الأحد 22 سبتمبر 2024 آخر تحديث: السبت 14 سبتمبر 2024
مدخل تاريخي بانوراما أجيال الشعر اليمني في القرن العشرين(5-6) - علوان الجيلاني
الساعة 14:26 (الرأي برس (خاص) - أدب وثقافة)

 


كان مشروع المقالح وزملائه التأسيس جدياً للحداثة الشعرية في اليمن.. وهي حداثة ذات أبعاد سياسية وثقافية واجتماعية وتاريخية، تتعلق على نحو خاص بضرورة أن تأخذ اليمن مكانها بين شعوب العالم تجديداً وتحديثاً.. وأن تكون حاضرة في عصرها، ولكن ما يهمنا هنا هو انعكاس هذه الحداثة على فنيات القصيدة بوصفها الدليل المتحقق من ذلك المشروع.. فهذا المتحقق لن يكون بمعزل عن جملة من المؤثرات مثل انكسار المشروع القومي بعد هزيمة 1967م، وتحول ثورتي سبتمبر وأكتوبر اليمنيتين إلى نظامين شطريين يحارب كل منهما الآخر بشتى الوسائل.. وتحول حلم الوحدة العربية إلى دول قطرية، أصبح على المثقف والمبدع أن يساهم في الشرعنة لها من خلال عمله في مؤسساتها، ناهيك عن تنامي القوى الظلامية وانتشارها المنظم المدعوم بالمال، وقدرتها ليس على عزل نخب الإبداع والثقافة والفكر، بل على تدمير حضورها الاجتماعي بتحويله من حضور ملهم يتعالى حد القدوة إلى حضور مشوه لجراثيم بشرية تروج للكفر، والزندقة، والإلحاد، والتغريب... إلخ.
 

ولذلك فإن متحقق الحداثة الذي يتجلى في وفرة الاشتغال على التقنيات الفنية الباذخة في القصيدة، وعلى التعامل مع الكتابة الشعرية بحرفية مخلصة يمكن التمثيل له ببعض قصائد المقالح ذات البناء المستند إلى معادل موضوعي مثل قصيدة مقتطفات من خطاب نوح بعد الطوفان وغيرها، وأشعار عبد الرحمن فخري، وبخاصة في مجموعة من الأغاني ما أحزن الأصفهاني فإنه يمكن لمح كثير من الطوارئ الفنية على مستوى بناء الصورة الرمزية حيث (يلاحظ أن كثيراً من الصور تجريدية وتبنى على الوهم واللاوعي، وهي لا تعبر عن حالة ذاتية على النحو الذي ميز الصورة الرومانسية، بل توحي بحالة كيانية تدمج بين عالم الداخل وعالم الخارج). كما يمكن لمح إفادة الشعراء (من وسائل الرمزية مثل تراسل الحواس).. ويمكن الحديث أيضاًَ (عن الرمز الفني أو الذي يقترب من معناه الفني عند الرمزيين بصرف النظر عن المذهبية، إذ نرى كثيراً من القصائد تبنى على رمز كلي، وفيه تتآزر الرموز الصغرى والصور للإيحاء بالفكرة والحالة الكيانية المصاحبة، وغالباً ما تكون الفكرة غامضة أو مراوغة، وبخاصة في النصوص ذات الأسلوب التجريدي)، كما في كتابات عبد الودود سيف، وحسن اللوزي.. يضاف إلى ذلك توسيع الشعراء للاتكاء على تيمة (المعادل الموضوعي)( ).
 

(ويبلغ تطور الرمز مداه في الرمز القناعي، حيث النص الرمز ذو بنية مركبة تنصهر فيها عوالم متعددة وأزمنة مختلفة، وتتبادل فيها الأداء أنوات لا أنا واحدة. وهذا بدوره يكشف عن حالة كيانية أكثر تركيباً عند المقالح بخاصة في رموزه وأقنعته الكبرى التي حملها معاناته النفسية ورؤاه إلى الواقع والمستقبل، ومن هذه الأقنعة سيف بن ذي يزن، وضاح اليمن،مالك بن الريب، ابن زريق البغدادي وغيرها)( ).
 

الجيل السبعيني -كما أسلفنا- شهد أيضاً الحضور الأكبر للشاعر عبد الله البردوني، سواء حضوره المتعلق باتساع شعبيته وصداماته القوية مع النظام، أو حضوره المتمثل بإدخاله القصيدة العمودية إلى آفاق ومرتادات حداثية لم يكن ليتصورها أحد.. إلى جانب كتاباته ومعاركه النقدية، وتحوله إلى علامة كبرى لتلك المرحلة بمقدار ما كان المقالح علامة كبرى لها من خلال كونه قائداً للتحديث، ومحتفياً بالحداثة.. وإذا كان الحضور الكبير للبردوني من خلال تطويره للقصيدة العمودية أسلوباً ومعجماً، ومضامين، ومن خلال حضوره الجماهيري قد ظل بمثابة الراعي للتجارب العمودية القوية والواعية أيضاً كما في حالة الشاعر حسن الشرفي، فإن جيل السبعينيات أفرز أيضاً في الاتجاه المقابل تياراً تحديثياً طمح إلى تجاوز قصيدة التفعيلة وتقنياتها وما ارتبط بها -صدفة ربما- من اشتراطات مضمونية إلى كتابة قصيدة النثر.. وهو تيار اتسم بالاندفاع والمغامرة في كتابة القصيدة -على حد تعبير المقالح- الذي يؤكد أن ما أنجزه شعراء السبعينيات في اليمن عبر هذا الشكل بتجلياته المتاحة آنذاك لم يكن نتاج نزوات أو رغبات في المحاكاة والمماثلة؛ لأن (في صفوف هذا الجيل الرافض المغامر أفراداً يمتلكون مواهب عالية وإمكانات ذاتية قادرة على ترويض النص الأجد ليكون شعراً وثيق الصلة بعصره وبالمحيط البشري الذي يصدر عنه)( ). 
 

لهذا كان ذلك التيار -كما يقول المقالح- (يعاني ويستمر في التجريب والبحث عن المغايرة بكونها ظاهرة إبداعية حقيقية وليس محاكاة لتجارب فقدت لونها وبريقها، وأصبحت نمطاً مستهلكاً يشبه الترجمات الصادرة أو تلك المنقولة عن اللغات الأخرى)( ). 
 

وقد كان رائد هذا التيار من السبعينيين عبد الرحمن فخري، حسن اللوزي، ذي يزن، محمد المساح ثم انخرطت فيه مجموعة من الأسماء مثل: عبد الودود سيف، عبد الكريم الرازحي، عبد اللطيف الربيع، محمد حسين هيثم، شوقي شفيق، شوقي شائف، وعبد الله قاضي.. وقد شكل ذلك الاجتراح لهذا الشكل الجديد من قبل السبعينيين نقلة نوعية مهمة على طريق الاختلاف والمغايرة.. تمثلت في كسر هيمنة الموضوع على الكتابة الشعرية الذي كانت تحتفل به قصائد التفعيلة والعمود.. كما تمثلت في تقليص حدة الغنائية والمباشرة.. ومع ذلك فإن شعراء هذا التيار الذين جاءوا إلى قصيدة النثر من تجارب وزنية جيدة، لم يبلغوا في اندفاعهم حد نبذ الأشكال الأخرى تماماً.. فقد ظلوا يراوحون بين كتابة قصيدة النثر وقصيدة التفعيلة( ).. بل ظل بعضهم يكتب الشكلين إلى جانب الشكل العمودي القديم، كما في حالة عبد الودود سيف.
 

ولعل تحفظ قطب كبير من أقطاب الحداثة في اليمن كالمقالح على هذا التيار كان يحد من هذا الاندفاع.. فقد تأخر ترحيب المقالح بهذه الموجة إلى سنة 1976م، حيث عبر في دراسة له بعنوان (ملامح التجربة المعاصرة لقصيدة النثر في اليمن) عن قبول حذر لذلك الاندفاع.. وقد اعترف في هذه الدراسة بتحفظه السابق عليها( ).
 

على مستوى الشكل أيضاً احتفى شعراء السبعينيات بشكل لافت بالقصيدة المدورة. 
أما على مستوى الموضوع أو المضمون فقد أفرزت تلك الفترة مجموعة من الظواهر، منها على سبيل المثال شعر الهجاء السياسي الساخر عند البردوني، وعبد الكريم الرازحي، وحالة الحزن والغربة في المدينة عند المقالح وإسماعيل الوريث( ).. 

 

بكل تلك الإضافات (استطاع الشاعر اليماني أن يشارك زملاءه الشعراء في بقية الأقطار العربية ممن كانوا قد سبقوه بثلاثة عقود على الأقل، وأثبت هؤلاء بقصائدهم أولاً ثم بكتاباتهم النقدية أن القصيدة العربية الحديثة ما تزال في بدايتها، وما تزال قابلة لمزيد من التطور والتجديد وما تزال قادرة على كتابة النماذج المعافاة القريبة إلى وجدان القارئ المثقف)( ). 
 

وقد استمرت مفاعيل وتأثيرات الجيل السبعيني حاضرة بقوة في الساحة اليمنية على امتداد سنوات الثمانينيات.. حتى بدايات تبازغ الجيل التسعيني من أواخر الثمانينيات، حيث لا يزال هو الآخر إلى اليوم (نهاية العقد الأول من القرن الجديد) يتصدر الساحة ويملؤها وبالضجيج..

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
اختيارات القراء
  • اليوم
  • الأسبوع
  • الشهر
  • الأكثر قراءة
  • الأكثر تعليقاً