الأحد 22 سبتمبر 2024 آخر تحديث: السبت 14 سبتمبر 2024
بين المعايرة والمعاينة قطع واستبدال أم كتابة على رق ممسوح - علوان الجيلاني
الساعة 14:14 (الرأي برس (خاص) - أدب وثقافة)

 


في المشهد التسعيني اليمني كان هناك قدر من التمايزات في الكتابات الشعرية، بمعنى أن الكتابة الشعرية في مفهومها العام، وفي مفهومها الشكلي –بوجه خاص- صارت تعني كتابات مختلفة لمبدعين مختلفين بسبب اختلاف مرجعياتهم رغم تجاورهم في المكان وتجاور أصواتهم في المشهد.... على متكآت المقايل ومنابر المؤسسات والمنتديات الثقافية وصفحات الصحف والمجلات.
 

وإذا استعرنا بعض مصطلحات كتاب ((الجغرافيا الثقافية)) لمايك كرانغ فإن هناك جغرافيات شعرية رمزية داخل المشهد تتجاور ولكنها تتمايز... تتداخل وتتقاطع وأحياناً تتوازى وتتغاير إلى درجة التضاد.
 

إنها جغرافيات شعرية تتراصف وتتشظى لتكون فروعاً داخل المشهد العام.
ولكن الحدود غير واضحة تماماً، ثمة زحزحة وتبادلات وتناقلات بين المجالات وربما أننا عاجزون في الحاضر عن رؤية تلك الحدود، لأننا نقرأ موضوعنا وفق تأويلات لها علاقة بآراء محددة شئنا ذلك أم أبينا.
صحيح أننا نطمح إلى تحقيق رؤية عامة للمشهد... ولكن سنكون مبالغين إن قلنا إن بوسعنا أن نطفو متحررين من أسبقياتنا أو تحيزاتنا.

 

ولأن المشهد الإبداعي الذي نحاول قراءته يتمتع بحيوية بالغة، فإنه ليس ثابتاً بل هو يتغير باستمرار.
وهذا يجعل أفكارنا قابلة لأي انعطاف يدعوها إليه متغير نكتشفه فجأة أثناء إيغالنا في القراءة.
والملاحظ أنه بمقدار ما يجتمع الجميع تحت مسمى الكتابة الشعرية فإن الغالبية يتخلصون من إكراهات المرجعية الواحدة، سواء عنينا مرجعية التقاليد الشعرية النموذجية.. أو مرجعية الأيديولوجيا كيفما كانت ماهيتها.

 

لقد ظلت الأيديولوجيا لفترة طويلة لزيماً واجباً للإبداع الشعري.. كانت على الأقل نوعاً من اللباس.. بنية فوقية... وحاجز للعقلانية أو الفضالة.. كانت الأيديولوجيا إلى جانب ذلك تلعب دوراً رئيسياً في تحديد المدلولات التي ينتجها النص، أما عند التسعينيين فإن المرجعية الذاتية أو المرجعية الخاصة للشاعر هي التي تلعب الدور الرئيسي في تحديد المدلولات التي ينتجها نصه.. وهذا هو السبب في ما سماه أحمد السلامي بـ(فوضى المشهد الشعري التسعيني أو ارتباكه الذي يشبه فوضى التعددية السياسية، التي بدأت إثر تحقق وحدة اليمن عام 1990م أعتقد أنها لم تكن كما سماها (فوضى) بمقدار ما هي محاولات لتبلور مشاهد فرعية.. فالأحزاب السياسية والنقابات ومؤسسات المجتمع المدني والصحف مختلفة الاتجاهات، وكذلك التيارات الشكلية والتوجهات المتغايرة داخل المشهد الإبداعي بشكل عام والمشهد الشعري بشكل خاص، إنما كانت كلها تبحث عن هويات أو مشاهد فرعية داخل المشهد العام في كل تلك المحاور التي تحرك حياتنا.. وجميعها ربما كانت تستجيب لمتغيرات إقليمية وعالمية أكبر.. بدءاً من حرب الخليج الثانية وانتهاء بسقوط جدار برلين، وسقوط الأيديولوجيا وهيمنة العولمة على العالم.
 

 

إن قراءة المشهد الشعري التسعيني في اليمن يجب أن تتناوله من جميع جوانبه، ومن خلال كل مفرداته وعناصره.. فالمقاربات التي تختزل هذا المشهد في عامل واحد فحسب يقود النظام بأكمله تظل موضع امتراء؛ لأنه من الصعب عزل أي منتج عن جيرانه سواء المختلفين أو المؤتلفين معه، وإن أي محاولة تضحي بجميع عناصر ومفردات المشهد من أجل زاوية من زواياه تبقى محاولة مضللة.
 

وبدلاً من ذلك يمكننا دراسة المشهد وفق رؤية تركيبية تمسك بكل مفاصله.
إن المقاربات الجزئية تقرأ المشهد الشعري ليس من كونه نموذجاً شاملاً يمتد أمام أعيننا، بل من كونه نموذجاً خاصاً تشكل وفق أحكام وآراء مسبقة في أذهاننا.
صحيح أن تغير القيم الثقافية في أي زمان أو مكان يفرض تغيراً في أشكال الكتابة ولكن التغير حتى في حالات الانشقاق والقطيعة يكون بشكل عام تغيراً تراكمياً، فهو عملية مستمرة من التطور أو من الانحلال –في معظم الأحيان- وليس عملية قطع واستبدال إلا في حالات قليلة، إنه كما يعبر (مارك كرانغ) يكون أشبه بـ(الرق الممسوح) وهو لوح الكتابة الذي كان يستعمل في أوروبا القرون الوسطى وظل يستعمل في معلامات اليمن حتى ستينيات القرن العشرين، وهو يحيل إلى حيث يمكن محو الكلام المنقوش الأصلي وكتابة كلام آخر فوقه مرة بعد مرة.

 

فيما لم تمح الكتابة السابقة تماماً.. ومع مرور الزمن تكون النتيجة شكلاً مركباً.. رق ممسوح يمثل مجموع كل المحو والكتابات المتكررة.. 
هكذا يمكننا رؤية وجه الشبه في المشهد الشعري التسعيني في اليمن، كتابات تنقش نفسها وتحاول كتابات أخرى محوها... فيكون المشهد مجموعاً من المحو والإضافات والشذوذ والإسهاب..
إننا بحاجة لدراسة كل تفاصيل المشهد الشعري التسعيني.. حتى النماذج التقليدية جداً التي لا تعدو أن تكون مجرد ذاكرة لم تعد تستعمل فضلاً عن النماذج التي تعد بقايا لممارسات في الكتابة فرضتها معايير ومعارف وقيم ماضية.. لأننا من خلال ذلك نتبين نمط الإضافة والتغيير والتجاوز في هذا المشهد.. إذ من دون أن ندرس عموديات فيصل البريهي التقليدية لا يمكن أن نقدر قفزات إسماعيل مخاوي المذهلة، ولا عادية محمد سعيد الجنيد.. بالمقابل لنا أن نعي خروج علي الشاهري عن المألوف وتعامله مع الشعر من منطلق شفاهي يتمرجع بالأساس في طبيعة القول في الشعر الشفاهي العامي، كما ستفضي بنا القراءة بالضرورة إلى مغايرات الزراعي أو السلامي ومحاولات القطيعة عند سبيع والنجار.

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
اختيارات القراء
  • اليوم
  • الأسبوع
  • الشهر
  • الأكثر قراءة
  • الأكثر تعليقاً