الأحد 02 فبراير 2025 آخر تحديث: السبت 1 فبراير 2025
( شهرزاد : قدري ) شهادات عن السيرة الذاتية ، والنص المفتوح ، وهموم اللغة والكتابة يرويها القاص : علي السباعي - عبد الهادي والي
الساعة 13:10 (الرأي برس (خاص) - أدب وثقافة)

 

 

كل الكتابات الحديثة ، والتطورات التي أصابت فنون السرد المختلفة ، ما هي إلا استجابات لغوية يفرضها واقع يتغير باستمرار ،  تتفاعل معه اللغة ، فهي تعيش ضمن مناخ هذا الواقع المتغير وأناسه ، ولا يمكن للغة أن تنفصل عنه ، فهي تنبثق من رحم أحداثه وتقلباته المستمرة للبحث عن أشكال وطرق وأساليب جديدة ، تحاكي هموم الإنسان ، وتنطلق من ضميره الفردي الذي بدوره يكون حصيلة تفاعلات وتأثيرات الضمير الجمعي ، المحمل بالأوجاع ، والمعاناة الدائمة . لذا تجد أساليب التعبير ، وطرائقه المتعددة ، تتفاعل باستمرار مع تحركات هذا الواقع وتقلباته الدائمة ، فأن أي تطور حاصل في اللغة ، إنما هو حصيلة منطقية لتلك التفاعلات وامتداد جذورها في الواقع ، لتعكسه معبرة عن التصاقها الحميم ، بحركة الجماعات وسيرورتهم المتواصلة ، ومجاهدات نحو بلورة شكل جديد ، يظهر في إطار بزوغ حساسية فنية ، فاللغة كائن حي ينمو ويتغير ، ويتفاعل ، ويستمد حيويته من حيوية الوسط الذي يعيش فيه ، وقد أستطاع القاص علي السباعي ، في سردياته الأربع أن يشكل نوعاً ، وتقنية يكسر من خلالها نمطية القصة ، ليكون أكثر انفتاحاً وقدرة على إيصال خطابه إلى أبعد مساحة في التلقي . يبدأ السباعي علي السرد ، عن واقع القصة وهمومها ، وكيف تشكلت لديه منذ الصغر ،  وكيف أصبحت قرينة حياته ، وهمه الدائم  ، ووسيلة للتعبير عن همه الخاص ، وهموم مواطنيه ، وهم يعانون وسط مجتمع ، يعيش تناقضاته الحادة ، ليفتح من خلال السرد ، قنوات اتصال جديدة مع الآخر . كانت شهادته الأولى تحت عنوان :- (( تراجيديا النصر أو الموت )) ، والثانية :- (( الحياة أقصر من فتيلة قنديل )) ، والشهادة الثالثة :- (( شهرزاد : قدري )) ، والشهادة الرابعة والأخيرة بعنوان :- (( الاحتراق الكامل في مملكة الزاماما )) . في شهادته الأولى كتب علي السباعي :- (( لقد أنفقنا عمرنا كله نهتف مذ كنا بعد صبية صغار إلى الآن : إما النصر أو الموت !!! ترى هل باستطاعة الأدب أن يغير هذه الفوضى ؟ أسئلة أضعها بين أيديكم الكريمة . إن الأدب لم يعد يملك ذلك البريق أيام جان بول سارتر ، إذ كان باستطاعة رواية أن تغير وجه العالم . أما اليوم فإن الكتاب قد أكتفوا بالتعبير عن عجزهم وقصورهم السياسي فقط .

 

أنتم تعرفون إن كتاباً أمثال سارتر وكامو ، ودوس باسوس وجون شتاينبك هؤلاء الكتاب العظام الملتزمون ، كانوا يثقون ثقة مطلقة بصيرورة الإنسان ، وقدرة الكتابة ودورها الفاعل في رسم معالم المستقبل . إن الافتتاحيات التي يكتبها سارتر وكامو في مجلة ( الأزمنة الحديثة ) ومورياك في صحيفة ( الأكسبرس ) كانت كتابات ملتزمة ترسم معالم واضحة لطريق الإنسانية . أما اليوم فلا أعتقد إن افتتاحية صحيفة ما ، يمكن أن تسهم في حل مشكلة من مشاكلنا التي لا تحصى ، فالأدب لم يعد سوى صدى لليأس والإحباط ، وما عادت علاقة الفن بالحياة وواجب الكاتب الملتزم ، وقوانين الفن الملتزم أكثر القضايا حدة . زمننا المعقد هذا تسوده الفوضى ، ويتطلب فناً عظيماً عن إنسانه المظلوم )) .  وفي الشهادة الثانية :- (( الحياة أقصر من فتيلة قنديل )) يبدأ السباعي بقوله :- (( كتب شاعر سومري مجهول على لوح عمره أكثر من ستة آلاف سنة وجد في أور : " حياتنا أقصر من فتيلة قنديل المعبد / لنعانق جديلة الشمس الطويلة / وأحلام الناس الضائعة / ونسافر بها إلى الأبد " . لا شيء في الدنيا بلا قول ، ولا شيء يعادل الكلمة ، لأنها الأصل ، ولا شيء يعادل جمالها ، حين تكون أشارية موحية ، متخفية وراء كوم من القصص والحكايات . وما خبئ بين السطور حتى لا أهرم تحت وقع أقدام مسننة ، مستاءة ، أيقضتني دفعة واحدة على سواد يومي :- الكلمة الصادقة  )) . وفي منتصف شهادة يبدأ القاص العراقي علي السباعي ، يسرد أشياءً عن السيرة الذاتية ، وبداية تشكل الوعي القصصي والكتابي لديه ، بأسلوب مشوق يجتذب المتلقي :- (( في البدء تساءلت : إن كنت مبدعاً حقاً ، أم هو مجرد وهم ؟ ترى كيف سأعيد نفسي إلى الحياة ، لو لم أكن كاتباً ؟ فكان بدون إذن مني يتربع المنسيون من أبناء شعبي المظلوم على هياكل كتاباتي ، ويدخلون قصصي بلا وجل .

 

وكأنهم يمارسون ما اعتادوه في أيامهم وساعاتهم المنسية ، كما هم . لكن كنت بكل مودة أقتنص انشغالاتهم بحياتهم ، وتأملهم لحالهم . لكن تمعني بومضات حياتهم ، طالبتني بالإشفاق عليهم منهم . لأن هؤلاء من منحني فرصة احتمال الحياة ، طوبى لهم لقد تركوني أتلذذ بالكتابة عن آهاتهم وتدوين مراراتهم ، وصغت هواجسهم بحزن شفيف ، لقد كنت منهم ، فلذا لا يؤاخذوني على ما اقترفته من محبة وألفة تجاه عصف الحياة بهم . لقد تجشموا عناء الامتثال لقلمي ، وأنا الآن مكبل بمحبتهم بفرحة غامرة . كتبت قصصي كلها . إنني انتفضت انتصاراً لكرامتي الجريحة ، ولكبريائي المهدورة ، فلقد حددت الخلاص ، خلاصي الفردي بالكتابة . إن الأدب يعيننا على أن نكون بشراً صالحين وعلى الاحتفاظ بإنسانيتنا ، وقلت في نفسي : علي بالمقاومة والكتابة للذات بدون خوف وهكذا كتبت قصصي كلها ، التي صورت فيها ما كنت اعتقده ، أدب المقاومة حفاظاً على الحياة . أدب غير نفعي ، منقذ للذات ، روحي ، ولتفادي الاختناق وسط المجتمع )) . وفي شهادته الثالثة ما قبل الأخيرة :- " شهرزاد : قدري " بوح وسرد شيق لسيرة القاص الذاتية ، وهمومه ، وتطلعاته ، ونظرته إلى المرأة والناس ، وإلى مدينته الناصرية التي أولع بها القاص علي السباعي كثيراً ، وكثيراً ما أوردها في سردياته وقصصه : يبدأ الشهادة بقوله :- (( أنا أكبر عاشق في الناصرية ، وقعت في غرام القصة التي طرقت باب قلبي ، ولم تغادره . فصرت أؤمن بأن القصة هي : الحب ! تعلمت من مدرسة الحياة إن الموسيقى والشعر ، هما أجمل ما يمكن أن تعطيه الحياة في هذه الدنيا باستثناء الحب ، لذا أحببت القصة .

 

لأن العلاقة بين الإنسان واللغة هي كالعلاقة بين الرجل والمرأة ، إنها علاقة حب . أغرمت بالقصة ، نذرت نفسي لها ، ويومها قالت لي : أنا حبيبة اكبر عاشق في الناصرية )) . وبعد كرنفال شيق وساحر عن ولادته ، والمكان الذي شهد تلك الولادة ، وحديث لا يقل سحر وعذوبة عن نشأته بين أخوال وأعمام ، كل طرف يشده إلى معتقده ، من أقصى اليسار ، إلى أقصى اليمين ظل القاص العراقي علي السباعي محتفظاً باستقلال شخصيته ، وفياً لمدينته الناصرية ، وممتلئاً بنظرته المعتدلة إلى الناس والمجتمع ، إلى العراقيين ، وحكاياته الجملية اللذيذة المؤلمة عن جارته شهرزاد المثقفة ، الوديعة ، التي كانت تشجعه وتمده بالكتب والروايات ، والتي انتهت حياتها بفاجعة ، إذ قتلها واحد من أهلها ، لأنها مثلت يوماً على المسرح !!! باعتبار ذلك مروق عن الأعراف والشرف ، في معتقداتهم العشائرية المتخلفة . وفي شهادته الرابعة والأخيرة : " الاحتراق الكامل لمملكة الزاماما " تساؤلات واخزة لذاكرة المتلقي جاءت بطريقته الفذة في السرد ، في سرد ما مر بنا من محن تقطر عذاباً ، ومن مآس تتفجر دماً ، إذ أنهى الشهادة بقوله :- (( - ترى هل استطعت أن أكتب عن واقع المأساة أو مأساة الواقع ؟ تلك هي العلة )) .

 

لقد أستطاع القاص المبدع ( علي السباعي ) أن يمتعنا كثيراً بشهاداته الأربع ، وهو يدون مدندناً عن شخصيته المبدعة في الحياة والكتابة ، وذكرياته الرقراقة كجدول عذب عن مدينته الناصرية ، ويستعرض لنا نحن قرائه تاريخاً كاملاً ومريراً من عذابات العراقيين. نعم . أستطاع القاص العراقي المبدع علي السباعي أن يكتب عن مأساة الواقع العراقي الساخن بكل صدق وشجاعة نادرتين ، وأن  يحقق بذلك مصداقية المقولة المشهورة :- " الكاتب الحقيقي هو شاهد عصره " .

 


عبد الهادي والي 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص