الأحد 22 سبتمبر 2024 آخر تحديث: السبت 14 سبتمبر 2024
طلائع التسعينيين اليمنيين في مقاربتين مبكرتين( 2-2) - علوان الجيلاني
الساعة 12:00 (الرأي برس (خاص) - أدب وثقافة)

 


بدورها احتفت دراسة المقرمي بعدد من الأسماء في المشهد الشعري التسعيني.. بعضهم ممن اختيرت نصوص لهم في مجموعة (وهج الفجر) وبعضهم ممن لم ترد أسماؤهم في تلك المجموعة..
وقد اختار المقرمي أن يكون مقتربه لتلك الكتابة مقترباً سوسيولوجياً، وهذا يدل على إدراكه الجيد والمبكر لكون إبداع التسعينيين المتبازغ آنذاك يكتنز دلالات واسعة على متغيرات سياسية واجتماعية وثقافية تستوجب المقاربة السوسيولوجية التي تمكن الباحث من تتبع شروط إنتاج النصوص داخل شرط زمني واجتماعي، وسياسي وثقافي مختلف.. إذ أن السوسيولوجيا في المقام الأول (تقترح نفسها كمعرفة لتفهم مختلف الظواهر الاجتماعية وفي جميع تمظهراتها وسياقات انبنائها) وهي في المجال الأدبي مهمة جداً لجهة (تحليل العلاقات القائمة بين العمل الأدبي و المجتمع الذي يولد فيه هذا العمل ويمتح منه أيضاً).

 

وبعد تمهيد طويل تعرض فيه المقرمي لتاريخ الأدب والحداثة في اليمن منذ ثلاثينيات القرن العشرين.. تلته مناقشة واسعة للمعوق الأيديولوجي الذي أصاب الإبداع في فترتي الستينيات والسبعينيات والمجاهدات الكبيرة التي بذلها عدد من مبدعي السبعينيات وامتدادهم في الثمانينيات للتخلص من ذلك المهيمن الأيديولوجي (كل ذلك شغل أكثر مساحة الدراسة) يصل المقرمي إلى مرحلة نهاية الثمانينيات ومطلع التسعينيات، حيث غرض وموضوع دراسته الأساس.. وهو مقاربة الكوكبة الأولى من التسعينيين.. وهنا سنلاحظ ما يلي:
 

- أنه يتناول الكوكبة الأولى من التسعينيين بوصف تجاربهم تمتد من تجارب السبعينيين المتجاوزين وأوائل الممتدين منهم في الثمانينيات (عبد الكريم الرازحي، وعبد الودود سيف، وإسماعيل الوريث، ومحمد حسين هيثم، وعبد الوهاب المقالح، وأحمد العواضي، وزين السقاف، ويحيى الإرياني، وعبد الله قاضي).
 

- أن مقدمة الجيل التسعيني التي كان المقرمي من أوائل من احتفوا بها، تتم مقاربتها هنا بوصفها (كوكبة من الشعراء الجدد، الذين لا يزال البعض يطلق على بعضهم الشعراء الشبان) فهم جيل تكون في الثمانينيات، وهو يدرسهم بوصفهم جيلاً شكل خلاصة وخاتمة للامتداد السبعيني في الثمانينيات، حيث لا جيل ثمانيني، وهم طليعة للتسعينيين.. وتضم القائمة التي أوردها بالنص والترتيب: (عبد الرحمن الحجري، محمد المنصور، محمد العصار، أحمد الزراعي، أحمد شاجع، محمد عبد الوهاب الشيباني، مختار الضبيري، آمنة يوسف، محمد القعود، محمد السقاف كشاعر غنائي، علي المقري، هزاع مقبل وغيرهم من الشعراء الشبان اللامعين المجددين).
 

- وقد تناول المقرمي كتابات هؤلاء الشعراء بوصفها (كتابة صامتة) وهو يعتبر أنهم في هذا المنحى يعدون امتداداً للشاعر عبد الله قاضي (الذي اتخذ لنفسه أسلوباً جديداً في الكتابة الجديدة، هو الصمت الشعري).. ويلاحظ المقرمي بحصافة مدهشة قوة اختلاف هذه الموجة عمن سبقها خاصة في ناحية التخلص من الموضوع، والابتعاد عن الأيديولوجيا وقضايا الالتزام وتوجهها إلى الذات، وتعبيرها عن مرجعيات خاصة لكتابها.. فيقول: (إن لغة الكتابة الشعرية الجديدة في أعمال هؤلاء الشبان تبدو وكأنها ضرب من ضروب البحث الدؤوب عن ذوات شديدة التفرد، وفيها يبدو أيضاً الإصرار على بلورة الأسلوب فضلاً عن الكتابة نفسها، وهذا الجو النفسي المشحون جعل قضية الإيغال في ابتكار اللغة والمفردات والتراكيب تبدو واضحة) وهو في هذا السياق يلاحظ اختلاف القدرات بين هؤلاء الشبان (على الرغم من تقاربهم في ملامح كثيرة أظهرها تلك النزعة الطاغية نحو تحويل الكتابة إلى أداة للقتل المتعمد لبقايا ومخلفات البنيات الشعرية القديمة التي أصبحت قابعة في اللاشعور وخاصة في قصائد أحمد شاجع، أحمد الزراعي، آمنة يوسف، مختار الضبيري، محمد عبد الوهاب الشيباني، عادل البروي، وعبد الرحمن الحجري).. ولكنه ينعي عليهم نقص التوق أكثر للمغامرة، فحالتهم بين عجز عن النمو وعجز عن الحركة، ويسبب ذلك بـ(مأزق التحول الاجتماعي المقلق).
 

- ويرصد المقرمي بذكاء لافتٍ حالة الهدوء أو اللاوزن التي أصابت المشهد الإبداعي والكتابي بشكل عام قبل وفي أوائل انهمار الموجة التسعينية.. مرجعاً سبب ذلك إلى طبيعة المرحلة، فهي لحظة تاريخية من تلك (اللحظات التي تصيب العقل بالغفوة المؤقتة، التي قد تدوم أعواماً أو قروناً من الزمان في بعض الأحيان)، وأن (ما أصاب الكتابة الشعرية والقصصية والروائية في بداية التسعينيات هي غفوة من نوع لا يستطيع المرء معرفة طاقتها الزمنية بعد، لكنها غفوة ماثلة للعيان) وتأثير تلك الحالة ليس حصراً على المبدعين الشبان، فقد أصابت حتى الكتاب الكبار الذين شخص المقرمي حالتهم بين مراوح في المكان أو متراجع، أو منكفئ.
 

- الدراسة تحاول تقصي خصائص جديدة في الكتابة الشعرية التي كانت إبداعات الموجة الأولى من التسعينيين تشكل أكثر الموصوف فيها بأنها تنحو لـ(نوع من استبطان الذات والبحث عن عوالم شعرية كامنة إما في اللغة وإما في الخبرات الشخصية المحضة التي تبدو وكأنها كوابيس، وأحلام مزعجة، أو تهويمات صوفية مغرقة، وأحياناً إسقاطات لا شعورية لعالم ضائع فاقد الهوية واتجاه لتحول غير قابل للتجديد) وتلمح بوضوح اللحظة المفصلية لسقوط الأيديولوجيا ونتائجها على كافة أصعدة الحياة، ثم تأثيرها على الإبداع و(كل ما في الحياة اليومية لهؤلاء الكتاب) الذين سيبدو كل ما في واقعهم محبط وفاجع، ولم تعد ثورات التطلع التي تطبعوا على الحلم بها قابلة للتحقق، لا على مستوى العلاقات الاجتماعية ولا على مستوى الحلم، لقد أصبحت مجرد أوهام وأحلام يقظة وشعور مرير بالعجز وقصر الحيلة، فالمجتمع يتجه إلى التحول وفي اتجاه معاكس برغباتهم وطموحاتهم الحقيقية وهم لا يملكون لذلك رداً وأحياناً لا يملكون له تفسيراً).. مضيفاً أن (الاختلال قد بلغ درجة الاضطراب الكامل بين العدل الاجتماعي وأنماط التوقع المعرفي، وعلى كل المستويات تقربياً).. وهذا هو ما يشكل الفارق الأساس في رأيه بين الأجيال السابقة وهذا الجيل.. وهذا المفترق هو الذي يبرر ظهور ما سماه هو بالكتابة الصامتة، التي سيوضح مقصوده منها الآن، حيث يقول: (بين هذين الحدين الزمنيين تقف منظومة متكاملة من الفنون والآداب والمنجزات الإبداعية، وهي تهادى إلى العطب، وتتجه نحو السقوط الحتمي، وهو سقوط يعكس نفسه على مستوى المدرك الحسي والمتخيل المعنوي بصورة شديدة الوضوح، ثم تعبر عنه فيما بعد الكتابة التي تشبه الغياب، أو الكتابة التي يقصد منها تحقيق الغياب، ومن هذه النقطة بالذات –أي ما دامت الكتابة هي تحقيق للغياب- فإن للكتابة في القصائد الصامتة التي يكتبها عبد الله قاضي أو حسن اللوزي، أو يحيى الإرياني، أو محمد عبد الإله العصار، أو أحمد شاجع، وأحمد الزراعي، وآمنة يوسف، وعادل البروي، وعبد الرحمن الحجري، والشيباني، والمنصور، هي التي تبدو أكثر بلاغة وقدرة على التعبير العدمي عن اللاشيء، اللا كتابة، عن اللاهدف، أو الصمت البليغ الذي يؤطر الحزن واليأس القابعين في الذات، في مثل هذا السياق المحبط تتساوى الكتابة والصمت، ويتساوى الكلام بالموقف الصامت المعبر).
 

 

- وتحت عنوان (سوسيولوجيا كتابة الأدب الصامت) يرصد المقرمي حالة الشعور بالعدمية، وعدم جدوى الكتابة من (خلال سؤال وجهه لأكثر (من ثلاثين شاعراً وقاصاً وروائياً وناقداً وكاتباً، والسؤال هو: لماذا تكتب؟ فكانت الإجابات كلها تتراوح بين التصريح بعدم جدوى الكتابة أحياناً، أو سوء المنشور منها، أو الشعور بالقلق من التصريح بدخائل النفس، اعتقاداً من الكاتب بعدم إمكانية اختراق حاجز الوعي بينه وبين الآخرين).. وقد تبين له من خلال ردود الكتاب الذين أجابوا على سؤاله اعتقادهم (أن بينهم وبين الآخرين سوراً مغلقاً من العداء الصامت، وسوء الفهم، والشك المتبادل) وهذا في اعتقاد المقرمي (ما يبرر كون الكتابة عندهم لم تعد طريقاً للتواصل بين الذوات المبدعة، وإنما أصبحت طريقاً للبحث عن درجة صفرية للكتابة تتهاوى فيها النزعة الجمعية، ويتحول عبرها الأدب والفن والسياسة إلى ضروب من السلب والتحطيم لكل المعايير الجمعية التي ظلت تطبع النظام الاجتماعي التقليدي، وبعبارة أدق أصبحت الكتابة وسيلة تدمير ونفي للوجود بكل مفرداته) وأصبحت (الكتابة مقياساً لشعور طاغ بالعزلة والخوف والأنانية)كما تبين له أن من أجابوا على سؤاله من الكتاب والأدباء (محطمون، منعزلون، قلقون ومتوترون، وبعضهم يشعر بأسى عميق لعدم وجود إمكانية لمد جسور التصالح بينه وبين محيطه الاجتماعي) وذلك ما تعبر عنه إجابات مجموعة من الشباب من نوع: 
 

- (إنهم لا يعترفون بي ولا بأدبي).
- (لا أحد ينقذني).
- (سوف أهزمهم، إنني لا أكترث بهم، إنهم مجرد أشباح ودجالين).
- (الصمت أبلغ من الكتابة).

 

- يرصد المقرمي أيضاً..أن الكتابة عند هؤلاء الشباب لم تعد عامل بناء بل عامل هدم، ولذلك فالصمت عندهم نوع من الهدم.. وأن كتابتهم تتجه في الغالب نحو الداخل، وتتموضع سياقاً ذاتياً مغلقاً، وأن الأدباء الشباب خاصة المبدعين الموهوبين يتكلمون أكثر مما يكتبون، فإذا كتبوا لاذوا بالصمت –يقصد أن كتاباتهم لا تنتج معنى- وأنها (إيغال في تجويف العبارات والكلمات بجعلها تبدو أكثر بعداً وانفصالاً عن المحيط اللغوي والسياق الاجتماعي).. وأنها كتابة (تعبر عن نزعة وجودية مغرقة في الميل نحو التفسير الذاتي لكل شيء).
 

- من الظواهر التي ميزت إبداعات التسعينيين ليس في الشعر فحسب، بل والسرد أيضاً ظاهرة لمحها المقرمي مبكراً، وهي ظاهرة الدوران حول (التابوهات) ومنها التابوه الاجتماعي.. ويضرب على ذلك أمثلة منها كتابات عبد الناصر مجلي وأحمد السري، حيث المرأة مثلاً (كائن محاط بهالة من الحجر والأسرار..ولذلك ثمة شيء ناقص في الكتابة –خاصة لدى السري ومجلي-) –هنا الحديث بالذات عن إبداع مجلي القصصي-.. وهو يرى أن في ذلك إشارة إلى بزوغ روح اقتحامية، وأن تلك الروح ليست (حكراً على الشباب، بل إنها طبعت أعمال كبار الكتاب والشعراء) عند مطلع التسعينيات.. (وإلا لماذا يعترف شاعر كبير كالدكتور المقالح بأنه قد خدع العصافير، وأن الشعر والكتابة والأصدقاء مرادفات للإخفاق والحزن والألم الفاجع).
 

أخيراً.. يلاحظ المقرمي أن كل كاتب من الكتاب الذين ذكرهم من جيل الثمانينيات والتسعينيات –أول مرة يسميهم بجيل التسعينيات، وهذا قبل نهاية الدراسة بقليل- منشغل بالبحث عن نقطة بداية خاصة به لا يشاركه فيها أحد، وأنهم يختلفون في الطرق التي يسلكونها إلى ذلك.. ويلمح عند عبد الناصر مجلي ومحمد السقاف ميلاً إلى البحث عن لغة بيضاء، وكتابة بيضاء، وأن مثل ذلك المبتغى يستحيل في (سياق حضاري خاص تقوم بنياته على مبدأ الإخفاء لا الإظهار) بمعنى أنه يؤكد مبكراً على هذا التجاور المتعدد في الاشتغالات الفنية، ومشاريع الإبداع التي تؤكد على اختلاف المرجعيات وتنوعها وثراء التمايز فيها.

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
اختيارات القراء
  • اليوم
  • الأسبوع
  • الشهر
  • الأكثر قراءة
  • الأكثر تعليقاً