الأحد 22 سبتمبر 2024 آخر تحديث: السبت 14 سبتمبر 2024
تجاور الأشكال الشعرية في تجربة الجيل التسعيني اليمني(1-2 ) - علوان الجيلاني
الساعة 16:20 (الرأي برس (خاص) - أدب وثقافة)



قراءة المشهد الشعري التسعيني في اليمن –بمجموعه لم تحدث حتى الآن.. ثمة قراءات جزئية.. قام بها كتابٌ مستعجلون أو منحازون أحياناً، تناولت إما تجارب منفصلة لشعراء يمثلون توجهات شكلية مختلفة ولم يكن هدفها قراءتهم بصفتهم يمثلون مشهداً يفترض أن تتحدد فيه السمات المشتركة.. وكذلك الاختلافات التي يمكن أن نتوقعها في نتاج أبناء جيل يعيشون على أرضٍ واحدةٍ، ويشتركون في التعرض لما يسقط عليها أو يهب نحوها أو ينبت منها.. وإما.. تجارب متقاربة شكلياً وهذا ما ظفرت به قصيدة النثر وحدها حتى الآن من خلال كتابي (قصيدة النثر في اليمن أجيال وأصوات) للدكتور حاتم الصكر.. و(الكتابة الجديدة) هوامش على المشهد التسعيني للأستاذ أحمد السلامي. 
والملاحظ أنه بمقدار ما حظيت تجارب شعرية فردية متميزة لشعراء تفعيليين بقراءات واسعة، فإن مشروعاً قرائياً لهذه التجارب مجتمعة لم يتم على نحو ما فعل الكاتبان المشار إليهما. وعلى نحو ما فعلت قراءات أخرى لكتاب آخرين منهم محمد المنصور على سبيل المثال إزاء قصيدة النثر.. 
ويبدو ذلك مبرراً بكون قصيدة التفعيلة قد استقرت وتحددت ملامحها، وصارت الكتابة ضمنها.. تدخل في إطار المقبول والمألوف، كما صارت الكتابة عنها لا تحتاج إلى كثير من التنظير والتبشير والاحتفاء بها كشكل وتجربة، بل صارت الكتابة عنها تركز فقط على ما يمكن أن تضيفه تجربة شاعر قادر أن يحقنها بدماء جديدة.. ويضيف إلى روحها من روحه ونفسه.. وقوة إبداعه.. 

 

وذلك بعكس قصيدة النثر التي ما زالت كتابتها في حاجة إلى حفاوة خاصة تشمل التبشير بها والتنظير لها.. ولفت الأنظار إليها.. وتأمل صياغاتها ومقترحاتها.. ورصد المتغير المرتبطة به أو المرتبط بها.. ومن ثم مرجعياتها وأنماطها... إلخ. وهذا شيء طبيعي عرفه التاريخ الإبداعي على مر الأزمان كلما حدثت انتقالة وجاء جديد.. 
 

ويبدو أن الشكل كلما استقر واعتاد الناس عليه.. كلما قل الاهتمام به بوصفه تياراً أو موجة أو مشهداً واسعاً.. وثم التركيز على الحالات الاستثنائية التي تحرك مياههُ.. وتفتحُ أزهاره بين الحين والحين.. فإذا كانت قصيدة النثر يحتفى بها كلها، ويحتفى بجميع كاتبيها تبشيراً وتنظيراً وتأمل صياغات ومقترحات، و.. الخ. 
وإذا كانت قصيدة التفعيلة يتم الاحتفاء بها من خلال أبرز أصواتها والتجارب النوعية فيها فقط.. 
فإن قصيدة العمود تبدو مهملة ومهمشة بشكل مذهل إلا من بعض التفاتات لا تتناسب وسعة حضورها.. 

 

لابد من التذكير هنا مرة ثانية أن الأمر سيبدو لمن يقرأون التاريخ الإبداعي شيئاً طبيعياً.. وأن كل حالة من هذه الحالات لها أشباه ونظائر في التاريخ.. غير خافية.. فعندما ظهر التجديد في القصيدة العباسية احتفى النقاد بكل شعرائها وإضافاتهم واختلافهم واصطفافاتهم الواضحة من أجل رؤيتهم الجديدة للحياة من خلال إبداعهم واختلاف لغتهم وتشابههم في الأساليب والصياغات.. وغيرها. 
وعندما جاء المتنبي كانت شروط التجديد قد تحققت ولم يعد يلفت الناس أو يصدمهم ما يقوله أي شاعر.. لم يعد يلفتهم إلا الشاعر الاستثنائي.. الذي يقول شعراً استثنائياً داخل الشكل المكرس نفسه..
ولعل تعاملنا مع كل الكبار داخل العمود من أبي العلاء حتى البردّوني لم يخرج عن هذا المفهوم.. 
الأمر نفسه تم مع حركة الشعر الجديد من منتصف الأربعينيات حتى نهاية الستينيات تقريباً.. وبعد ذلك لم تعد تلفتنا إلا التجارب الاستثنائية.. سواء تلك التي واصل إبداعها الرواد، أو تلك التي أبدعتها ثلاثة أجيال امتدت على مساحات السبعينيات بشكل واسع.. ثم الثمانينيات.. ثم التسعينيات وإن تراجعت كثيراً لصالح قصيدة النثر.. تماماً كما تراجع الاهتمام بالعمود لصالح قصيدة التفعيلة قبل ذلك. 

 

 

قد يفهم من ما سبق أنني أحاول الدفاع عن العمود والتفعيلة أمام صخب الاحتفال بقصيدة النثر.. إلا أن الذين يسمعون ما أقرؤه من شعر في السنوات الأخيرة أو أنشره لن يفهموا مثل هذا الفهم الذي يلتبس مرات كثيرة إما بالجهل أو المزايدة.. ولذلك فإن هذه لتناولة ستقدم معاينة مختصرة وشاملة لما ساهمت به أشكال الكتابة المختلفة داخل المنجز الشعري التسعيني في اليمن.. 
أريد أن أقول إن تعميماً مفسداً يلتبسُ فيه -أحياناً- سوء النية بالجهل.. حين يتحدث الناقد أو الدارس عن القصيدة التسعينية من خلال حصرها في شكل أو الإصرار على الحديث عنها من خلال شكل مع الإغفال التام للأشكال الأخرى - لا أقصد هنا- ضرورة الحديث عن الأشكال الأخرى.. إذ من حق أي مبدع أو ناقد اختيار ما يريد والدعوة له وقراءته ودرسه – ولكنني أقصد.. أن يتلازم الحديث عن شكل ما باعتبار الأشكال الأخرى لاغية.. بمعنى آخر.. تعميم الحديث عن القصيدة التسعينية (مثلاً) من خلال قصيدة النثر أو التفعيلة أو حتى العمود ولا شيء غيرها.. 

 

سأخرج من المقدمة وذيلها.. لأدخل إلى صلب موضوعي وهو محاولة تقديم قراءة موجزة.. في (تجاور الأشكال الشعرية في تجربة الجيل التسعيني اليمني). 
وأريد الإشارة أولاً إلى أن تجاور الأشكال الشعرية لا يعني فقط تجاور الكتابة في أشكال مختلفة بين مجموعات أو أفراد من الشعراء يتجاورون في المكان والزمان، وإنما يعني أيضاً تجاور الكتابة في أشكال مختلفة عند الشاعر الواحد.. ليس عن طريق التطور.. تطور التجربة في مرحلة لاحقة كأن يبدأ الشاعر تفعيلياً وينتهي نثرياً، أو أن يبدأ عمودياً ثم في مرحلة لاحقة يكتب التفعيلة.. ثم يتطور أو ينتقل إلى كتابة قصيدة النثر.. وليس هذا أيضاً فقط.. وإنما أن تجد شاعراً يكتب الأشكال الثلاثة.. في مرحلة واحدة من تجربته الشعرية. 

 

 

إن النتاج الشعري التسعيني في اليمن والذي يتم تداوله من خلال الحفلات الشعرية أو النشر في الصحف أو مطبوعاً في مجموعات شعرية خلال عشر التسعينيات وما تلاها حتى اليوم.. يؤكد.. ما يلي: 
 

أولاً: وجود مجموعة من الشعراء التسعينيين.. الذين بدأوا كتابة القصيدة في التسعينيات أو ظهروا في التسعينيات.. عرفوا من خلال القصيدة العمودية.. وظلوا يكتبونها ويراكمون منجزهم الشعري وخبرتهم من خلالها.. غير مبالين في أغلبهم بالأشكال الأخرى وقليلٌ منهم يعادون حتى التفعيلة ناهيك عن قصيدة النثر، وهؤلاء في الغالب لا يبالون بالنشر أو الظهور إلا إذا دفعوا إليه دفعاً: ومن هؤلاء مثلاً الشاعران فيصل البريهي، وأحمد مغلس. علي بارجاء.
 

ثانياً: وجود مجموعة من الشعراء التسعينيين الذين بدأوا كتابة القصيدة في التسعينيات أو ظهروا في التسعينيات جاوروا في كتابتهم بين الشكلين العمودي والتفعيلي.. وقليلٌ منهم من تعامل مع قصيدة النثر بعداء . وبعضهم تجاهلها والبعض الآخر يتقبلها بحماس وإن لم يكتبها.. ومن هؤلاء من أخلص أكثر للعمود على حساب التفعيلة مثل الشاعر إسماعيل مخاوي، ومنهم من هجر التفعيلة بعد أن قدم فيها تجربة لا بأس بها وانكفأ على قصيدة العمود مثل الحارث بن الفضل الشميري، ومنهم من ظل يراوح بين الشكلين مثل الشعراء سليمان معوضة وعبد الله عصبة وأحمد الشلفي، وصلاح الدين الدكاك. 
 

ثالثاً: وجود مجموعة من الشعراء التسعينيين الذين بدأوا كتابة القصيدة في التسعينيات أو ظهروا في التسعينيات جاوروا في كتابتهم بين الأشكال الثلاثة العمود والتفعيلة والنثر.. وأغلب هؤلاء بدأوا كتابة التفعيلة والعمود في وقت واحدٍ.. ثم انتقلوا إلى قصيدة النثر لاحقاً.. وهؤلاء في أغلبهم أيضاً يهمهم في المقام الأول البحث عن فضاءات متعددة لكتاباتهم.. حتى إن بعضهم ليعاود كتابة قصيدة العمود بنفس كثافة كتابة قصيدة النثر.. كما أن بعضهم يكتب قصيدة نثر ولكن بمفردات ومعجم.. وصياغات تأتي من عالم العمود.. 
 

لعل من أبرز هؤلاء الشعراء كريم الحنكي، محمد المنصور، أحمد الزراعي، جميل مفرح، علي جاحز، عبد المجيد التركي.
 

أحمد الزراعي مثلاً: قدم مجموعة شعرية هي مجموعة ((أسلاف الماء)) التي تعد من أهم المجموعات الشعرية التي أنتجها التسعينيون ورغم أن غالبية نصوصها تؤكد على تماهي الشاعر مع الشكل الجديد (قصيدة النثر).. إلا أن إصراره على تقديم نفسه متعدداً يبدو واضحاً من نصوص تفعيلية داخل المجموعة المشار إليها مثل نص (رؤيا):
صاحبي قتلته هواجسه
وأنا قتلتني الفراشة 
بعد حينٍ من الموت 
أدعى قتيل الفراشة 
وأبحث عن صاحبي 
في الهواجس 
وأنسى دمي 
في الفراشة. 

 

ولكن إصراره على تقديم الأشكال متجاورة في مجموعته تلك يتضح أكثر من افتتاحها ببيت شعرٍ عمودي.. جعله عتبة لها ومفتاحاً لكنوزها.. 
أنا 
الطائر 
المجهول 
في 
كل 
رفة
بكل 
بروق 
الأرض 
لم 
يكتمل 
عشي
البيت مجتزأ من نص عمودي للشاعر عنوانه (طائر). 
يقول الشاعر فيه أيضاً:
مشيت إليكم في زماني برؤيتي
وبعد مماتي سوف يمشي بكم نعشي
و(صنعاء) في قلبي ينابيع لوعة
قصور الهوى تدري مفاتنها نقشي

 

وهنا ملاحظة جديرة بالاهتمام هي أن الزراعي يمارس كتابة العمود والتفعيلة بنفس الوعي الذي يمارس من خلاله كتابة قصيدة النثر.. وهذا توجه لا يقتصر على شعراء من اليمن فحسب بل إن شعراء في الخليج والسعودية والعراق يفعلون ذلك أيضاً.

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
اختيارات القراء
  • اليوم
  • الأسبوع
  • الشهر
  • الأكثر قراءة
  • الأكثر تعليقاً