الأحد 22 سبتمبر 2024 آخر تحديث: السبت 14 سبتمبر 2024
( شهرزاد : قدري ) شهادات عن السيرة الذاتية ، والنص المفتوح ، وهموم اللغة والكتابة يرويها القاص : علي السباعي - عبد الهادي والي
الساعة 13:10 (الرأي برس (خاص) - أدب وثقافة)

 

 

كل الكتابات الحديثة ، والتطورات التي أصابت فنون السرد المختلفة ، ما هي إلا استجابات لغوية يفرضها واقع يتغير باستمرار ،  تتفاعل معه اللغة ، فهي تعيش ضمن مناخ هذا الواقع المتغير وأناسه ، ولا يمكن للغة أن تنفصل عنه ، فهي تنبثق من رحم أحداثه وتقلباته المستمرة للبحث عن أشكال وطرق وأساليب جديدة ، تحاكي هموم الإنسان ، وتنطلق من ضميره الفردي الذي بدوره يكون حصيلة تفاعلات وتأثيرات الضمير الجمعي ، المحمل بالأوجاع ، والمعاناة الدائمة . لذا تجد أساليب التعبير ، وطرائقه المتعددة ، تتفاعل باستمرار مع تحركات هذا الواقع وتقلباته الدائمة ، فأن أي تطور حاصل في اللغة ، إنما هو حصيلة منطقية لتلك التفاعلات وامتداد جذورها في الواقع ، لتعكسه معبرة عن التصاقها الحميم ، بحركة الجماعات وسيرورتهم المتواصلة ، ومجاهدات نحو بلورة شكل جديد ، يظهر في إطار بزوغ حساسية فنية ، فاللغة كائن حي ينمو ويتغير ، ويتفاعل ، ويستمد حيويته من حيوية الوسط الذي يعيش فيه ، وقد أستطاع القاص علي السباعي ، في سردياته الأربع أن يشكل نوعاً ، وتقنية يكسر من خلالها نمطية القصة ، ليكون أكثر انفتاحاً وقدرة على إيصال خطابه إلى أبعد مساحة في التلقي . يبدأ السباعي علي السرد ، عن واقع القصة وهمومها ، وكيف تشكلت لديه منذ الصغر ،  وكيف أصبحت قرينة حياته ، وهمه الدائم  ، ووسيلة للتعبير عن همه الخاص ، وهموم مواطنيه ، وهم يعانون وسط مجتمع ، يعيش تناقضاته الحادة ، ليفتح من خلال السرد ، قنوات اتصال جديدة مع الآخر . كانت شهادته الأولى تحت عنوان :- (( تراجيديا النصر أو الموت )) ، والثانية :- (( الحياة أقصر من فتيلة قنديل )) ، والشهادة الثالثة :- (( شهرزاد : قدري )) ، والشهادة الرابعة والأخيرة بعنوان :- (( الاحتراق الكامل في مملكة الزاماما )) . في شهادته الأولى كتب علي السباعي :- (( لقد أنفقنا عمرنا كله نهتف مذ كنا بعد صبية صغار إلى الآن : إما النصر أو الموت !!! ترى هل باستطاعة الأدب أن يغير هذه الفوضى ؟ أسئلة أضعها بين أيديكم الكريمة . إن الأدب لم يعد يملك ذلك البريق أيام جان بول سارتر ، إذ كان باستطاعة رواية أن تغير وجه العالم . أما اليوم فإن الكتاب قد أكتفوا بالتعبير عن عجزهم وقصورهم السياسي فقط .

 

أنتم تعرفون إن كتاباً أمثال سارتر وكامو ، ودوس باسوس وجون شتاينبك هؤلاء الكتاب العظام الملتزمون ، كانوا يثقون ثقة مطلقة بصيرورة الإنسان ، وقدرة الكتابة ودورها الفاعل في رسم معالم المستقبل . إن الافتتاحيات التي يكتبها سارتر وكامو في مجلة ( الأزمنة الحديثة ) ومورياك في صحيفة ( الأكسبرس ) كانت كتابات ملتزمة ترسم معالم واضحة لطريق الإنسانية . أما اليوم فلا أعتقد إن افتتاحية صحيفة ما ، يمكن أن تسهم في حل مشكلة من مشاكلنا التي لا تحصى ، فالأدب لم يعد سوى صدى لليأس والإحباط ، وما عادت علاقة الفن بالحياة وواجب الكاتب الملتزم ، وقوانين الفن الملتزم أكثر القضايا حدة . زمننا المعقد هذا تسوده الفوضى ، ويتطلب فناً عظيماً عن إنسانه المظلوم )) .  وفي الشهادة الثانية :- (( الحياة أقصر من فتيلة قنديل )) يبدأ السباعي بقوله :- (( كتب شاعر سومري مجهول على لوح عمره أكثر من ستة آلاف سنة وجد في أور : " حياتنا أقصر من فتيلة قنديل المعبد / لنعانق جديلة الشمس الطويلة / وأحلام الناس الضائعة / ونسافر بها إلى الأبد " . لا شيء في الدنيا بلا قول ، ولا شيء يعادل الكلمة ، لأنها الأصل ، ولا شيء يعادل جمالها ، حين تكون أشارية موحية ، متخفية وراء كوم من القصص والحكايات . وما خبئ بين السطور حتى لا أهرم تحت وقع أقدام مسننة ، مستاءة ، أيقضتني دفعة واحدة على سواد يومي :- الكلمة الصادقة  )) . وفي منتصف شهادة يبدأ القاص العراقي علي السباعي ، يسرد أشياءً عن السيرة الذاتية ، وبداية تشكل الوعي القصصي والكتابي لديه ، بأسلوب مشوق يجتذب المتلقي :- (( في البدء تساءلت : إن كنت مبدعاً حقاً ، أم هو مجرد وهم ؟ ترى كيف سأعيد نفسي إلى الحياة ، لو لم أكن كاتباً ؟ فكان بدون إذن مني يتربع المنسيون من أبناء شعبي المظلوم على هياكل كتاباتي ، ويدخلون قصصي بلا وجل .

 

وكأنهم يمارسون ما اعتادوه في أيامهم وساعاتهم المنسية ، كما هم . لكن كنت بكل مودة أقتنص انشغالاتهم بحياتهم ، وتأملهم لحالهم . لكن تمعني بومضات حياتهم ، طالبتني بالإشفاق عليهم منهم . لأن هؤلاء من منحني فرصة احتمال الحياة ، طوبى لهم لقد تركوني أتلذذ بالكتابة عن آهاتهم وتدوين مراراتهم ، وصغت هواجسهم بحزن شفيف ، لقد كنت منهم ، فلذا لا يؤاخذوني على ما اقترفته من محبة وألفة تجاه عصف الحياة بهم . لقد تجشموا عناء الامتثال لقلمي ، وأنا الآن مكبل بمحبتهم بفرحة غامرة . كتبت قصصي كلها . إنني انتفضت انتصاراً لكرامتي الجريحة ، ولكبريائي المهدورة ، فلقد حددت الخلاص ، خلاصي الفردي بالكتابة . إن الأدب يعيننا على أن نكون بشراً صالحين وعلى الاحتفاظ بإنسانيتنا ، وقلت في نفسي : علي بالمقاومة والكتابة للذات بدون خوف وهكذا كتبت قصصي كلها ، التي صورت فيها ما كنت اعتقده ، أدب المقاومة حفاظاً على الحياة . أدب غير نفعي ، منقذ للذات ، روحي ، ولتفادي الاختناق وسط المجتمع )) . وفي شهادته الثالثة ما قبل الأخيرة :- " شهرزاد : قدري " بوح وسرد شيق لسيرة القاص الذاتية ، وهمومه ، وتطلعاته ، ونظرته إلى المرأة والناس ، وإلى مدينته الناصرية التي أولع بها القاص علي السباعي كثيراً ، وكثيراً ما أوردها في سردياته وقصصه : يبدأ الشهادة بقوله :- (( أنا أكبر عاشق في الناصرية ، وقعت في غرام القصة التي طرقت باب قلبي ، ولم تغادره . فصرت أؤمن بأن القصة هي : الحب ! تعلمت من مدرسة الحياة إن الموسيقى والشعر ، هما أجمل ما يمكن أن تعطيه الحياة في هذه الدنيا باستثناء الحب ، لذا أحببت القصة .

 

لأن العلاقة بين الإنسان واللغة هي كالعلاقة بين الرجل والمرأة ، إنها علاقة حب . أغرمت بالقصة ، نذرت نفسي لها ، ويومها قالت لي : أنا حبيبة اكبر عاشق في الناصرية )) . وبعد كرنفال شيق وساحر عن ولادته ، والمكان الذي شهد تلك الولادة ، وحديث لا يقل سحر وعذوبة عن نشأته بين أخوال وأعمام ، كل طرف يشده إلى معتقده ، من أقصى اليسار ، إلى أقصى اليمين ظل القاص العراقي علي السباعي محتفظاً باستقلال شخصيته ، وفياً لمدينته الناصرية ، وممتلئاً بنظرته المعتدلة إلى الناس والمجتمع ، إلى العراقيين ، وحكاياته الجملية اللذيذة المؤلمة عن جارته شهرزاد المثقفة ، الوديعة ، التي كانت تشجعه وتمده بالكتب والروايات ، والتي انتهت حياتها بفاجعة ، إذ قتلها واحد من أهلها ، لأنها مثلت يوماً على المسرح !!! باعتبار ذلك مروق عن الأعراف والشرف ، في معتقداتهم العشائرية المتخلفة . وفي شهادته الرابعة والأخيرة : " الاحتراق الكامل لمملكة الزاماما " تساؤلات واخزة لذاكرة المتلقي جاءت بطريقته الفذة في السرد ، في سرد ما مر بنا من محن تقطر عذاباً ، ومن مآس تتفجر دماً ، إذ أنهى الشهادة بقوله :- (( - ترى هل استطعت أن أكتب عن واقع المأساة أو مأساة الواقع ؟ تلك هي العلة )) .

 

لقد أستطاع القاص المبدع ( علي السباعي ) أن يمتعنا كثيراً بشهاداته الأربع ، وهو يدون مدندناً عن شخصيته المبدعة في الحياة والكتابة ، وذكرياته الرقراقة كجدول عذب عن مدينته الناصرية ، ويستعرض لنا نحن قرائه تاريخاً كاملاً ومريراً من عذابات العراقيين. نعم . أستطاع القاص العراقي المبدع علي السباعي أن يكتب عن مأساة الواقع العراقي الساخن بكل صدق وشجاعة نادرتين ، وأن  يحقق بذلك مصداقية المقولة المشهورة :- " الكاتب الحقيقي هو شاهد عصره " .

 


عبد الهادي والي 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
اختيارات القراء
  • اليوم
  • الأسبوع
  • الشهر
  • الأكثر قراءة
  • الأكثر تعليقاً