الأحد 22 سبتمبر 2024 آخر تحديث: السبت 14 سبتمبر 2024
طلائع التسعينيين اليمنيين في مقاربتين مبكرتين( 1-2) - علوان الجيلاني
الساعة 12:36 (الرأي برس (خاص) - أدب وثقافة)

 


من أهم المقاربات التي رصدت البدايات الأولى لجيل التسعينيات مقدمة الدكتور عبد العزيز المقالح لمجموعة (وهج الفجر) الصادرة سنة 1991م.. ثم دراسة الدكتور عبد الملك المقرمي (إشكاليات في سوسيولوجيا الكتابة في الأدب الشعري والقصصي والروائي في اليمن) التي نشرت في مجلة الثقافة، العدد الثاني، فبراير 1993م.. ولأهمية المقاربتين من ناحية التبشير بهذا الجيل، والتأشير إلى أهم خصائصه.. أيضاً لأهميتهما الرمزية في سياق التناولات التي تعرضت بأشكال مختلفة لهذا الجيل الشعري وإبداعه فقد كان لا بد من استعراضهما وتلخيص أهم ما جاء فيهما، لتكتمل صورة البدايات.. وليكون استدلالنا أكثر وضوحاً إلى ما تبع تلك البدايات..
****
 

في مقدمة الدكتور عبد العزيز المقالح لمجموعة (وهج الفجر) وهي مقدمة تقع في (24) صفحة من صفحات المجموعة الواقعة في (80) صفحة من القطع الصغير.. كان كعادته سباقاً إلى التقاط خيط التسعينيين القادمين.. أيضاً إلى التأشير على مغايرتهم لسابقيهم من الأجيال الشعرية، بما فيها الجيل السبعيني وامتداده في ثمانينيات القرن العشرين.. فقد اعتبرت المقدمة أن مجموعة (وهج الفجر) (تمثل بدايات الصوت التسعيني القادم).. وأن النماذج الإبداعية التي وردت فيها (توحي في اللحظة الراهنة –سنة 1991م- بما سيكون عليه مستقبل الشعر في اليمن خلال العقدين القادمين من الزمن).. 
 

المقالح يرصد بجدية في ذلك الأوان المبكر مغايرة التسعينيين التي انقسم النقاد إزاءها إلى ثلاثة أصناف: صنف يشكو (من صعوبة فهم تجربة الشعراء الشبان).. وكان المقالح كثيراً ما يرد على شكاوى هذا الصنف من النقاد بالقول: (إن لكل جيل من الأجيال المتلاحقة في الفن والأدب لغة جديدة وتراكيب جديدة وأساليب جديدة، ورسالة جديدة أيضاً.. ولو لم يكن الأمر كذلك لكانت الحياة الإبداعية وربما الحياة نفسها قد تجمدت منذ آلاف السنين وأصبحت متحفاً قديماً خرباً خالياً من كل ما يثير اهتمام الناس، ومن كل ما يدفعهم للبقاء) على اعتبار أن لكل جيل حتى ولو جاء (في أسوأ فترات الانحطاط الإبداعي- شيء من التميز الذي يكسر الركود ويخالف السائد والمألوف) وهو في هذا السياق يتعرض بشيء من المرارة والسخرية لما نعاني منه دائماً من عدم ربط المشتغلين بالكتابة في النقد الأدبي أو في غيره من المجالات للظواهر المستجدة بأشباهها ونظائرها في تاريخ الأمم والشعوب.. فهو يستغرب لأولئك النقاد الذين يشكون (من الصعوبة التي تقف في وجه فهم تجربة الشعراء الشبان) ويعتبرها (شكوى لا مبرر لها لا سيما حين تصدر عن أشخاص سبق لهم أن عايشوا التغير الذي طرأ على الأدب العربي والشعر منه بخاصة عبر العصور المختلفة بالرغم من بطء حركة الزمن في العصور القديمة مقارنة بالسرعة الضوئية المذهلة للزمن في العصر الراهن، وكيف كان الإبداع الأدبي يأخذ سمات عصره الفكرية والفلسفية والروحية وتعقيدات ذلك العصر أو بساطته).. ولكن المقالح يعتبر مجاهرة هؤلاء النقاد بشكواهم من عدم فهم نصوص الشعراء الشباب نوعاً من الاعتراف الشجاع، مقارنة بصنف ثانٍ من النقاد (لا يمتلكون مثل هذه الفضيلة وهم لذلك يطيلون المكابرة ولا يرون شيئاً مهماً في التجربة الوليدة للشعراء الشبان، وإن الصعوبة (المموهة) في قصائدهم لا تخفي وراءها أية معاناة أو أي معنى كبير أو صغير) ويعتبر أن من حسن الحظ أن يوجد صنف ثالث من النقاد (لا يجدون صعوبة في فهم كل ما يقدمه الأدباء الشبان من محاولات إبداعية سواء في الشعر أو القصة القصيرة، وهم –أي النقاد الآخرون- يشعرون دائماً بمزيد من الارتياح عندما يجدون الجيل الجديد من الشعراء الموهوبين يخترقون حدود التأطير ويكسرون القوالب الجديدة بحثاً عن شعر يتحرك ضمن فضاء الزمن الجديد الذي يتوق أهله للتحرر من سلطة العبودية الفنية توقهم للتحرر والانطلاق من سلطة العبودية السياسية الجامدة والمتوارثة)..
 

 

ويجابه المقالح بحسم محاولة المصادرة على الجيل الجديد من قبل النقاد المعياريين.. مؤكداً أن (أحداً لا يستطيع أن يسلبهم الحق في محاولاتهم لاكتشاف المثال الذي يحلمون بتحقيقه، وماذا نريد من شاعر شاب موهوب أكثر من أن يثبت لنا –من خلال السياق الذي يختاره لإبداعاته- أنه مخلوق لغير زمننا، وأنه لا يهتم بمعيار النقد السائد إلا بمقدار ما يهتم النقد نفسه بمعيار الزمن وتخالفه مع الثابت والمألوف؟!! وقديماً –كما سبقت الإشارة- يقول المقالح: أثبتت العصور تمايز الأجيال وصراعها ضد التماثل الصارخ. ومن الإنصاف للجيل الجديد من الشعراء الشبان أن نشير إلى أن القصيدة الشابة –إذا جاز وصفها كذلك- ليست غامضة ولا صعبة المنال إلى الحد الذي يجعل عدداً من النقاد يقولون إنهم لا يفهمونها، وهي ليست مكتوبة بلغة غير اللغة التي يتكلم بها هؤلاء النقاد، وهي مكتوبة أيضاً بأبجدية عربية).. 
 

يبرر المقالح أيضاً حدة الاختلاف والمغايرة في نصوص طلائع التسعينيين بكونهم ظهروا (في أكثر الأزمنة تعقيداً واضطراباً) ولذلك فإن نصوصهم يجب (أن تكون انعكاساً أميناً لزمنها، وهو انعكاس تلقائي يخلو من القسر والمحاكاة) ملاحظاً مجموعة من الخصائص المختلفة في نصوص الشعراء الشباب.. منها: (ما يتصل بتمثل التقنيات المعاصرة والمعبرة عن اختلاف جذري ومغاير لتقنيات كل العصور السالفة.. كما أن بناء الجملة الشعرية وحتى الجملة النثرية يختلف تماماً عن طريقة بنائها القديم) معتبراً أن (لذلك الاختلاف دلالته النفسية والاجتماعية، وقدرته على الانطلاق خارج الرتابة لتتسع آفاق الإبداع لكل ما تفيض به النفس من إشارات التراسل ومجازات التجسيد والتجسيم) ومنها ما يتصل باللغة التي بدت له في نصوص هؤلاء الشبان (بسيطة لكنها مشعة وموحزة، ربما لا ترغب في التفاصيل وتكره الاستطرادات والتكرار الممل) ومنها ما يتصل بالوزن، فهو يلحظ (ارتباك الموسيقى في معظم قصائدهم وتعدد الأوزان في القصيدة الواحدة، لا بين مقطع وآخر – وهو ما يفعله كبار الشعراء- وإنما بين سطر وآخر) الأمر الذي ينم –حسب المقالح- عن فوضى التعامل مع العروض بلا مبرر).. يشير المقالح أيضاً إلى ظاهرة في قصيدة طلائع التسعينيين، وهي أنها (تبدو مضطربة ولا تعبأ بتنظيم خيالها المتدفق، لكنها تحتفظ دائماً بجوهر العمل الفني المفتوح للتجربة، وهي تبدو –في بعض نماذجها- صرخة احتجاج ضد كل كتابة مؤطرة ومقننة) وهذا في رأيه ما يوسع (مجال الاختراق وكثرة الإقبال على التجريب) حتى أن الشعرية النثرية تشكل (ساحة واسعة في إبداع هذا الجيل) وهو يؤكد أن آراءه تلك تخص الشبان المبدعين، ولا تندرج فيها (كل الكتابات التي يزجي بها المتطفلون على الكتابة الشعرية أوقات فراغهم).
 

ويلفت نظر المقالح في مطلع التسعينيات أن الشعراء الشباب في اليمن (وبوجه خاص الشعراء أصحاب هذه المجموعة الشعرية يكادون جميعاً باستثناءات قليلة يعيشون على مؤثرات الجانب الحديث والأحدث في الشعر العربي دون أن يكتشفوا الطاقة الشعرية المخزونة والكامنة في التراث) وفي هذا السياق ينصح الشعراء الشباب باستيعاب الشعر العربي في كل عصوره، والانفتاح بقدر المستطاع على كل شعر كتبته الأمم الأخرى.
 

ويلاحظ المقالح انهمام طلائع التسعينيين بالهروب من أصوات غيرهم (ومن طغيان ملامح هذا الغير، ومن رائحته القريبة والبعيدة) وأن هذا الهروب (يكاد يكون الامتحان العسير للجيل الجديد من الشعراء) وهو يعد ذلك فضيلة ستجنبهم محنة وقع فيها شعراء السبعينيات والثمانينيات.. معتبراً أن في (البدايات الأولى لكل شعراء المجموعة – بالرغم من ضبابية كل بداية- إيحاءات كافية بإمكانية التميز والتفرد لو أنهم تمثلوا بأساليب الآخرين، وطرائق تعاملهم مع اللغة ونضالهم في تركيب الجملة الشعرية، ثم انطلقوا خارج المعاطف التي كانوا فيها أو قريباً منها ليكون لهم بعد ذلك معاطفهم وخصوصيتهم وإضافاتهم). 
 

تالياً تستعرض المقدمة بعض القصائد المختارة للمجموعة من خلال قراءات خاطفة فتتوقف قليلاً عند آمنة يوسف، ثم تستطرد إلى بقية شعراء المجموعة فتصنفهم صنفين: صنفاً يجترح قصيدة النثر بدون امتلاك ناصيتها كلية؛ لأنهم لم يتخلصوا (تماماً من الجري غير المفيد وراء الإيقاع المباشر) وهذا الصنف يضم الشعراء أحمد شاجع، عادل البروي، عبد الكريم الوشلي، محمد عبد الوهاب الشيباني.. وصنفاً اختار (القصيدة الجديدة عبر أسلوب نظام التفعيلة بعد أن أكملت امتلاكها لناصية هذا الشكل) ويضم هذا الصنف عبد الرحمن الحجري، عبد الوكيل السروري، خالد الشامي، فاطمة العشبي، محمد المنصور، نبيلة الزبير، حسين الصوفي، محيي جرمة، علي أحمد الشاهري.. وقد ميز المقالح الشاعر عبد الرحمن الحجري (هذا المبدع المثابر الذي تطور سريعاً بالمقارنة بأقرانه) مبدياً إعجابه أيضاً باختيار عبد الوكيل السروري (تأسرني إلى حد الإعجاب بداية عبد الوكيل السروري) وحسين الصوفي (سيطرت قصيدته بنبرتها الهادئة الصافية، وتساؤلها الحزين على وجداني) ومشجعاً كلاً من: محيي جرمة، وخالد الشامي، ومحمد المنصور، وعلي الشاهري (على الانطلاق بعيداً عن الاتكاء على الأصوات الأخرى) معبراً عن خيبة أمله في اختيار فاطمة العشبي، التي لم تقدم (أفضل ما عندها من قصائد بديعة الشطحات) كذلك نبيلة الزبير (هذا الصوت المسكون بالشجن العميق لم تكن موفقة في الاختيار) ثم يتوقف عند الشاعر الغنائي العامي محمد السقاف، معلناً انحيازه لتجربته المميزة.. متفائلاً في النهاية بكون (الاستعارة الجميلة في (وهج الفجر) التي تم اختيارها لتكون عنواناً للمجموعة) تختزل (رحلة البدايات في إطار من التفاؤل يعكس الحلم بجمر الشعر والوعد بالمستقبل).
 

وأخيراً.. يحترز المقالح بذكاء لكل ما طرحه في مقدمته انطلاقاً من النصوص المختارة لأن (اختيار قصيدة من كل شاعر أو حتى قصيدتين لا تكفي للتعرف على مستوى هذا الشاعر، ولا تتيح للقارئ أو الدارس تكوين ملامح واضحة عن المزايا والنواقص وإبراز المحاور في تجربته الوليدة). 
وبشكل عام فقد استطاعت مقدمة المقالح أن تستشف جوانب كثيرة مما سيكون عليه المنجز الشعري لجيل التسعينيات الذي تتابعت موجاته منذ نهاية الثمانينيات إلى اليوم.. ولكن ما أشار إليه من انقطاع عن تراث الشعر العربي بالنسبة لتلك الطليعة لم يكن من سمات التجارب الشعرية التي قدمتها موجات لاحقة.. فبعد سنتين أو ثلاث سنوات من كتابة المقالح لتلك المقدمة ستشهد الساحة التسعينية انفجاراً مذهلاً للأصوات الشعرية.. وبمقدار ما ستتوالى الأصوات الأكثر حداثة التي تتجاوز حتى ما لاحظه المقالح عند تلك الطليعة ستأتي أصوات أخرى تعيد طرح القصيدة العمودية بقوة داخل المشهد نفسه..ناهيك عن تقديم تجارب كبيرة في قصيدة التفعيلة.

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
اختيارات القراء
  • اليوم
  • الأسبوع
  • الشهر
  • الأكثر قراءة
  • الأكثر تعليقاً