الأحد 22 سبتمبر 2024 آخر تحديث: السبت 14 سبتمبر 2024
مدخل تاريخي بانوراما أجيال الشعر اليمني في القرن العشرين(3-6) - علوان الجيلاني
الساعة 14:48 (الرأي برس (خاص) - أدب وثقافة)

 


احتكاك مجموعة من المبدعين اليمنيين الشباب بالحياة الثقافية العربية وبتجليات التحديث في العواصم التي ذهبوا للدراسة فيها أوجد وعياً واستعداداً لدى هؤلاء المبدعين الشباب للدخول إلى مرتادات جديدة لكتابة الشكل الشعري تأسياً بما صار شائعاً ومقبولاً من اشتغالات شعرية وتنظير نقدي قام به شعراء العراق (نازك الملائكة، بدر شاكر السياب، عبد الوهاب البياتي) وشعراء مصر (عبد الرحمن الشرقاوي، صلاح عبد الصبور، أحمد عبد المعطي حجازي) وغيرهم من شعراء الحداثة في البلاد العربية.. وكانت بدايات الخروج إلى قصيدة التفعيلة بقصدية واعية إلى حد ما هذه المرة عند منتصف الخمسينيات على أيدي شعراء مثل: (عبده عثمان، محمد أنعم غالب، إبراهيم صادق)( ) وإن كان هناك شعراء لم يفارقوا اليمن وخرجوا على العمود كما في حالة الشاعر علي عبد العزيز نصر.. الذي أنجز في فترة الخمسينيات ديوانه (كفاح شعب) وهو من شعر التفعيلة..تالياً اتصلت بتجربة الشعراء المشار إليهم تجارب شعراء آخرين مثل: (المقالح، والمساح، وأحمد قاسم دماج) حيث شهدت فترة الستينيات احتداماً قوياً في المشهد الشعري اليمني.. إذ انخرطت أكثر التجارب المعروفة والمشهورة في كتابة شعرية موضوعها غالباً قضايا النضال الوطني، والتحرر، والثورة، والالتزام تجاه المجتمع وهموم الشعب، والواقع المعيش، بغض النظر عن الشكل الشعري.. الذي احتفل بقصائد التفعيلة، كما احتفل بقصيدة العمود التي كانت ما تزال لها اليد العليا في الساحة الإبداعية اليمنية، فقبل أن يرحل الزبيري سنة 1965م كان البردوني قد تسيد الساحة الشعرية اليمنية، وكانت هناك تجارب عمودية كبرى تحضر إلى جانب تجربته، يمكن التمثيل لها بالشعراء: محمد سعيد جراده، يوسف الشحاري، علي حمود عفيف، عبد الله عطية، يحيى البشاري، عبد الرحمن قاضي.. 
 

 

المشهد الشعري اليمني آنذاك اتسع أيضاً لشكل ثالث بدأ يتبازغ.. وهو النماذج الأولى لقصيدة النثر المكتوبة في اليمن، وذلك في أول الستينيات على يد عبد الرحمن فخري.. ليعيش هذا المشهد أولى بوادر تجاور الأشكال.. 
باستقراء المنتج الإبداعي لهذا الجيل من الشعراء سنجد أنه فيما أنجزه شعراء التفعيلة وحتى نماذج من شعر العمود -باستثناء البردوني- لم يعد يهتم (بالمعيار الجمالي الصرف وهو معيار المتعة الفنية التي يقدمها النص لنا.. كما أنه لم يعد يهتم -إلى ذلك القدر البعيد- بالمغزى الفني للنَّص من وجهة نظر العادات والتقاليد)( )..

 

 

كان ذلك الاشتغال موجهاً بـ(فكرة الالتزام التي روَّج لها العصر الثوري.. وجعلها رابطاً بين المبدع ومشكلات الحياة الواقعية)( ) -كما أسلفنا-.
ولما كانت أهم القضايا التي تلح على الساحة اليمنية حينها.. تتمثل في الثورة على استبداد الحكم في الشمال.. وطغيان الاستعمار في الجنوب .. ثم التخلف الرهيب الذي يعانيه الشعب.. فإن فكرة الالتزام التي تحدد مفهوم الأدب بأنَّه (نقد للحياة).. كانت الوسيلة الفعالة التي يستطيع الشاعر أن ينبه من خلالها الشعب إلى حقيقة واقعه، وتوعيته بمصيره..

 

كانت تلك القناعة تياراً عارماً خاض فيه أغلب شعراء هذا الجيل بغضِّ النظر عن قدرتهم الحقيقية على إنتاج أعمال إبداعية تمس الحياة مساً عميقاً .. فمن الثابت الآن أن الكثير من مبدعي تلك الفترة التزموا بمواضيع وطنية وإنسانية وأيديولوجية .. التزاماً فجاً وساذجاً أهمل الفن .. ولم ينجح في إبراز الوعي الجديد.. فصار فيما بعد كماً مهملاً .. لا يثير انتباهاً ولا يحدث أثراً.
 

والحقيقة أن ما حدث لهؤلاء الشعراء.. لم يكن شيئاً جديداً فعلى مر التاريخ ظل أغلب المبدعين .. يسيرون في ركب السائد .. ويبدعون من داخله بإيمان عميق.. وتفانٍ لا حدود له.. فإذا كان السائد في زمنهم .. جديداً .. في شكله أو في موضوعه - كان إخلاصهم له أكثر .. حتى يطغى على ما عداه..
ولا ينبع إخلاص المبدع للسائد في زمنه من داخله ومن قناعته وحدهما .. بل من محيطه الذي قد يتعامل مع ذلك السائد وكأنه ذروة ما وصل إليه تطور البشرية.. فيزداد الترويج له.. والتعصب لمظاهره حتى إن الخارج عليه أو المتردد في أخذه بتمامه يواجه إرهاباً حقيقياً ..من استنكار الآخرين واستهجانهم الذي يعزله .. ويبعده عن دائرة الاهتمام...

 

وقد كان الانخراط في ذلك الاشتغال الشعري المحموم موجهاً بدافعين: 
الأول: أن العالم العربي كله كان يعيش عصر الثورة.. على المستويات الفكرية والاجتماعية والسياسية.. وكانت تلك الثورة تسعى جاهدة نحو بلورة شكل محدد وجديد للحياة.. وفي داخل الثورة التي كان الإبداع العربي يبرز مضامينها على مختلف الأصعدة (والشعر على رأسها) كانت تتردد أصداء تيارات الفكر العالمي .. بما فيها التيار الأكثر طغياناً آنذاك، وهو تيار الالتزام بقضايا النضال الوطني والتحرر العالمي.

 

أما الدافع الثاني: فقد تمثل في النخب المثقفة الثائرة التي كان الشعراء جزءاً منها.. يؤثرون فيها وتؤثر فيهم( )..
على أن الاستجابة لمستجدات الموضوع وانزياح المضامين شملت معظم التجارب الشعرية العمودية التي كانت حاضرة في الساحة حضوراً يفوق حضور التجارب التفعيلية.. وعلى رأس التجارب التي شهدت طفرة في انزياح المضامين والموضوعات واستطاعت أن تكون الصوت الأقوى تعبيراً عن قضايا النضال الوطني والالتزام تجاه المجتمع تجارب الشعراء عبد الله البردوني، ومحمد سعيد جرادة، ويحيى البشاري، ومحمد الشرفي، ويوسف الشحاري.. فالبردوني مثلاً هو بالنسبة لقراء الشعر اليوم كان أكثر الشعراء تعبيراً عن الواقعية وقضايا الالتزام المتعلقة بها.. فمن (خيط الرومانسية) الذي كان ممسكاً به عند مطلع الستينيات بدأ (يقترب من الواقعية إذا جاز القول) وبدأت قصائده (تتخذ موضوعات لها، هموم الناس وقضاياهم، وبدأ نقداً ساخراً للسياسة والمجتمع، وقد أصبح البردوني ظاهرة متميزة في الشعر اليمني، بل وفي الشعر العربي عموماً، حيث تقدم قصائده نموذجاً حياً لقدرة الشكل التقليدي (العمودي) على التعبير عن مشكلات العصر وقضايا الناس، بعيداً عن أغراض الشعر التقليدية كالمدح والهجاء)( ). 

 

 

وبالرغم من أن نموذج البردوني وأمثاله ممن عبروا عن قضايا المجتمع عبر الشكل التقليدي كان نموذجاً مرفوضاً من قبل معظم شعراء التفعيلة بدعوى أنه لا يستطيع (شاعر مثلاً أن يعبر في قصيدة عن مضمون ثوري في شكل تقليدي دون أن يحتبس هذا المضمون على نحو أو آخر داخل هذا الشكل.. ودون أن يتضاءل التفاعل الحقيقي بين المضمون والشكل)( ) فهم لا يستطيعون أن يفهموا شاعراً ثورياً في روحه تقليدياً في ظاهره (لأن ذلك من شأنه أن يجعل القصيدة مضطربة فيما تدل عليه من موقف)( ).
 

من جانب آخر يمكن التأشير على بعض الانزياحات الدلالية والمضمونية التي أضافها جيل التجديد الواقعي داخل المنجز الشعري اليمني من خلال مجموعة من الملامح أهمها: ملمح الرمز.. فالرمز لم يعد كما كان عند الجيل الرومانسي الذي سبقهم معبراً (عن الأحلام المطلقة)، بل انزاح ليصير معبراً (عن الموقف الثوري الوطني من قضايا العصر، فضلاً عن الكشف عن الواقع بما فيه من شرور ومآسٍ، وبما فيه من زخم ثوري، انطلاقاً من موقف ملتزم بقضايا الوطن والإنسان. وقد ركز الشاعر الواقعي على دلالة الخلاص بوصفها ضرورة في ظلِّ المواجهة مع الواقع المأساوي، فبرزت في القصيدة الرموز التاريخية المرتبطة بالمقاومة والحضارة مثل: سيف بن ذي يزن وذي نواس وبلقيس ومأرب، وعمرو بن معدي يكرب.. وتلك المرتبطة بالثورات التحررية مثل: عبد الناصر، سرحان بشارة ، علي عبد المغني، جيفارا، فيتنام، فلسطين.ورموز مكانية ذات أبعاد ثورية مثل،ردفان، نقم ، عيبان.أما في نسق السقوط فقد ركز الشاعر الواقعي على الرموز ذات الصلة بمواجهته مع الواقع، وكان لابد أن تبرز رموز الطغيان والخيانة والفساد والعوائق مثل: أبرهة ، إرياط ، نيرون، يهودا، شهريار، الليل، السور.. إلخ)( )..

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
اختيارات القراء
  • اليوم
  • الأسبوع
  • الشهر
  • الأكثر قراءة
  • الأكثر تعليقاً