الأحد 22 سبتمبر 2024 آخر تحديث: السبت 14 سبتمبر 2024
قراءة أولية في المجموعة القصصية (هدنةٌ سمية) للإرياني. - ثابت القوطاري
الساعة 13:04 (الرأي برس (خاص) - أدب وثقافة)

 


يطالعنا الروائي، والقاص، والمسرحي عبدالله عباس الإرياني بعمله السادس عشر (هدنة سمية)، وهو عبارة عن مجموعة قصصية رائعة يسكنها الهم (الجمعي)، نائياً بنفسه عن الذاتية التي قد يقع فيها الكثيرون من كُتاب هذه المرحلة، وتكاد تكون هذه الصفة سمة تميز الإرياني من غيره، فهو ذلك الأديب الذي يحمل هم مجتمعه، وقضايا وطنه، يغترف من تاريخ اليمن وبيئته مادة خامة لينسج منها رواية، ومسرحية، وقصة، نجد ذاتنا في سطورها، وهمومنا بين صفحاتها، ليقدم لنا الواقع برؤية الفنان المبدع، محاولاً في بعض الأحيان معالجته وفق نظرته الإنسانية، وإلى جانب التزامه الأخلاقي فيما يكتب، نجد حضوراً لبعض التابوهات - لاسيما السياسة- بمسحة خفيفة لا تخلو من عمق القضية وأهميتها.
 

ونحن في صدد هذه القراءة الأولية لمجموعته القصصية نكشف عن بعض الجوانب المهمة فيها، وما يميزه في الكتابة السردية من غيره، من خلال أدواته الخاصة وتقنياته السردية التي ينسج على منوالها أدباً (بدون ملل)، فنسمع (حكاية كلَّ خميس)، ليأتي (الصعود إلى نافع) قبيل (دجلة الشهيد) لنواصل المسير معه نحو (الزارَّقة) و(الغرم) لتسلمنا (سيدة النهرين) لـ(سيف العقدة سيف الحل) لنكون على موعد مع (مائة عام من الفوضى)، ليستمر الإرياني في (حديث كلِّ يوم) ليعيدنا في مسامراته التاريخية إلى (سِم الأتراك)، ليهزنا مرة أخرى حين نتذكر (قميص الحمدي)، ليعيدنا إلى شارعنا البسيط القريب من (مكتبة سعيد) ليشهد الربيع العربي في (2011م) قصصاً، تستفيض بها (جولة كنتاكي). لتأتي (هدنة سمية) في زمن الحرب، والعدوان، نستشف منها جميعاً رؤية الكاتب للحياة والمجتمع في هذه الفترة.
 

أولاً: العتبات
__________
عنوان المجموعة 
_______________
المتتبع لأعمال الإرياني عبدالله سيجد أن الكاتب ينزع لاختيار عناوين مركبة من جزئين بسيطين، (مضاف ومضاف إليه): (دجلة الشهيدِ - سيدة النهرين - سيف العقدة سيف الحل- سم الأتراك- قميص الحمدي- مكتبة سعيد- جولة كنتاكي) ونادراً ما يأتي العنوان منفرداً: (الزارقة- الغرم)، وقد يأتي جملة اسمية: ( بدون ملل- حكاية كلَّ خميس- الصعود إلى نافع- مائة عام من الفوضى- حديث كلِّ يوم)، وعنوان هذه المجموعة (هدنة سمية) يندرج تحت هذه الأقسام، فهو مركب من جزئين؛ مضاف(هدنةُ) ومضاف إليه (سميةِ) وهذه الجملة من (المضاف والمضاف إليه) هي خبرٌ لمبتدأ محذوف تقديره (هذه)، فيكون العنوان (هذه هدنةُ سميةِ) وكأنَّ الكاتب يقدم بين يدي القارئ معلومات عن (هدنةٍ) لشخصية (سمية). ولا تأتي الهدنة إلا بعد المشكلات، وهذه المفردة تستدعي مفردٌ أخرى هي لصيقة بها جداً: (الحرب)، فلا يمكن أن يكون هناك هدنة إذا لم يكن هناك حربٌ، ليأتي المضاف إليه (سمية) رمزاً للمرأة اليمنية في ظل عدوان، جعلها تمتنع عن القيام بواجباتها الزوجية.

 

لوحة الغلاف 
____________
لوحة الغلاف عبارة عن صورة بألوان باهتة (الأسود، الرمادي) لوجه فتاة تقبع خلف قضبان حديدية، تمسك بقضبان الحديد بكلتا يديها، جاحظة العينين، ومما تعطينا دلالة التحدي والقوة، والوعيد، والإصرار على فعل شيءٍ ما. وهذه الفتاة القابعة خلف القضبان ليست إلاَّ سمية. ومن خلال عنوان المجموعة (هدنة سمية) ولوحة الغلاف، يُدخلنا الكاتب في دوامة التوقعات والتحليلات، والقراءات التأويلية المختلفة، ويجعلنا على قناة تامة بأنَّ حرباً معلنةً، وجريمةً مُرتكبة، قد زجت بـ(سمية) خلف قضبان السجن، لكنها ستخرج قريباً بتحدي وإصرار على مواصلة جرمها، وما دخولها السجن، إلاَّ إعلان للـ(هدنة)، لكن الكاتب نسف توقع القارئ في إحدى قصص المجموعة والمعنونة بـ(هدنة سمية- 65) إذ أن (سمية) ليست إلا شخصية اجتماعية عادية، رمز بها الكاتب للمرأة المتمنعة عن زوجها بسبب الحرب التي فرضها العدوان على البلد، وما (الهدنة) إلا إيقاف ممارسة الجنس بين الزوجين (سمية) وزوجها (المحاسب)، مع إسقاط سياسي واضح "فلا خير ولا بركة في هدنة تعلنها الأمم المتحدة/67" فلا خيار للزوج (المحاسب) إلاَّ الصبر، كما لا خيار للشعب غيره.

 

 

الخطاب المقدماتي
________________
ليس لهذه المجموعة القصصية (إهداءٌ) أو كلمة تقريضية، أو مقدمة، يمكن أن نستشف منها ما يساعدنا على قراءتها، بعكس الإصدارات السابقة للكاتب، إلاَّ أن الكاتب قد غير من أسلوبه هنا حيث أهدى ثلاث قصص من قصص المجموعة إلى فئة من فئات المجتمع، أو مدينة من مدن الوطن، فأهدى (أم أمل/7) إلى (إلى الأمهات الثكالى)، وأهدى (قلب طارق/21) إلى (تعز)، و(الأمل الأخير/28) إلى (أرواح الشهداء الذين غيبهم عن دنيانا انفجار عطان الرهيب)، ليضع لنا بهذه الإهداءات إشارات وعلامات على ضوئها نقرأ القصص، وفي سياقها نأولها، ونغوص إلى معانيها الباطنية التي يريدها الكاتب من ظاهر قصصه.

 

 

ثانياً: المتن
_________
تحوي هذه المجموعة على (29 قصة)، تختلف في تفاصيلها، وتتفق في مجملها، وهي من الواقعية المجتمعية، ويكاد البُعد السياسي هو ما يظهر جلياً فيها، إذا يحاول الكاتب أن ينقده، ويتمرد عليه، ويُرجع كلَّ تأزمات شخوص القصة ومعاناتها إلى الوضع السياسي القائم لاسيما في ظل العدوان، فها هي (ثورة المساربة/3)، و(بترول يا بشير/54)، و(هروب صادق وعزيز/87)، تقتل الأمل في (أم أمل/7) بحادث إرهابي في المركز الثقافي بإب، تتوتر الأحداث وتتصاعد، لتكون الحالمة تعز هي ساحة الموت والنزال بين الفرقاء فتستقر رصاصة طائشة في (قلب طارق/27)، وفي ظل هذه الأوضاع، نشعر بالمعاناة مع شخوص القصة إلَّم نكن قد عشناها واقعاً مراً، ليكون انقطاع التيار الكهربائي، وانعدام المشتقات النفطية، والغاز، وفقدان الوظيفة، والخوف من المجهول في ظل وجود (الراجع) هي ما تقلقنا جميعاً، في(لحمة محروقة/4)، و(عين حائرة/59)، و(أين المفر/61)، و(كابوس مضحك/63)، و(دموع بلقيس/64)، و(فسحة لوح/93)، يسبقها انفجار عطان المرعب في (الأمل الأخير/28) حادثٌ لن تنساه الذاكرة، ليظهر الكاتب وجهة نظره حيال الوضع الداخلي المتمثل في (ذئاب الأرض)، والعدوان الخارجي المتمثل في (متكبري السماء)، ليدخل الكاتب في مقارنة بين الأوضاع قبل الحصار الخانق وبعده في (قصة قصيرة/45)، للتتهرب شخوص القصة من الحديث في السياسة لأنَّها " تكرس التنافر بين المتنافرين، ولم يعد هناك سياسة في الأصل، فإذا تباعدت الوسطية تباعدت النفوس/47) لتكون الطرفة حاضرةً في ختام الحدث، فشر البلية ما يضحك، ليتجلى الحُبِّ على استحياءٍ في زمن العدوان، الحُبُّ النازح من بيته، ومنطقته، لإنَّه (حوار حتمي/75) فرضته الأوضاع السياسية والأمنية والاقتصادية، إنَّه (شيءٌ من الحُبِّ كثير من ضده/39) نحتفظ معه بالذكريات الجميلة، " فالحُبُّ الأول لا يموت، منقوش على صفحة الذكريات، والمحب أضعف من أن يمحو ما هو منقوش على صفحة الذكريات/39". وفي ذات اللحظة نجد التجربة الذاتية واضحة في هذا العمل، تجربة يحكيها الكاتب عن واقع عاشه في (نزوح أبي/50) لينقل لنا تجربة لسنا عنها ببعيدين.

 

يستحق هذا العمل أن يُقرأ قراءة جادة، وعميقة، فكاتبها يمتلك أسلوباً سلساً، ولغة عذبة، يبتعد عن التعقيد الصعب، لكنه لا يأتي بالبسيط الممل، فله قدرة على ملامسة قلوبنا من خلال تقنياته، وسقفه السردي الذي ينقل لنا أنفسنا على طبق من ورق، حمل بين دفتيه الفرح والحزن، الواقع المر، والأمل والمستقبل.

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
اختيارات القراء
  • اليوم
  • الأسبوع
  • الشهر
  • الأكثر قراءة
  • الأكثر تعليقاً