الجمعة 29 نوفمبر 2024 آخر تحديث: الخميس 28 نوفمبر 2024
قصة قصيرة
الزيارة - نجيب الخالدي
الساعة 22:57 (الرأي برس (خاص) - أدب وثقافة)

 

 

تستقر عليها عيناي كل يوم عندما أغادر بيتنا إلى المدرسة أو للسخرة لدى الخضار أو الدكانيّ... تضطرم حرقة في جوارحي وأنا أحدّق فيها وهي على هذا الوضع كئيبة حزينة، غير قادرة على لفت أنظار المارة ولا استهوائهم. تبدو بلا روح، وجثتها عفنة نتنة ملقاة على الأرض لا تعبأ بها العيون ولا الخطوات ولا حتى وشوشات الفضوليين. الألم يسري دبيبه في عروقي كما يسري الموت في عروقها، تتضاعف جرعاته كل يوم وربما كل لحظة وأنا أرنو إليها. لا أستطيع التخفيف عني بتغيير وجهة طريقي حتي أتجنب ملاقاتها، لأني أجدها ملازمة لي بموقعها الدائم قبالة بيتنا على بضعة أمتار.
لم أسترق منها يوما فرحة صغيرة بتغير ملامحها، فما يؤثثها دوما يدنّس العين ويكسّر القلب. أحجار متراكمة تنبت على كل الجنبات، ما تبقى من العشب يلبسه اليُبس وتعتريه الصفرة الفاقعة، نباتات طفيلية تتدلى أعناقها شاحبة نحو الأرض المتربّة، شجرتا ليمون يتيمتان، الواحدة أمام الأخرى تتبادلان الشكوى والآهات الحرّى. في الوسط يبدو طلل نافورة ضربها جفاف عاصف، جعل من حوضها ملاذا آمنا لتبوّل وتغوّط الصغار والكبار، وجبال الأزبال المثبتة على أرضها، تساهم بسخاء كبير في نتانة الروائح المنبعثة من كل المواقع...

 

سألنا معلمنا ذات يوم عن أمنياتنا. أجبته بلهفة الجائع: أن تصبح حديقة حيّي حقيقية. فعلا، كانت هذه الأمنية غالية عندي، تدغدغني صباح مساء، ليل نهار، بل وفي ثنايا كل اللحظات، لكن كنت أردّد دوما في نفسي: محال أن تتحقق أمنيتي، فأرى حديقتي بهيّة نديّة، أجري بين وردها وزهرها، أستظل بوارف ظلها وأصف في إنشائي جنان روحها ... زادني هذا التمني ألما على ألم عندما تأكدت باليقين الملموس من استحالة تحقق أمنيتي.
 

حسب رواية أبي، كانت هذه الحديقة الفردوسَ على الأرض، بناها المستعمر اعتناء بمستوطنيه الذين قطنوا حيّنا، فجعلها مرتعا خصبا لراحتهم وقِبلتهم الفضلى لاستجمامهم ... كانت أكبر بكثير مما هي عليه الآن، لكن بعد بزوغ فجر الحرية والاستقلال، اجتث باشا المدينة جزءا كبيرا منها لغرس هذه الدكاكين التجارية التي هي الآن متراصة بمحاذاتها... أردف أبي قائلا:
- كاد الإسمنت يلتهمها كاملة يا بني لولا ستر الله.
- لكن لماذا هي الآن هكذا أبي !

 

ذات صباح، وأنا في طريقي إلى الدكانيّ، فإذا بي وكأني بين أحضان حلم وردي يهدهدني. أبدأ في فرك عينيّ حتى أكاد أفقأهما، أضرب على وجهي لعلي أتأكد من أني خارج زمن الحلم... لكنها الحقيقة. حديقتي في أبهى حلة. تتدفق فيها النضارة شلالات عذوبة وبهاء. نخلات مقلمات ترتمين في أحضان السماء، شجرات تتفجر أزاهير يانعة، عشب ناصع الخضرة يناجي الورد والياسمين، كراسي خشبية بنيّة اللون لامعة على كل الجنبات، ممرات مكسوّة بحصيّات بيضاء دقيقة ترحب بالزائرين ... اقترب منها أكثر فأكثر لألامس بنظري وسمعي نافورة مطرّزة بالبهاء، يرقص فيها الماء رقراقا رقصاتٍ فلكلورية رائعة، فتتراقص معه نبضات قلبي، وتتدفق مع انسيابه في نفسي سعادة غامرة بلا حدود. سأرتادك حديقتي كل يوم، أرشف من أحضانك السرور والاِنشراح، أسقي منك جدب شوقي الكبير إليك حديقتي... وأنا في غمرة هذا الانتشاء، طرقت ذهني علامة استفهام كبيرة: كيف تحقق هذا التحول الهائل وقد تركت الحديقة مساءً تنام على سرير كآبتها !
غدوت أسكن حديقتي، أرتمي في كنفها، أعانقها، ألثمها، أتنفسها عطرا وأريجا ونسمات سعادة، أحبتني حديقتي وأحببتها... أحييها ذهابا وإيابا، أناجيها ليلا ونهارا، في البيت والمدرسة وفي كل مكان، أشتاق إليها كلما ابتعدت عنها وكلما تواجدت بقلبها أعدو وألهو وأستمتع بحضورها... أحمدك يا ربي وأشكرك على استجابتك دعائي وإهدائك أمنيتي الجميلة...

 

لم أستفق بعد من اندهاشي الجميل، ولم تمرّ أيام محسوبة على رؤوس الأصابع، حتى بدأت سعادتي بحديقتي تتلاشى بتلاشيها وتنطفئ بانطفائها. ركبني همّ أسود بدّد النور في عيني وأنطَق بداخلي الدمع والأسى، وأنا ألاحظ أعراض انتكاسها يتقوّى يوما بعد يوم، وحُمى المرض تفور على جبينها لحظة بعد لحظة، إلى أن سقطت صريعة تنبعث من جسدها المُمدّد على العفن روائحُ النتن والأسن من جديد... بحزني الغائر وصوتي المنكسر سألت أبي:
- هل ممكن أن يزورنا الملك ثانية؟


 

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص