جهة، وتحطيم الوضع الهامشي من جهة أخرى، ثم إنتاج نصوص تكون بصمة خاصة لهن.. ولكننا لن نسلم بتماثل أصواتهن وعدم تمايزها..
لم يعد الصوت الأنثوي (محدود الاطلاع، ضعيف الأدوات) كما وصفه بيان الصفدي سنة 1997م.. 

 

لقد أثبت هذا الصوت حضوره الثقافي والإبداعي وأثبت وعياً متقدماً بنفسه وإبداعه.. وصار اليوم ما يلفتنا فيه هو البصمة الخاصة لكل صوت.. والتجاوز الفردي الذي يتكئ على مراكمة التجربة والتحرر من شهية الاحتفاءات الذكورية، التي وإن لم تختف تماماً إلا أنها قد تراجعت كثيراً..
الشاعرة نبيلة الزبير.. التي تتميز بتعدد التجارب والأطوار التي مرت بها، من التفعيلة إلى قصيدة النثر.. تلفت النظر دائماً ليس بإبداعها فحسب ولكن بخصوصية لغتها، وتميز معجمها، وفرادة اشتغالها على اللغة والمعجم.. ليس بين زميلاتها الشاعرات، ولكن في كل المشهد التسعيني اليمني.. فهي رغم علاقتها القوية باللغة والمعجم إلا أنها لا تترك للغة أن تفرض نفسها عليها:
(أضع اللغة على الطاولة وأعرف أنها ملعوبة..لكنني أرفض كل مقترحاتها وأقترح عليها نفسي شرسة)

 

المعرفة بقواعد اللعبة، ثم رفض كل مقترحات اللغة يعني رفض إرث اللغة أو التماثل في استعمالها مع الآخرين.. بمعنى القطيعة مع إرث اللغة، ومع الآخرين في نفس الوقت.. رغبة في تقديم نموذج خاص تنجح نبيلة الزبير دائماً في اجتراحه، وتحقق من خلاله رغبتها في الانزياح بعوالمها الشعرية إلى مديات غير متوقعة، معلنة فرحها بنجاحها، وقدرتها على الاحتفاظ بأسرار اشتغالاتها لنفسها.. وبأسرار تنقلها في أطوار الكتابة، وتجليات اللغة.. هكذا يفاجأ الجميع بشجرتها الإبداعية ذات الشكل المائز، والأسلوب المفارق دون أن يعرفوا كيف كان لها أن تكون كذلك:
(لا أحد يعرف، ما الذي كانت تفعله، هذه المرأة، قبل أن تصبح شجرة)..

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
اختيارات القراء
  • اليوم
  • الأسبوع
  • الشهر
  • الأكثر قراءة
  • الأكثر تعليقاً