الأحد 22 سبتمبر 2024 آخر تحديث: السبت 14 سبتمبر 2024
حكاية الربيع العربي رواية «الحركة» لعبد الإله بلقزيز- عبدالعزيز المقالح
الساعة 13:11 (الرأي برس - أدب وثقافة)

 

 

تتجلى في رواية «الحركة» للكاتب المغربي عبد الإله بلقزيز، الحالتان الإيجابية والسلبية للحراك الجماهيري وكيف يواجه جيل الثورة المعوقات من داخل صفوفه حينا ومن خارج هذه الصفوف أحيانا.
 

والرواية ترصد بدقة وحرفية فنية لا تخلو من التشويق والقص أحداث 20 فبراير/ شباط الشبابية المغربية التي لا تكاد تختلف عن مثيلاتها في مصر وليبيا واليمن، وما آلت إليه هنا وهناك – وما حققته من انتصارات قليلة وانكسارات كبيرة – ومن الطبيعي والمسلم به أن تكون شخصيات العمل الروائي وأبطالها في الرواية من الضالعين في الحركة من شابات وشباب تحركهم رغبة صادقة في التغيير وإيجاد نقلة نوعية في حياة الوطن والناس.
 

ومن بين أهم عوامل النجاح التي تحققت من وجهة نظر أبطالها أنها كسرت حاجز الخوف وحرَّكت المياه الراكدة، وأخرجت القوى الصامتة من دوائر عجزها وتبلدها ولامبالاتها، وصارت تتقدم الصفوف في المظاهرات وتعلن بوضوح عن مطالبها، وكانت بمثابة الخطوات الأولى في طريق امتلأت بالمزالق والمنعطفات الحادة.
 

وأهم ما توحي به «الحركة»، أنها تحمل تأكيدا لا لبس فيه ولا غموض على أن الشعب العربي واحد من أطرافه إلى أطرافه، وأن المعضلات التي نشكو منها لا تختلف في أي دولة عربية، وأن الشعارات التي رفعتها الحركة المغربية هي الشعارات ذاتها التي كانت مرفوعة في مصر واليمن وليبيا وسوريا في البداية.
 

فقد ضاق العربي بالأنظمة المتناسخة والوراثية، التي أضاف وجودها الطويل في الحكم الكثير من آلام المواطنين وفقرهم، وزاد من اتساع ساحة الفوارق بين الأغنياء والفقراء، ومن غياب كل بارقة أمل في الإصلاح أو التصحيح بعد أن تصاعد التقارب بين رجال السلطة ورجال الثروة وتحول إلى ما يشبه الزواج الكاثوليكي. لقد هان المواطن العربي على أنظمته التقليدية المخلّدة وهان على نفسه الموسومة بالعجز وعدم القدرة على التحدي. كما هان على الآخر غير العربي الذي ينظر إليه من بعيد نظرة استعلاء وتجاهل. وليس القارئ بحاجة لتغير أسماء شخصيات الرواية أو مواقع تحركها ليتم تعميمها على بقية الأقطار العربية فهي متشابهة هنا وهناك، بل متطابقة.
 

ولكي يكون الروائي صادقا مع نفسه ومع قارئه فقد كان عليه أن يلزم الحياد في رسمه للأحداث وما تؤدي إليه من نتائج، أو هكذا يبدو الروائي في الظاهر بينما هو بحكم انتمائه وبُعْد نظره قد ينحاز أحيانا إلى هذه الجهة أو تلك ويغلب هذا الرأي على غيره من الآراء المطروحة، وقد لا يكون ذلك علنا ومباشرة، بل من خلال كلمات من شأنها أن تبرز صوابية رأي ما على رأي آخر. ويمكن القول في هذا الصدد إن الروائي بمقتضى الحالة ليس واحدا من شخوص روايته فحسب؛ وإنما هو الموجِّة للشخصيات وكيف ينبغي لها أن تعبِّر عن نفسها تجاه الأحداث وما يتمخض عنها من متغيرات طال ترقبها. 
 

وعندما يكون الروائي كاتبا وملتزما بموقف ثابت تجاه وطنه الصغير أولا وتجاه وطنه الكبير ثانيا لا مناص من أن يتخفف وهو يكتب عملا روائيا من الحيادية المطلوبة وأن لا يكتفي بأن تقوم إحدى شخصيات روايته بتبني موقفه أو التحدث باسمه، وهذا ما فعله تقريبا بلقزيز في روايته. فقد حرص على أن تحمل وجهة نظره ووجهات النظر الأخرى في مناخ من الحوار المفتوح والتناغم المعرفي والنفسي، وقد ساعده في تحقيق ذلك الهدف أن شخوص الرواية كلها تنتمي إلى الوسط الثقافي القادر على أن يتخلص من الرؤى ما يجعله يواجه الأمور التي قد تبدو للآخرين على درجة من الغموض والتعقيد.
 

مواقف بعض الشخصيات كما يرسمها المؤلف، نموذج لما ينبغي أن تكون عليه الشخصية السوية، وما يكون عليه المناضل الواعي لدوره، وكيف يستطيع أن يتصرف بحكمة تجاه سير الأحداث ومواجهة المتشددين في مطالبهم والرافضين للحلول التي قد لا تكون مرضية مئة في المئة، فالمناضل لا يكون عدميا ولا فوضويا متطرفا في حساباته للأمور، ولا تكون أحكامه بعيدة عن الواقع وما يفرضه من ضرورات في مقدمتها القبول مؤقتا بأنصاف الحلول في انتظار استكمالها في جولة أو صولات ثانية. وكان ذلك موقف أمجد وهو أحد مؤسسي الحركة الذي ينقذ الحركة من داخلها وينبه إلى بعض ما يعتريها من قصور وما حدث بينه وبين عدد من رفاقه لأنه لم يرفض الدستور الذي يتجاهل بعض المطالب المهمة، وعذره الذي يتذرع به أن الدستور تم طرحه للاستفتاء وما فيه من إيجابيات تعد مكسبا ما كان يمكن أن تتحقق لولا الحركة، وما هيأت له من ظروف مناسبة للتغيرات الأولية. 
 

أمجد، يمثل حالة موجودة في عدد من الأحزاب والتنظيمات حالة من يرفض القمع الفكري وعدم الإنصات إلى الرأي المخالف.
في مكان ما من الرواية ترد هذه الجملة المهمة والمتعلقة بحرية الرأي والرأي الآخر: «أخلاق الخلاف لا ينبغي أن تداس، وإلا لا معنى لأن يقول المرء عن نفسه أنه ديمقراطي» وفي الرواية أكثر من مشهد ومن جملة مماثلة تنتصر للرأي المخالف سواء داخل الأحزاب أو في الحياة العامة، فأخطر الإشكاليات التي يعاني منها الوطن العربي تتجسد في غياب المفهوم الحقيقي للديمقراطية، وفي غياب احترام الرأي المعارض ولو كان صائبا وفي صالح التغيير نحو الأفضل.

 

 

لقد شهد الواقع العربي منذ خمسينيات القرن الماضي وحتى الآن وفاة عدد من الأحزاب التي كانت تملأ الدنيا وتشغل الناس، وكان غياب الحرية داخل تكوينات هذه الأحزاب من أهم أسباب الوفاة، كما شهد الواقع العربي سقوط عدد من الثورات والحركات المباركة التي بشَّرت باقتراب ميلاد المجتمعات الفاضلة لكنها تراجعت ثم اختفت للأسباب ذاتها لذلك يجهد المفكرون والمبدعون أنفسهم، وفي الآونة الأخيرة، خاصة في التركيز على أهمية توسيع دائرة الحريات ومواجهة أشكال القمع الفكري بكل الوسائل الممكنة وفي مقدمتها الكلمة التي تبقى أكثر تأثيرا وقدرة على تصحيح المفاهيم وتطوير الوعي حتى في أكثر الشعوب إغراقا في الجهالة والتعامل البليد مع الواقع.
 

الحركة، رواية سياسية بامتياز، لكن قراءتها ومتابعة أحداثها والنظر إلى ما تتمتع به من ضوابط فنية وتسلسل زمني يؤكد أنها رواية بامتياز أيضا، وأنها استطاعت أن تدخل عالم السرد من أوسع الأبواب، فقد أخذتني خلال أيام ثلاثة من سطورها الأولى إلى سطورها الأخيرة، وذلك ما يفرق بين ما هو سردي متكامل الآليات وما هو غير سردي وعادي، وكان شاغلي في تلك الأيام الثلاثة معرفة مصائر أبطال الرواية وهم من مؤسسي (الحركة) وتتبع نتائج نقاشاتهم بكل ما اتسعت له من حيوية وخلافات موضوعية كان لابد لها أن تثور وتأخذ مكانها على السطح منذ الأيام الأولى، ولا تتوقف حتى بعد أن توقفت الحركة أو هدأ مدها وتفرق جمهورها العريض أو كاد. ولنا أن نتبين أن تلك النقاشات أو الحوارات عمّقت من درامية هذا العمل الروائي وكشفت من خلاله أن الحراك العربي ـ كما سبقت الإشارة- واحد في أهدافه وفي مقدماته ونتائجه، مع فوارق نسبية سلبا وإيجابا.
 

حين يتطرق النقد الأدبي، عن تنامي الشخصيات في العمل الروائي لا يتبادر إلى الذهن أن يكون التنامي متساويا بينها جميعا وألاّ يطغى حضور شخصية منها على شخصية أخرى. وإنما يكون التنامي في نجاح الشخصية في أداء دورها قصيرا كان أم كبيرا، فقد يكون لبعض الشخصيات غير المحورية، والتي قد تظهر عرضيا في سياق السرد الموضوعي قدرة على أن تترك في وعي القارئ ووجدانه ما لا تتركه الشخصيات المحتفي بها من طرف الروائي.
 

الشخصية المحورية في الرواية، هي أحمد، والد الناشط السياسي حسن هو الأقرب إلى أن يكون المجسد لهذه المحورية، فقد رصدت الرواية منذ فصولها الأولى قلقه ومخاوفه على ابنه الوحيد من الخوض في ميدان السياسة لما تقود إليه من مخاطر أقلها التقلب بين جدران السجن. 
 

وكان خوف هذا الأب من السياسة يجعله يردد مقولة والدته عن «أنه بالسياسة نجح إبليس في إغواء سيدنا آدم وحواء والتسبب لهما في الخروج من الجنة، وأن السياسيين جميعا من نسل الشيطان، يحتالون على الناس ويسرقون أصواتهم في الانتخابات بعد أن يصدقهم هؤلاء، لكي يغنوا». 
 

لقد انعكس موقف هذا الأب الخائف على ابنه من غواية السياسة شعور شريحة واسعة من الآباء الذين يدفعهم حنانهم المبالغ فيه إلى أن يتشددوا في إقناع أبنائهم بأن لا يلقوا بأنفسهم في هذا المعترك الوبيل، لكن ورغم كل التدابير التي اتخذها والد حسن لمنع ابنه من التسيّس فقد تمكن الابن من أن يكون واحدا من أبرز القياديين في تحشيد المتظاهرين وتحريضهم على الاندماج في الثورة.
 

ومن المفارقات البارعة والذكية في هذا العمل الروائي نجاح الكاتب في أن يحوّل موقف هذا الأب الكاره للسياسة والمعارض لانخراط ابنه في مجالها إلى النقيض، أو على الأقل جعله بعد حين يرضى عن دور الابن، فقد غيّر الموقف السياسي للابن من صورة الأب في الحارة وأهلها وجعل البقَّال الذي لم يكن يطيق رؤيته يُقْبِلْ عليه باحترام ويرى فيه والدا لبطل من أبطال ساسة المستقبل الذين يهتم بهم الناس وتهتم بهم البلاد، ومن هنا لم تعد السياسة شرا مسيطرا بل صارت بابا مفتوحا إلى تقدير الناس وتغيير مواقفهم وحساباتهم الذاتية تجاه من ينتمي إلى العمل السياسي أو ينتمي ابنه أو أحد أقاربه لما يترتب على ذلك من ظهور سياسي في المستقبل القريب يسهم في إحداث تأثيرات غير محتملة وتغيرات غير عادية. إنها الثمار الأولى التي يجنيها الأب من خلال دخول ابنه إلى المعترك السياسي مخالفا في ذلك انعزالية والده وما جلبت عليه تلك الإنعزالية من احتقار الناس واستصغارهم لشأنه، ويعدّ هذا التحوّل في الشخصية المحورية – من ناحية فنية – جزءا لا يتجزأ من التغير الملحوظ في مسار أبطال الرواية. وفي بنيتها الفنية وفي ما تصالح النقاد على تسميته بالتنامي في شخوص العمل الروائي. كما يلاحظ أن الرواية، تميزت بلغتها عبر قدرات تعبيرية واسعة المدى تؤكد ما قيل عن السهل الممتنع.
 

 

يبقى أن ملكة «الحكي» قاسم مشترك بين كل البشر، فكيف لا تكون قاسما مشتركا بين كل الكتَّاب. وإن كان البعض منهم ينصرفون باختيارهم عن التواصل مع فنون إبداعية بعينها، مع أن في إمكان كل كاتب يمتلك القدرة على التعبير أن يكون ساردا متميزا وروائيا مبدعا. هناك أسماء كثير ممن كتبوا فكرا ونقدا أدبيا وتركوا آثارا لافتة في المجال الروائي أمثال رائدنا جميعا طه حسين الذي بدأ حياته الأدبية شاعرا، ثم هجر الشعر إلى القصة القصيرة والرواية ثم هجرهما معا إلى النقد الأدبي وإلى الكتابات الفكرية. وتجربته الناضجة تصلح نموذجا لغيره من الكتاب الذين تحركهم رغبات كامنة في الهجرة من حيث استقر بهم الحال في مناخ كتابة معينة إلى الانتقال إلى مجالات ليس لهم بها تجارب سابقة. 
 

يصعب الجزم أو بالأحرى التنبوء بأن بلقزيز قد انتوى بعد أن قدّم للإبداع ثلاثة أعمال روائية الانحياز نهائيا نحو هذا الفن أو على الأقل أن يمنحه بعضا من وقته المخصص للفكر ومتابعة هموم الوطن العربي وما يصدر عن الآخرين في علاقتهم مع هذا الوطن غير المحظوظ بعلاقات سوية متوازنة لا يشوبها افتئات أو تمايز.

 

٭ أديب يمني

منقولة من القدس العربي ...

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
اختيارات القراء
  • اليوم
  • الأسبوع
  • الشهر
  • الأكثر قراءة
  • الأكثر تعليقاً