الأحد 22 سبتمبر 2024 آخر تحديث: السبت 14 سبتمبر 2024
مدخل تاريخي بانوراما أجيال الشعر اليمني في القرن العشرين(1-4) - علوان الجيلاني
الساعة 12:33 (الرأي برس (خاص) - أدب وثقافة)

 


سيجرنا العنوان أعلاه إلى شيء من الربط بين العوامل التاريخية، والتحولات السياسية والاجتماعية والثقافية من جهة، والتحولات الشعرية من جهة أخرى... وهذا فيه مجازفة حسب رأي بعض الدارسين الذين يرون أن الشعر شكلي.. وهو شكل صافٍ، والأشكال لا تستنطق بسهولة تاريخياً.. ثم هو عمل لغوي بمعنى أنه يعود إلى مخاض اللغة وإلى تطورها.. كما أنه فن إشاري ليس بالضرورة أن نجد فيه تصريحاً تاريخياً واقتصادياً وسياسياً بهذه السهولة( ).. ولكن إن أغفلنا العوامل والمخاضات السياسية والاقتصادية، فكيف يمكن إغفال الشرطين الاجتماعي والثقافي؟.. كيف يمكننا الفرار من التناظرات بين النمط الفني في مرحلة معينة والنمطين الاجتماعي والثقافي في المرحلة ذاتها؟.. الفرار غير ممكن، بل إن الفرار غير ممكن -في حالتنا اليمنية- من ربط التحول الشعري بما يمكن أن يستبعد في بلدان أخرى –أعني بالعوامل التاريخية والسياسية-.. ناهيك عن العوامل الاجتماعية والثقافية..وثمة سبب آخر يجعل هذا الربط ملزماً هو كون الشعراء اليمنيين في مختلف أجيال القرن الماضي -تحديداً حتى مطلع ثمانينيات ذلك القرن- كانوا في الصفوف الأولى بين رواد التنوير، والتثوير، والتغيير السياسي والاجتماعي والثقافي.. وكان الشعر نفسه سلاحهم في إيصال رسالتهم إلى الناس حكاماً ومحكومين..
 

تلك كانت إشارة لا بد منها للدخول إلى هذا الاستعراض البانورامي لأجيال الشعر اليمني في القرن العشرين.. وهو استعراض الغرض منه وضع القارئ بصورة مختصرة قدر الإمكان في صورة المَشَاهِد الشعرية المتواترة التي نصل منها إلى الجيل التسعيني الذي يتموضعه هذا الكتاب.. ولعله أيضاً يفيدنا لجهة معرفة الدوائر المتقاطعة، والدوائر المنقطعة في الاشتغال الشعري الذي أنتجته تلك الأجيال وصولاً إلى الجيل التسعيني.. 
****
 

من هذا المنطلق فإن بوسع المتتبع للمدونة الشعرية اليمنية أن يقسمها على مدار القرن العشرين إلى ستة أجيال.. بدءاً من الجيل التقليدي.. وهو جيل مارس الكتابة الشعرية في العقود الأولى من القرن العشرين.. وتحفل مدونته بأسماء كان لها وزنها في زمانها، من أمثال: حسين بن أحمد العرشي الذي وصف (بأنه كان أديباً شاعراً مجيداً في الطبقة العليا مكثراً فيه، وله قدرة تامة على النظم والنثر وإنشاء الرسائل والخطب في أسرع وقت)( )، والقاضي عبد الكريم مطهر، الذي وصف بأنه (كان شاعراً بليغاً مجيداً لآداب اللغة العربية مع إجادته للغة التركية)( ) والقاضي يحيى الإرياني، وهو (فقيه، محدث، مفسر، أديب، شاعر، له معرفة في التاريخ وعلوم العربية.. وله رسائل كثيرة وشعر عذب، وله أشعار ثورية (.....) وكانت لا تمر مناسبة إلا وكتب فيها شعراً)( ) ، والمؤرخ الشاعر إسماعيل الوشلي الذي كان شاعراً ومؤرخاً وقاضياً.. إلخ.
 

 

هذه الأسماء ليست إلا عينة من أسماء كثيرة رسمت نفسها في المدونة الشعرية اليمنية خلال الثلث الأول من القرن العشرين.. ولكنها برغم الأوصاف التي حفها بها المؤرخون الذين ترجموا لها.. والتي اقتطفنا بعضها لمن ذكرناهم في السطور السابقة.. كانت التمثيل الأوضح لكون أصحابها يشكلون موجة من المجترين، الذين يعتمدون في كتاباتهم على محاكاة سابقيهم مدحاً ورثاءً.. هجاءً وملحاً.. ونوادر وإخوانيات.. وتقريظات وتاريخاً بحساب الجُمَّل.. ولكون السكونية الإبداعية كانت مسيطرة عليهم غالباً مع أن لهم شعراً في رصد الحوادث، والمتغيرات السياسية والاجتماعية.. ولذلك كانت الالتماعات الشعرية في قصائدهم قليلة جداً.. ويصعب على نصوصهم تجاوز ذاتها حتى وهي تحاكي تجارب مميزة مما اشتهر في التراث الشعري العربي.. كما في هذا النص الذي يعارض به الشاعر عبد الكريم مطهر عينية ابن زريق البغدادي الشهيرة:
مالي وللقلب لا الإعراض يدفعه
عن الحنين ولا الأخطار تمنعه
يشوقه برق نجدٍ في تألقه
على الحمى فلظى الأشواق تلذعه
وما انثنى غير خفاق ليبلوني
بالخافقين وضيق الحب أو سعُهُ
ويستعير لطرفي صوب غادية
فلست أعجب أن بارته أدمعه
يا قلب رفقاً بمن هم ساكنون أما
في الرفق أجمل شيء أنت تصنعه
وخل عنك شكاة البين متخذاً
من التصبر درعاً لست تخلعه

 

وكان على الباحث عن جمال الشعر ومتعته في ذلك الوقت أن يتجه إلى ما أبدعه شعراء ذلك الجيل في فن الحميني الحافل بالالتماعات الشعرية المذهلة التي كانت تتجلى بشكل أوضح وأغنى وأجمل فيما أبدعه العبقري جابر رزق. 
لقد كانت تلك الفترة بشكل عام فترة خفوت للصوت الشعري الفصيح في اليمن.. فلم تكد التجربة الشعرية اليمنية في الثلث الأول من القرن العشرين تعرف نصاً شعرياً مدوياً يحتفى به.. وقد برر بعض النقاد ذلك بكون تلك (الفترة الأسوأ في تاريخ اليمن الحديث، فقد شهدت صراعاً مريراً مع الدولة العثمانية الآفلة، وفيها تمكن الاحتلال البريطاني من بسط نفوذه على الجزء الجنوبي من اليمن بأكمله بعد أن كان نفوذه مقتصراً على عدن ومينائها فقط)( ).
ويمكن أن يضاف إلى مبرر سوء الفترة وأحداثها المريرة.. مبرر آخر هو غياب المؤسسة الراعية.. فعلى مر التاريخ كانت المؤسسة الراعية ممثلة في الحاكم -خليفة كان أو ملكاً أو سلطاناً أو أميراً يتبعه اسماً ويستقل عنه فعلاً- هي من ترعى الشعر وتدفع الشعراء إلى التجويد.. 
ولكن هذا الجيل التقليدي عرف مجموعة من الشعراء يمكن أن نلمح في أشعارهم روائح ريادية إحيائية إلى حد ما.. ويمكن التمثيل لها بـ(ابن شهاب، والسقاف، والسالمي والشاطري).. 
فقد مارست هذه المجموعة الكتابة الشعرية بإخلاص أفضل من مجايليهم.. وامتلأت مسامع اليمن بأسمائهم في عشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين.. ولكننا لا نستطيع وضعهم إزاء جيل معاصر لهم بل سابق عليهم -في مصر مثلاً- سواء ضربنا المثل بشوقي وحافظ أو حتى بمن هو أسبق منهما –أعني البارودي-.

 

 

كانت هذه المجموعة في الجيل التقليدي برغم تميزها الملحوظ على الصعيد الشعري اليمني، تبدو -حين نقارنها بمجايليها في مصر- أكثر انغماساً في التشبه بالقدماء واقتفاء آثارهم، ولذلك غلب المعجم اللفظي القديم على إبداعها الشعري.. ووقع شعراؤها في محاكاة ذلك القديم تراكيب وصوراً وأساليب وتمثلات.. وسمت تجاربهم بالجمود وأبعدتها عن واقعهم وعن سياق زمانهم -على الأقل الزمن الذي يعيشه معاصروهم في الجغرافيات المجاورة-.. إذ الحقيقة أن الزمن الذي كانت تعيشه جغرافيتهم -وهي اليمن- كان ينتمي بكل معنى الكلمة إلى تلك الأزمنة التي يحاكون شعراءها ويتمثلون أساليبهم... ولذلك فإن حركة الشعر اليمني في القرن العشرين لن تنبئ عن فجر تتبازغ أنواره إلا على يد من يمكن أن نعتبرهم الجيل الثاني من أجيال الشعر اليمني في القرن العشرين.. وهو جيل الإحياء.. الذي يتمثل في: الوريث، والزبيري، والموشكي، والحامد، والقدسي، وهو جيل سيتداخل معه ويمتد به ومنه جيل التجديد (الجيل الرومانسي). وعلى رأسه الشاعر محمد عبد غانم .
 

 

لقد توفرت لجيل الإحياء المقومات والإمكانيات التي ساعدت على تميزه.. ومن تلك المقومات والإمكانيات الروافد والموجهات الثقافية والفكرية القادمة من خارج اليمن، والاستقرار النسبي لمؤسسة الدولة، التي احتضنت أهم رجال هذا الجيل الذين كانوا أيضاً نتاج مخرجات تعليمية أحدث من الجيل الذي سبقهم، وستؤكد المدونة الشعرية لمبدعي هذا الجيل على كونه جيلاً إحيائياً بمعنى الكلمة.. فهو لم يكن مهجوساً بتمثل أساليب القدماء ولا بلغتهم.. أو ألفاظهم وتراكيبهم، وإنما كان شعراؤه مهجوسين بأساليب ولغة وألفاظ وتراكيب الجيل الذي سبقهم في الشام ومصر والعراق.. كذلك الجيل الذي يعاصرهم في تلك البلدان.. ليس من الشعراء فحسب بل أيضاً النقاد وكتاب التنوير آنذاك وعلى رأسهم: الرافعي، والعقاد، وطه حسين، والمنفلوطي، وزكي مبارك، وشكيب أرسلان، والكواكبي، وغيرهم.. ولذلك بدت لغتهم جديدة في معظمها.. مشحونة بروح مختلفة وتصورات جديدة للحياة والمجتمع، والسياسة، والثقافة، والتواصل مع الآخر.. وبدت متقدمة كثيراً في رؤيتها الكلية للأشياء وفي تعبيرها عن تجاربهم الذاتية وواقعهم المعيش مقارنة بمن سبقهم.. إذ ارتفعت في قصائدهم نبرة النقد للنظام.. وتميز خطابهم بقصدية التنوير والتثوير.. ولذلك كانت الخطابية عالية عندهم.. والتوجه المباشر إلى عقول الجماهير وأفهامهم جوهر رسالتهم في جانب كبير مما أنجزوه.. مع أنه يمكن تلمس بوادر رومانسية في جانب من شعرهم -خاصة- حين يعلو صوت الوجدان.. وتتوهج العاطفة إما لطيف امرأة أو حنين اغتراب أو أزمة وجود.. كما في بعض نصوص الزبيري

 

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
اختيارات القراء
  • اليوم
  • الأسبوع
  • الشهر
  • الأكثر قراءة
  • الأكثر تعليقاً