الأحد 22 سبتمبر 2024 آخر تحديث: السبت 14 سبتمبر 2024
الذكرى التاسعة لرحيل شاعر اليمن إبراهيم الحضراني المبدع الكبير بعيداً عن ثقل الهيبة - علوان الجيلاني
الساعة 15:46 (الرأي برس (خاص) - أدب وثقافة)


عندما أنبأتني الصحفية أحلام عبد الرقيب صباح يوم السبت 25 / 11 / 2007م بخبر موت الحضراني لم أصدق .. فقد كنت عاقداً النية على زيارته إما في ذلك اليوم أو الذي يليه.. 
كنت قد التقيت بـأحد أقاربه الشباب قبل أيام من موته وسألته عن أحواله لأن مشاغلي في الفترة الأخيرة - التي سبقت رحيله - حالت دون تواصلي المعتاد معه فأجابني بخبر مرضه ...
لقد دلفت إلى بيته غير مصدق لرحيله .. كنت استعيد بعض تعليقاته على رحيل زملاء له .. تتابعوا خلال السنوات الماضية. لم يكن يتوقف كثيراً .. عند حدث الرحيل.. بمقدار ما كان يتوقف عند معنى الحياة.. ومعنى أن نطلب بقاءً أطول من اللازم .. ثمة ارتياح أحياناً يجب أن نشعر به لرحيل شخص ما .. نخاف عليه أن يغيره تمادي العمر والأمراض.. فجأة تخيلته يموت وفي يده كتاب.. (لا أعتقد أنني زرته يوماً ولم يكن في يده كتاب). 
حين وجدت المجتمعين في بيته يتحدثون في أشياء أخرى بعيداً عنه .. فيما هو يغسل في الغرفة الأخرى .. قلت في نفسي .. أبعد غيمة البكاء عن روحك.. فهذه هي عقيدة الحضراني.. تغشى أرواحهم جميعاً.. 
لقد قرر الرجل أن يرحل بهدوء .. مريح له ولكل محبيه .. عالماً علم اليقين أنه باقٍ في حياتنا بإبداعاته .. وخالدٌ بفنه .. وأن اسمه محفور بشكل رائع في صفحات التاريخ الشعري والوطني لكل العرب.

* * *
 

ستة أيام مرت على رحيل الحضراني .. سيلاً هادراً من الكتابات قرأت عنه.. بعض من كتبوا عنه .. ربما لم يعرفوه معرفة شخصية .. وبعضهم التقى به لقاءات عابرة .. وبعضهم عرفه منذ سنين طويلة ربما منذ عقود .. أنا الوحيد الذي لم يستطع الكتابة عنه رغم خصوصية علاقتي به وعمقها الذي أزعم لنفسي أنه كان أكثر ثمرة له ولي من كل الذين عرفهم ومن كل الذين عرفتهم .. أقول أني أزعم لنفسي ولعل من حقي أن أفعل ذلك في هذا الظرف بالذات. 
* * *
 

عرفت الحضراني منذ منتصف الثمانينيات قارئاً عنه من بعيد وأنا في قريتي . عرفته من خلال كتاب صديقه أحمد بن محمد الشامي (رياح التغيير في اليمن) أولاً.. ثم قرأت ما كتبه البردوني عنه في كتابه (رحلة في الشعر اليمني قديمة وحديثة).. في تلك الفترة أيضاً قرأت له حواراً في مجلة (الفيصل) وسمعت له وعنه في إذاعة صنعاء.. وشاهدته أكثر من مرة في التلفزيون. 
وكما يحدث دائماً.. فإن القارئ في سنوات التكوين الأولى -خاصة- إذا كان ممن يرون أنفسهم أهلاً ليكونوا من أهل الثقافة والإبداع في المستقبل تتشكل في أذهانهم صورٌ متعالية مهيبة رومانسية ومثالية في الغالب لمن يقرأ لهم وعنهم –تجعلهم يبدون وكأنهم من طينة تختلف عن تلك التي خلق منها سائر البشر- (يستحيل في تلك المرحلة أن تقنع القارئ الذي يتكون أو يوالي تكوين عوالمه المعرفية.. أن هؤلاء المبدعين الكبار لا يعيبهم أن يكونوا في حياتهم اليومية وتعاملاتهم مثل سائر الناس تسموا بهم الطباع والمشاعر والانفعالات أو تسف. 
هكذا كنت أقرأ عن حزن المقالح في تلك الفترة .. ثم أراه في المنام –حدث هذا أكثر من مرة- جالساً على صخرة مرتفعة في مدينة .. ضبابية يغطي الجليد شوارعها فيما هو يتكئ بخده الأيمن على كفه .. وينظر بحزن إلى فراغ الشارع الكابي وأظل بعد ذلك لأيام مستسلماً لحزن غريب يطبق على روحي.. 

 

وبسبب تلك الصور المتعالية المثالية أيضاً صدمت عند منتصف يناير سنة 1991م .. عندما التيقت بالبردوني للمرة الأولى في حياتي كان ذلك في الحديدة.. في المركز الثقافي.. قبل أمسية سيحييها مباشرة سلمت عليه وأنا أرتعش تهيباً .. وفرحاً.. وسعدت جداً لأنني كنت أجلس خلفه مباشرة.. وفيما كنت أستسلم لمشاعر متضاربة تعصف بجوانحي.. كان البردوني.. يخرج حقة الشمة من جيب فانلته الصوف .. ويلتقم منه أكثر بكثير مما كنا نستغرب له من إبراهيم عباس أشهر المتبردقين في قرية الجيلانية.. 
ولكن تعليقات البردوني الذكية المدهشة –رغم أنها كانت انطباعية ومرتجلة- على قصص قرأها القاصان.. عبد الإله سلام، ورشيد عبد الحميد سرعان ما أعادت للبردوني مكانه المتعالية في ذهني..
عندما جئت إلى صنعاء في أغسطس 1991م .. أذكر أنني في يوم من الأيام شاهدت الحضراني من نافذة الباص .. كان يسير في شارع الزبيري بالقرب من بنك اليمن الدولي.. ليس بعيداً من بيته .. رحت أتابعه وهو يسير متئداً .. وحين ابتعد الباص ولم أعد أتمكن من رؤيته كانت عيناي تغرورقان بالدموع.. 

 

وفي يوم 12/12/1991م .. كنت أدخل مع زميل الدراسة الصديق عبد المهيمن الأفلح بيت البردوني .. كان ذلك صباح يوم جمعة.. وكانت تلك المرة الأولى التي أزور فيها بيت البردوني .. لتبدأ رحلة تواصل مفيدة معه حتى توفي –رحمه الله-. 
بعد أن عرفته بنفسي .. وسردت له بلهفة أطرافاً من تاريخ قراءاتي ومتابعاتي له .. وحجم حضوره .. في حياة محبيه الساكنين في أطراف اليمن .. أولئك الذين لا أمل لهم في التمكن من لقائه والاقتراب منه.. فتحت دفتر أشعاري الذي حملته معي لاحتمال أن تتهيأ لي فرصة لأقرأ عليه شيئاً من شعري .. قلت له وأنا أسجل تاريخ ذلك اليوم الاستثنائي في حياتي في صفحة من صفحات ذلك الدفتر: إنني قد هيأت نفسي لأقرأ عليك شيئاً من شعري.. ولكنني أشعر برهبة شديدة.. 
فقال مبتسماً: هذا في الأول بس .. بعد فترة من المعرفة ستقول ما بش ما يكلف. قلت مستهولاً: غير معقول.. 
فقال: عندما قابلت الزبيري أول مرّة .. وصلى بنا في ذمار بصوته البديع وحضوره .. وجاذبيته .. كنت أشعر بنفس هذه المشاعر.. وهذا عادة ما يكون في سن مبكرة.. لأننا في هذه السن.. نميل إلى المثالية البالغة في تصورنا للكبار من المبدعين والعلماء والزعماء.. وفي معتقداتنا عنهم و.... ولم يكمل البردوني كلامه فقد قاطعه جرس الباب فقام لينظر .. من الطارق .. وما لبث أن جاءنا صوته من خارج الغرفة تعالوا استقبلوا معي السيد أحمد الشامي.. 

 

قمنا مسارعين إلى الباب .. ولم يكد يكتمل في خاطري تساؤل عما إذا كان يقصد أحمد الشامي الأديب والشاعر حتى كان الرجل يلتحم مع البردوني في عناق حارٍ يخالطه البكاء.. 
كان مع الشامي إبراهيم الحضراني وعباس الديلمي ووالده علي حمود الديلمي وعبد الله هاشم الكبسي.. والمنشد عبد الرحمن العمري.. ومحمد شرغة وآخرين.. تضاعفت بالنسبة لي استثنائية ذلك اليوم.. فها أنا في يوم واحد ألقى مجموعة من كبار أدباء اليمن ومناضليها ممن جننت بقراءتهم والقراءة عنهم ..
أتذكر أنني لم أهتم ذلك اليوم كثيراً بالآخرين قدر اهتمامي بالبردوني والشامي والحضراني.. ولكن الحضراني لم يتكلم كثيراً –فيما بعد عرفته وعرفت أن قلة الكلام من أهم سماته- استأثر بالجو واستحوذ على الكلام وحديث الذكريات البردوني والشامي تحدث الإثنان وتحدث معهم الباقون بحميمية بالغة عن الذكريات .. ذكر البردوني زوجته الأولى وبكى.. وذكر الشامي زوجته الأولى وبكى.. فاض نهر الذكريات وتجلت مآثر القلوب بمشاعر حارة حتى ظننت أن تلك المعارك الأدبية التي استعرت بينهما والتي خرج بها التناقض الحاد –أحياناً- على الناموس.. مجرد مزحة أو تمثيلية كانت بينهما .. 
ظللت بعد ذلك اليوم سكران الفؤاد لعدة أيام لا أفترمن الحديث عنه مع كل أحد.. وكتبت من وحيه رسائل لأخي إبراهيم –رحمه الله- ولم تنطفئ جذوته في دمي إلا الجمعة التالية .. حين سمعت تعليقات البردوني وعبد الإله القدسي على الأمسية التي أقيمت للاحتفاء بالقطوف الدواني من شعر إبراهيم الحضراني .. الذي جمعه وقدم له أحمد الشامي .. وكان البردوني هو المتحدث عنه في الاحتفائية التي أُقيمت له.. فرحت آكل نفسي.. كيف لم أسمع بهذه الفعالية .. وكيف لم أوفق لحضورها..؟
تباعدت بعد ذلك لقاءاتي بالحضراني.. وكانت في مجملها لقاءات عابرة في فعاليات متباعدة .. كنت أسلم عليه .. فقط ولا أظن أنه عرفني أو عرف اسمي إلا بعد أن استضفناه صيف 1997م في النادي الأدبي ليقدم لنا محاضرة عن ألوان الشعر الشعبي في اليمن.. 

 

أذكر كم كان الحضراني في تلك الأمسية ممتعاً ومتجلياً.. يبهر السامعين بغزارة محفوظه.. بمقدار ما يبهرهم .. بحلاوة إلقائه.. كان أثناء الإلقاء يبتسم ويهز رأسه ويميله بسلطنة فارهة .. تجعلك لا تنساه أبداً.. 
على مدار سنتين وبضعة أشهر عملتها في مؤسسة العفيف .. بدءاً من منتصف سنة 1988م وحتى قرب نهاية سنة 2000م.. تعرفت على الحضراني أكثر.. وبدأت تتضح لي معالم شخصيته وفرادته .. وتميزه عن كل الكبار الذين عرفتهم.. ولكن علاقتي به كانت جزءاً من علاقتي بالأستاذ أحمد جابر عفيف - رحمه الله الذي كان يحرص علي تعريفي بأصدقائه الكبار .. (سناً ومقاماً) وتعريفهم بي. 
معرفتي الحقيقية بالحضراني بدأت في صيف عام 2001م عندما زُرت بيته للمرة الأولى .. من أجل لقاء لإحدى الصحفيات معه.. سرعان ما تبين لي وأنا أحاور الرجل.. مقدار عمقه وسعة عوالمه.. إضافة إلى سحر حديثه وجاذبيته اللذان كنت أعرفهما من قبل.. ثم بدأ ترددي عليه.. الذي جرّ إلى اقتراح افتتاح وزارة الثقافة لتكريم مجموعة من المبدعين سنة 2002م .. بتكريمه هو حيث توجنا توثيق سيرته.. بعمل ملف عنه في صحيفة الثقافية .. ومن ثم شرعت في رحلة جمع ديوانه التي انتهت سنة 2004م بدعم من الرائع الكبير خالد الرويشان وزير الثقافة آنذاك.. الذي تولى بعد ذلك طبع الكتاب وأقام بمناسبة صدوره حفلاً كبيراً لتكريم الحضراني سنة 2006م. 
خلال اقترابي المباشر والمتواتر من الحضراني منذ منتصف عام 2001م وحتى موته .. احتفظت الذاكرة بقراءات وحوارات كثيرة معه .. وتكشفت لي صفحات واسعة.. من حياته وآرائه ومعتقداته وطرائق تفكيره.. وأساليبه في قراءة الأحداث والوقائع والكتب والشخصيات والنصوص والنفوس .. تعد أرضية خصبة جداً للكتابة عنه ولمقاربته من زوايا إبداعية مختلفة.. إضافة إلى ما قدمه لي الاقتراب منه والاشتغال على ديوانه من معرفة أزعم أنها جيدة وحقيقية إلى حد كبير بتجربته الشعرية.. وتحولاته الفنية.. ومرجعياته ومصادره.. أيضاً آراءه النقدية وتقييماته لتجارب شعرية يمنية وعربية قديمة وحديثة.. 

* * *
 

كان في زملاء الحضراني من يشبهه في بعض وجوه إبداعه.. كما كان فيهم من يلتقي معه في آراء وأفكار وأحلام وأمنيات.. ولكني أستطيع أن أجزم أن ليس فيهم من كان يشبهه في تواضعه .. وفي تأمله.. وحسه الإنساني الذي يكبر ويسمو على قيود المعتقد وعادات المكان. 
كنت كلما لقيته .. ورأيت طريقة إصغائه إلى حديثي معه .. لا أستطيع أن أمسك نفسي من سرحة تأمل في تواضعه العجيب.. ولم أكن في تأملي لتواضعه قادراً على منع نفسي في كل مرة من استحضار جملة من رفاق دربه وأمثاله من الكبار الذين يملؤون حياتنا.. بعضهم ترك أثراً حقيقياً ولكنه خمَّجهُ بالضجيج حول ذاته التي جعلها مركزاً للكون.. وقطباً لذوات الآخرين يجب أن تدور كلها حولها.. وبعض آخر لم يفعل شيئاً يذكر بل كان من أسباب مآسينا .. ومع ذلك فهذا البعض لا يريد أن يتركنا لشأننا.. وهو يحاول جاهداً تحميلنا تبعات كل ما حصل ويحصل بسببه وسبب أمثاله.. من الفارغين إبداعاً وإنسانية.. 
وذاكرة الحضراني التي قلت عنها في مقدمتي لديوانه بأنها (إحدى ذاكرات اليمن (المهمة جداً) فهو مثل أبيه حفاظة وراوية من الطراز الأول، وصدره مخزن لكم هائل من الشعر فصيحاً وحمينياً وشعبياً وأغاني نساء.. ولكم هائل أيضاً من الأمثال والحكايات والطرف والنكات) وحين وصفتها بأنها (ذاكرة واعية بمعنى (الجمع) وبمعنى (الفهم) فهو يعرف كيف يوظفها ومتى يستدعيها) كنت قد تأملت طويلاً في الفرق بين ذاكرة الحضراني الواسعة الاستيعاب لكل ما ذكرنا وذاكرات الآخرين.. ممن يشاركونه هذه الموهبة في جوانبها المختلفة أو في بعض جوانبها..

 

فاستعمال الآخرين لذاكراتهم وامتياحهم منها يقوم غالباً على روح الشفاهية وتقنياتها.. كما يقوم مراتٍ كثيرة على الوعي السطحي بقيمة ما يحفظون.. فيستدعون محفوظاتهم بشكل عبثي عشوائي.. يُعني غالباً باستعراض المحفوظ الذي يرد متناثراً يتداعى بلا داعي فيتناثر على السامعين بلا أثر.. 
أما الحضراني فكان يستعمل ذاكرته بشكل دقيق ممنهج.. وكأنه لا يشافه بل يكتب.. فهو إذ يستدعي مخزون ذاكرته إنما يحاول من خلالها قراءة موضوع (الحديث/ المثاقفة) الذي استدعاها .. إنه يقدم من خلالها رؤيته للموضوع سواء كان سياسياً اجتماعياً ثقافياً أو إبداعياً دينياً أو تاريخياً...إلخ. وهو ببراعة مذهلة.. يختار من عوالم ذاكرته المتعددة ما يجري في السياق، يضيف له أو يفسره أو يقدم وجهة نظر الراوي ويعينه إما على توضيح رأيه أو على التخفي وراء الشاهد الشعري أو المسرود.. توقياً لحرج النفس أو إحراج الآخرين.. إن كان ثمة ما يدعو.. 

 

ولعل حلاوة الإيراد وسحر الحديث وبراعة وخصوصية الحضراني التي أشرنا إليها في مواقف مختلفة.. والتي أخبرني مراراً أن بذورها قد تكونت عنده منذ تركه والده رهينة عند أحد المشائخ الكبار حين كان عمره سبعاً أو ثماني سنوات .. قال: (لم أجد ما أستميل به قلوب بنات الشيخ ونسائه ليعطفن عليَّ ويخففن عني العمل الذي أمرضني .. إلاّ إعادة سرد ما أسمعه من أحاديث الرجال .. وحكاياتهم والأشعار والمساجلات التي كنت أحفظها بسهولة.. مضيفاً إليها ما حفظته قبل ذلك في قريتي وفي صنعاء وما كان يدور في مجالس أبي حين يعود من أسفاره.. أو مجالس غيره التي كان يأخذني إليها.. ثم بعد ذلك وجدتني كسائر أفراد أسرتي أهم موارد رزقنا وقبولنا عند الناس.. حلاوة الحديث وقوة الذاكرة والحفظ وسرعة استحضار الشاهد.. مع حسن الإختيار.. إضافة إلى البعد عن الخشونة والعناد.. والانتفاخ الفارغ.. 
كل ذلك وأكثر منه يستطيع أن يستشفه أي إنسان من أول جلسة يجلسها مع الحضراني.. 
الملاحظ.. أن الحضراني يتميز أيضاً عن أغلب الذين يتمتعون بذاكرات تشبه ذاكرته بكونه ليس ثرثاراً .. أغلب من أشرت إليهم يكثرون الكلام .. يستدعون ذاكراتهم بمناسبة وبدون مناسبة .. وكثيراً ما يستدعونها استعراضاً أمام الآخرين أو استعلاءً عليهم.. وذلك ما يفقدها قيمتها .. في مواقف جمة.. بل إنها لتكون منفرة أحياناً.. أما الحضراني .. فهو يسمع أكثر .. يصغي ويعي حتى عندما لا يعجبه ما يقال.. 
لهذا فإنك أول ما تصعقك دهشة ذاكرته.. قد تفكر: كيف لم يستفد التلفزيون أو تستفد الإذاعة من ذاكرته.. في برامج مناسبة يوثق من خلالها ذاكرته.. ويتم توثيقه هو.. 
ولكنك مع تسليمك بعدم وعي القائمين على هاتين المؤسستين وعدم استهدافهم لهذه الأمور إلا أنك فيما بعد عندما تعرفه أكثر.. ستدرك أن طبيعة مثل تلك البرامج تجافي طبيعته.. إنه رجل لا يحب اللمعان.. لا يميل إلى الأضواء .. كما أن إعجاب الناس به غالباً .. كان خارج منابر المهرجانات وقاعات المحاضرات.. إعجاب الناس به وانجذابهم الشديد إلى سحره كان يتم في المقايل .. وجلسات السمر وفي الرحلات.. والنزهات.. إنه رفيق سفر خفيف الظل.. ونديم طيب الأنفاس ومتحدث لبيب.. لا تُنسى أحاديثه.. 

 

المفارقة: أنك وأنت تتبع وتتأمل إبداع الحضراني الممنهج في استدعاء ذاكرته وبراعته المذهلة في توظيفها –كما أسلفنا- وهي خصوصية مناسبة للكتابة.. لا تجد الحضراني.. قد فعل ذلك.. إلاّ نادراً جداً –على حد علمي- وفي حالات نحتاج قبل الحكم عليها إلى إعادة قراءتها بتأن لنرى إلى أي حد فعل ذلك كما نتوقع منه.. 
لقد خرج الحضراني بأسلوبه في استدعاء ذاكرته على التقاليد الشفاهية.. (الاستدعاء العبثي العشوائي - المتعالي الاستعراضي..إلخ).. ولكنه لم يستعملها أو لم يحولها إلى مشروع مكتوب.. كما أن استعمالها وتوظيفها في شعره يحتاج منا إلى قراءته لهذا الغرض حتى نرى هل فعل ذلك أو لم يفعل.. وإن كان فعل فإلى أي درجة أبدع ووفق...؟ 
وإذاً فإنه يمكننا حتى الآن أن نقول.. إن ذاكرة الحضراني.. ظلت دائماً موهبة أخرى توازي موهبته الشعرية.. وتكمل صورة المبدع فيه .. كما أن ما يلتبس منها بتجاربه الحياتية المختلفة يكمل أيضاً صورة المثقف الحكيم المتأمل الذي عرفه أبناء جيلنا من مبدعي ومثقفي التسعينيات في اليمن.. وهو على مشارف الثمانين يقف على ستين عاماً من النضال والإبداع .. ومكابدات الحياة في واقع ينال منا دائماً ولا ننال منه أبداً.. ثم قدر لبعضنا أن يقترب منه في سنيه الأخيرة تلك حتى رحل عن عالمنا في ذرى التسعين من العمر.. وكنت ربما أكثرهم حظاً . 
فما أقل ما استفدناه منه .. بل ما أقل ما استفدت منه.. فيما كان متاحاً لي.. ولم أغتنمه.. 
ولكني أتصوره الآن يردد متأملاً.. 
تُرينا عيون الوهم أنا حقائقٌ
فنجهد في الدنيا نلمُّ السفاسفا

 

أو يستدعي قول أبي العتاهية: 
أحمد الله على كل حال 
فإنما الدنيا كفيء الظلال
أو يتعاطف معي ويرى أني فعلتُ ما لم يفعله غيري فيستدعي قول البحتري: 
أدركت ما فات الكهول من الحجى
في عنفوان شبابك المستقبل
وقد ينعطف إلى عالم الحميني فيذكرني بقول ابن شرف الدين: 
عليكم جبر ما فات
والعلم منكم بالمراد كافي

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
اختيارات القراء
  • اليوم
  • الأسبوع
  • الشهر
  • الأكثر قراءة
  • الأكثر تعليقاً