الأحد 22 سبتمبر 2024 آخر تحديث: السبت 14 سبتمبر 2024
قراءة في البنية الموضوعية و الفنية في المجموعة القصصية ( مدونات ارملة جندي مجهول ) للقاص علي السباعي - محمد المياحي / ذي قار
الساعة 14:35 (الرأي برس (خاص) - أدب وثقافة)

                                        

 

    حينما نقف على الخطاب القصصي للمنجز الأدبي للقاص علي السباعي , سنقف - قطعاً – على تجربة سردية غنية جداً ببعديها ( الموضوعي و الشكلي ) ؛ والسبب في ذلك تواشج البعد الإبداعي ( النتاج ) والموهبة اللافتة وتعالقها مع النزعة الذاتية السيكولوجية المتبلورة نتيجة افرازات البيئة التي عاشها القاص بكل جزئياتها وإرهاصاتها بشكل مفرط ؛ إذ شكلتْ هذه البيئة واقعاً استثنائياً بكل حيثياتها (الاجتماعية والمعيشية والسياسية ...الخ ) , من هذا المنطلق ارتأيتُ أن أقترب من هاتين البنيتين لتتضح معالمهما بشكل واعي وعلمي .
 

   لو تصفحنا مجموعة القصص القصيرة جداً للقاص العربي علي السباعي ، والموسومة بعنوان :- ( مدونات أرملة جندي مجهول ) وحاولنا استجلاء التشكل الموضوعي لهذه القصص ؛ لبدا لدينا إن خطابه السردي يركز على جدليات شكلت هاجساً إنسانياً مروعاً ضمن بُعد زمني ارهق الجميع ؛ وبما إن السباعي كان الأقرب لتك المأساة بوصفه أديباً مرهف الحس منبجز العاطفة أسقط تلك المعاناة في طيات حروفه اليقظة متكأ بذلك على الموهبة الفارهة التي يمتلك هذا من جانب , ومن آخر اعتماد التقنية الواعية المغلفة بالتوظيف الفني بشقيها : التمكن من خصائص الجنس الادبي ( الاختزال, التكثيف ,المفارقة...) الذي يكتب به , و آليات إغناء النص المتمثل بـ ( الرمز والايحاء و السيماء ...) , ولعل أهم الثيمات التي رسمها المسار السردي للقاص في هذه المجموعة ( صورة المرأة العراقية ) التي تتمظهر في أغلب المساقات القصصية ضمن نمط بنية ( الشخصية المضطهدة أو المغتربة روحياً أو المقهورة اجتماعياً ...الخ ) , مع الالتفات إلى إن القاص قد يوفق أحياناً بين تجانس بنيتن موضوعيتين مختلفتين لإعطاء عمق تأثري للمتلقي , وهذا ما نلحظه في التوليف ما بين البنية الموضوعية المتعلقة (بالمرأة ) والبنية ( السياسية ) ؛ فلو تامنا قصته ( اشتباه ) التي يقول فيها : (( عرائس ببدلات الزفاف مثل حمائم بيض ... ينتظرن أمام مديرية الامن لاستلام جثث عرسانهن الذين اعدموا ليلة زفافهم لأنهم يحملون الاسم نفسه لشخص أراد اغتيال الطاغية )) ... عند قراءة النص سنجد ملامح التزاوج الموضوعي فتتجلى لنا لوحة رسم صورة لنسق السلطة واضطهادها عن طريق استدعاء سيمياء حدث ملازم لشخصية المرأة المستلبة المتمثل بـ ( اعدام زوجها بأول ليلة زواجها اشتباها ), ومن هنا تتمظهر النزعة لمصادرة الحرية واغتصاب فرحها تاركاً المجال للمتلقي لإفراز المفارقة المؤلمة ضمن هذا الطرح , لم يقف طرح انموذج المرأة في سرد السباعي عند هذا الحد بل حاول أن يرسم لها مشهداً آخراً بوصفها أكثر الكائنات غبناً وقهراً ضمن بيئة القاص , ومن الملاحظ  إنه وسع من توظيف هذه الثيمة فيدخلها ضمن تشكل ( السخرية الهادفة ) من خلال تفشي ظواهر سلبية عهدها المجتمع متعلقة بدونيتها وإذلالها , ومن ثم إلغاء طاقات هذا الكيان البشري الكبير فنجد القاص يضعها موضع الحرمان والبحث عن لقمة العيش متخذة من (التسول) أداة لرسم هذه الصورة ليختم لنا بعض مساقاته السردية بمفارقة قائمة على السخرية متعرضاً بذلك إلى موقف الرجل السلبي اتجاهها , وهذا ما يتضح بشكل جلي في قصته ( تجار ميزوبوتاميا )  إذ يقول : (( دلفتْ الى مقهى التجار ... امرأة مقوسة الظهر ... تستجدي ... لم يعطها احد شيئا ... الحت في طلبها ... نهرها صاحبها :- اخرجي ...ألا تخجلين.. أنتِ وسط الرجال ... عيب ... ؟!  قالت بمرارة وحزن غريبين في اثناء مغادرتها وكانت تهز يدها باستهزاء قل نظيره : وأين هم الرجال )) , ولا يختلف الشأن في العديد من قصص التي وردت في المجموعة من حيث تشكل شخصية المرأة ؛ فلا يبتعد القاص (علي السباعي)  من رسم الصورة المعبأة بالمآسي والقهر والإسقاطات البخسة ففي التقاطه  مشهدية سردية يؤلمنا القاص في رؤيوية سلوكية للأسرة الجاهلة المتعصبة التــي تتحــمل الام التبعية الاولى لســلوكها المتهور وهذا مــا جسدته فــكرة قصة ( مشاجرة ) يقول :

(( تشاجر مع زوجته ... أراد اغاضتها ... فقتل ابنته ذات الربيعين .)) هذا البعد الموضوعي المرتبط بالمرأة الأم يلخص لنا وبشكل مكثف صورة علاقة المرأة  بالقهر بما يرتبط  بالقمع والإرهاب والعنف الذي يواجهه هذا الكيان العاطفي الشفاف . ولا يختلف الشأن في قصص ( عرس و صور سندريلا و خرساء....الخ ) . 
 

    أما ما يخص البعد الموضوعي الآخر الذي تناوله القاص فهو الجانب ( السياسي) فقد نجده ضمن سرد قصصي واضح حين وآخر ضمن رمز أو إيحاء أو سيميائية , فمثلا قصة ( دكتاتور) والتي نصها (( كان ... أثناء مرور موكبه الرئاسي في شوارع الاحياء الشعبية الفقيرة من العاصمته , وفقراء الشعب يحيون موكبه , يأمر سائقه بان يغلق زجاج نافذته , قائلا : - لكي يمنع الزجاج عواء الكلاب فيرتد عليهم )) , إن الوقوف على بنائية السرد هنا يشعرنا بأن صاحبه يمتلك رؤيوية واضحة يريد يوصلها للمتلقي مفادها إن الحاكم المتسلط ينظر للرعية بنظرة دونية , وبطبيعة الحال تناول مثل هذه الجزئية واعتماده نسق تمرد على يشكل عدواناً صارخاً أمام الحكومات الفاسدة . ولا يختلف الحال في قصة ( صوت صباغ الاحذية ) إذ بأرتْ القصة سياسي ( مرشح انتخابي ) ومن خلال تقنيات المشهد والحوار بين الصباغ والسياسي تتجلى حيثية التذمر من قبل الجماهير للواقع السياسي المقيت , الذي أسفر عنه عزوف الكثيرين فطرح السرد صباغ الاحذية كأنموذج لهذا الشأن المتمثل بانهيار العلاقة بين المؤسسة السياسية وعامة الناس , في مقطع من القصة يحاور الصباغ السياسي بعدما أخبر المرشح بأنه لا يذهب للانتخابات البتة يقول النص ((... الله يخليك استاذ ... هو أنه ضايع ... ياصوتي ...صوتك يضيع – وهو يهز يده اليمنى هازئا - ... أنا مجرد صباغ احذية )) , زخِرتْ المجوعة بهذا الإيطار ( السياسي ) حتى إن البعض منها ورد ضمن سيميائية حدث أو رمز ...الخ  .

 

ومن البنى الموضوعية التي ألمح لها السياق النصي في المجموعة هو تشكل ( الآخر ), ولا اقصد هنا (الآخر) ما يرد ضمن ثنائية الأنا والآخـــر التي هــــي قابل الذات بل أعني مـا يُذكر على طاولة النقد الرأي النــــقدي القائل بــــإن (الآخر) هو ( الغربي ) بمقابل العربي , هنالك قصتان اتضح فيهما هذا التشكل ( ثأر ) و( لماذا ..؟ ) , أما في النص الأول  - ولنا معه وقفة تقنية عند الحديث عن البنية الشكلية - فقد حاول القاص موضوعياً رسم معالم الآخر الغازي من جانب , ومن جانب آخر حاول الكاتب أن يشحن النص واستدراج القارئ الى استرجاع زمني ليلفت نظره إلى واقع تأريخي مجيد يتباها  به الاحفاد , لمحات تاريخية نحتاجها لشحذ همم العصر , وهنا تتخل المفارقة الأدبية المتخيلة الرائعة  والتي تسرد لنا عودة (الآخر) المعتدي من جديد لينتزع دلالات هزيمته السحيقة ( النخيل التي زرعها الجد على قبور من قتل من الانكليز ) , إذا هي محاولة موفقة لشد الانتباه والتنبيه من قبل المبدع  للمتلقي , يقول الراوي المراقب في القصة : (( جاهد جدي ضد الانكليز ... كان يقتل الجندي البريطاني ويأخذ سلاحه وعتاده ويدفنه في بستانه ويزرع فوق جثته نخلة ... صارت فسيلات النخيل تملأ بستانه ... تحت كل تالة يرقد جندي انكليزي قتله جدي ... غادرنا البريطانيون ... كبر النخيل ... مات جدي ... كبرنا ... شاخ نخيلنا ... احتلنا الانكليز ثانية ... قاموا باقتلاع كل نخيل جدي )). فيما يخص النص الثاني ( لماذا .. ؟ )  فكانت محاولة ناجحة من السباعي في رسم مشهدية دلالة واقعية مرتبطة بـ(الاخر الغربي ) مفادها النظر السلبية للغرب اتجاه الشخصية العرقية ,ومن ثم تبئيره لشخصية عجوز امريكية ليكشف بعد ذلك الحوار وسيمياء الحدث شخصية الآخر السلبية يقول السارد المشارك : (( عجوز امريكية ... ثملة ... نزلت من سيارتها في المآب الذي عمل فيه حارسا في أحدى الولايات الامريكية ... في الليلة التي ستقصف بها قوات بلادها العراق ... سألتْ بخبث : من اي بلد انت ؟ اجبتهها بعد تردد : أنا من بلاد الرافدين . قالت لي بخشونة وحدجتني بنظرة مستفزة : أنت جبان )) .

 لم تقف البنية الموضوعية على ما ذكرنا من مفاصل , بل هنالك موضوعات كثيرة عالجها المجموعة تحتاج لوقت طويل لتناولها لكننا أجملنا جزءً منها , من هنا يمكننا القول إن البنية الموضوعية في هذه النصوص بتجربتها الفارهة أنمازت بتوظيف  حيثيات ومصادر فنية وثقافية مبتعدة عن الاستخدام الجزئي الذي يقف حدود موضوعية معينة , محاولاً بذلك القاص الوصول إلى أقصى الحدود تصلها الكتابة الأدبية .
 

  فيما يتعلق بالبناء الفني نجد القاص أتكأ على خصائص وآليات جنس ( ق. ق . ج) وبشكل متقن , فلو تأملنا الركن الأهم في هذا الجنس ألا وهو ( التكثيف ) لوجدناه حاضراً في نصوص المجموعة ؛ الأمر الذي نأى عن إرهاق حس المتلقي في وصول رؤيوية الكاتب بشكل انسيابي وسريع معتمدة بذلك على نسق اختزالي للزمكانية ( الزمان والمكان ) , محاولاً في ذلك التخلص من كل الثيمات المتباينة والمتشابهة , ولا يعني ذلك  أن السباعي يتكأ على الاقتصاد في البنية اللغوية متوخياً الاقتصاد اللغوي ذاته بل يوظف هذه الجزئية بغية استقطاب الفاعلية المؤثرة لهذا الركن الفني في القصة القصيرة جداً , ومن ثم ينحرف بشكل لافت عن الزوائد في عجينته اللغوية لنقف بعد ذلك على نص متجانس دون ترهل , من تلك النصوص التي جسدتْ هذا النمط الفني نصوص( جنوبية , إنسان , اشتباه , زائر , جندي ...الخ) .
 

ومن الخصائص التي نلمحها في هذا المجموعة تقنية (المفارقة)  , التي تعد العنصر الأبرز في جنس (ق 0ق0ج) لأنها تزيد احساسنا بالفكرة فضلاً عن ذلك أنها تسهم في تعميق فهمنا عن طريق الدهشة والقفزة السردية ولما تتمتع به هذا التقنية  من جمالية اطلق بعض النقاد عليها بـ(شعريه المفارقة) , وظف الكاتب المفارقه في نصوصه وبشكل واعي فني ؛ محاولا بذلك ادخال الدهشة إليه , ونكتفي بذكر عينه واحد وهي قصه (تحرش) التي تصور مشهداً في باص لفتاة تلبس عباءة يجلس بقربها شاب مراهق تبعها منذ خرجت من المشفى وحين اخذتْ يد الشاب تخترق ما حدود جسمها  محاولاً تلمس جسدها قالت :((أتقِ إنه راس رضيعي الميت)) , وهنا نجد أبداع القاص في التعبير عن مغزى معين قائم على التهكم , والمفارقة هنا إنما جاءت (ترميز) قام المبدع بإرساله للمتلقي معتمداً على إليه المباغتة وكسر أفق تلقي القارئ ومن ثم تحفيزه لاستيعاب فكرة النص . وفيما يخص العنصر الآخر ( وحدة الموضوع ) فقد ألتزم صاحب المجموعة إلتزاماً كبيراً في الوحدة الموضوعية لنصوصه ولا يقصد هنا تطابقيه الفكرة الواحدة للعنوان فقط بل  تجانس وتضافر الأفكار لإيصال المعنى المطلوب؛  ومن ثم يظهر لنا من خلال تتبع المساق السردي ابتعاد النصوص عن الفضفضة الزائدة التي قد تشوه انسانية تسلسل الحدث والتي قد تخرجه عن نمط هذا الجنس ومن جانب آخر نجد أن النصوص وضمن هذا الطرح أنمازت بالنجاح ؛ ذلك إنها كانت مقنعة وتلامس الواقع المعيش , ولكثرة النصوص التي يمكننا ان نستشهد بها نكتفي بأنموذجٍ واحدٍ كعينة و هي قصة ( غارس) التي يقول فيها السارد المراقب :(( رجل في عقدة السادس طفح بها الكيل بعد الحوادث الطائفية الدامية عام الفين وستة جمع كل صور الطاغية في المدينه وقام بغرسها وسط سوحها وحدائقها المجديه وخرائبها وراح كل يوم يجلب الماء من فراتها إلى الصورة التي غرسها و وسقاها على أمل أن تنبت واحداً مثل صدام )) , عند استقراء القصه نلحظ إن بنائية السرد عبارة عن ترابط بين مفردات مقننة ومقنعة لغاية متوخاة تهدف إلى سبك العبارات لا تنحرف عن وحدة الموضوع الذي يعكس هواجس الجماهير وما يعيشه المجتمع , هذا الجزئية لم تبتعد عنها البنية القصصية ولم تنحدر إلى سواها إذ بقت ملازمة البنية القصصية مع بداية عتبة النص ( العنوان) حتى آخر لفظة في السياق من اتضاح عدم الرتابة. 
 

 

    من اللافت في هذا المجموعة تمظهر أسلوب فني معتمد على ( سيميائية الحدث) الذي يهدف إلى طرح معاني ايحائية عميقة فأمسى الإيحاء دلال على جزئية سلبية يكتفي القاص بإيراد مشهدية مكثفة ومختزلة متكئة على علامة المسرود التي استنطق النص بكل أجزائه ( المسكوت عنه ) في واقعنا ؛ فضلاً عن ذلك كشف نص قصة (طيف) و (احتراف) ( بشكل سيميائي التناقض عند بعض أصحاب السلوكيات الاعتقادية التي تحتاج إلى الكثير للوقوف على حقيقة و طبيعية تفهم تبني معتقد وسلوك ما , ومن ثم محاولة النص للإشارة إلى تنظيم هذا التبني بوساطة عكس النظرة الإيجابية , قام القاص علي السباعي بدور لافت بوصفه مثقفاً واعياً حين جعل الشعور بالمسؤولية راصــــداً ومشخِصاً لمواضع الخــلل , وقطــعا هـــذا الأسلوب إشاري ملمحٌ لرحلة في اعماق الحياة المعيشة , هذا ما جسدته قصة (طيف) يقول الراوي :((رجل أراد أن يكون منبرنا جاءته الحوراء زينب بيدها رأس الحسين وقالت تشتري )) , في النص نستُشِير ما ورائية سرد الحدث الذي يهدف لإلى كشف رويا معالم الخطأ لِلَفت انتباه المتلقي إشارياً , زخِت نصوص هذه المجموعة بالعديد من الآليات والتقنيات و الخصائص الفنية التي جعل هذا المجموعة متكاملة بنائياً (شكلاً ومضموناً)).


 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
اختيارات القراء
  • اليوم
  • الأسبوع
  • الشهر
  • الأكثر قراءة
  • الأكثر تعليقاً