الأحد 22 سبتمبر 2024 آخر تحديث: السبت 14 سبتمبر 2024
( زليخات يوسف ) عرت الواقع المتأزم الذي نعيشه حين عزفت على أوتار الموت والحياة بتكنيك عالي المستوى - ماجد كاظم علي
الساعة 14:30 (الرأي برس (خاص) - أدب وثقافة)

 

مجموعة ( زليخات يوسف ) للقاص العراقي ( علي السباعي ) تتكون من عشر قصص تتراوح بين القصة الطويلة والقصة القصيرة يقول السباعي في بداية قصته الأولى ( مريم البلقاء ) :- ( أردت أن أنتمي إلى الإنسانية بهذه القصة وأحاكي ألوان مبدعنا الكبير فائق حسن ) ، في هذه القصة الجميلة جداً يتألق السباعي . . كما سنأتي على ذلك في باقي القصة . . ورغم حالة السرد الطويلة وأن القصة محشورة بالكثير من المفردات والعبارات التي دفعت السباعي إلى وضع هوامش توضيحية لها . . لكن هذا لم يؤثر على القصة وإنما أعطاها دفقاً شلالياً جميلاً نستطيع أن نسمع هديره ونتلمس رذاذه عن بعد وفي آن واحد . . فالقاص علي السباعي لم يدخل في الحدث في بداية أو وسط القصة كما يفعل الكثيرون . . ولكن هنالك الكثير من جمل المحاورة . لقد أستخدم علي السباعي في قصته الكبيرة ( مريم البلقاء ) ، والتي تضاهي التجارب الكبرى الأخرى في شكلها وأسلوبها ومضمونها ضمير المتكلم . . وأبطال القصة هم : علي السباعي ، ومريم حبيبته التي أفتقدها ، وجده الذي قتله الانكليز ، وجدته ، وعمته ، وبنات عمه ، وآخرون . . ورغم أن الفعل الأكبر في القصة هو الموت وهي من قصص الحال . . فأن علي السباعي يظل وفياً لحبيبته مريم التي تشبه فرس الفنان فائق حسن . . وهو يستذكر معها كل الأيام والليالي التي سبقت موتها بأسلوب جميل معبر يشدك إليه منذ اللحظات الأولى ويبقيك متأزماً . . سارحاً في ملكوت العبارات الجميلة . . والشيقة التي أختارها بعناية فائقة . أن مريم التي أطلق عليها لقب البلقاء يصطدم رأسها بمدفع يحمله قطار على أحدى عرباته . . أن الموت والحياة قطبا الكون . . البدء والنهاية . . الصرخة الأولى والاستكانة الأخيرة . . الارتواء واليباب . . أن هذه القصة تمثل الخلود والعودة إلى الأرض والتحدي يبدو واضحاً في هذه القصة . إضافة إلى الموروث الشعبي الذي استخدمه القاص بتكنيك خاص . . إضافة إلى الربط الموضوعي للحدث .
( خذ ثأرك . ثأر بنت عمك وخطيبتك مريم وأحفظ لنا هيبتنا ) هذه الصرخة التي تصنع البطل من خلال صوت جدته التي تطالب علي السباعي بأخذ سيف جده . . والانتقام لحبيبته مريم . أنها هنا لا تطالب بثأر مريم وإنما تطالب بثأر زوجها جد علي السباعي بطل القصة الذي قتله الإنكليز في أحدى انتفاضات الشعب ضد الإنكليز وأخذوا رأسه إلى لندن وبقي سيفه معلقاً في مكانه . . فالجدة من خلال المطالبة بثأر مريم التي قتلت بمدفع الإنكليز الذي يحمله قطار الإنكليز . . تريد من حفيدها علي السباعي المستكين الوديع الذي لا يستطيع أن يقتل ذبابة أن يأخذ هذا الثأر . ولكن كيف ؟
فهل سيذهب علي السباعي وفق رؤية الجدة إلى الإنكليز في ديارهم ليأخذ الثأر . . وممن يأخذه ؟ أم ينتظر حتى يعود الإنكليز مرة ثانية إلى الوطن بعد أن طردوا منه منذ ما يقارب الخمسة عقود وهو لا يعلم أنهم سيعودون . هذه الصرخة لا تجد لها صدا أو دلالة في ضمير وعقل البطل . . فهو متردد بين مواقفه الإنسانية والعدالة التي يؤمن بها . . بأن القانون صاحب الرأي النهائي في كل الاشتباكات والتوترات في زمن لا يكون للثأر في أعماقه مكاناً . . وبين سلطة شريعة الغاب السائدة في كل عصر نمر به . . أنها تريد منه أن يردد صوت الحلاج : " أقتلوني يا ثقاتي أن في موتي حياتي " . . وهي نفس صرخة الحسين الشهيد "ع" قبل ذلك . . حينما كان موت الحسين "ع" خلوداً . . حينما غلب بدمه الطاهر سيف القتلة والجلادين وهي صرخة الشعوب في كل زمان ومكان . . أنها صرخة الرجال المناضلين في كل العهود . . الرجال الشرفاء الذين آمنوا بالإنسانية والشرف طريقاً للحق والحياة . . والذين تربوا على القيم النبيلة وبحق الضعفاء في العيش بعيداً عن القهر والموت والعذاب . حقاً لقد رفع يراع القاص العراقي ( علي السباعي ) الغمامة عن عيون الناس حينما كتب ( زليخات يوسف ) ، وكان السباعي في الطريق الصحيح حين أتخذ درب الحسين "ع" نهجاً له ، وسار عليه بكل شرف وإباء ، وتلك مفخرة الإنسان والكاتب معاً . أن البطل علي السباعي في قصة ( مريم البلقاء ) عاش في صراع بين ما يؤمن به وبين حياته الوديعة الحالمة وبين الواقع المرير الذي يعيشه والذي يحاول أن يجره إلى القاع المظلم . وهو لا ينسى أقوال معلميه في المدرسة الابتدائية وهو نوع من الوفاء لهؤلاء فهو يسترجع قول معلم اللغة العربية  ستار طاهر فيؤكد : ( صدق معلم اللغة العربية الذي درسنا في الصف الخامس الابتدائي ستار طاهر عندما طلب منا كتابة موضوع إنشائي " أن الأواني الفارغة تحدث ضجيجاً " . . وهو يؤكد هنا . . محاولاً تبرير تكليف جدته له بأخذ ثأر جده وحبيبته : ( أنفقت حياتي برمتها غير ساع للثأر ) . . أن هذا الربط بين الحالة الشعورية التي يعيشها البطل وهو شاب وبين طفولة يدفعه إلى تبرير عجزه بأن لا ينفذ طلب جدته المستحيل . ورغم أنه يتمنى ذلك . ولكن أين الإنكليز لكي يقتلهم ؟ هل يقتل أي إنكليزي يجده من أجل أخذ ثأر جده وحبيبته . . والإنكليز مثل السرطان المستشري في كل الأجساد . . فلا مشكلة عويصة في الأرض لم يكن للإنكليز يداً فيها . أن الحلم الذي يستغرق به البطل علي السباعي حلم طويل وفيه يهرب من الواقع المرير الذي يعيشه بفقدان مريم وهو عماد الطرح في هذه القصة الشيقة جداً : ( أمسكت أصبعها لبضع دقائق بدت لي لا نهاية لها أفلتت أصبعها مثل طفل جاهدت طويلاً للتخلص من صفات برج الجوزاء لأكتسب مزايا برج الأسد . . لأكون آنية ممتلئة وأتخلص من طالعي السيئ . . ثأري ) . . ورغم أنني لا أستسيغ وجود عبارات مثل : ( كل الدروب تؤدي إلى روما ) و ( وليم أوف لاهاراتي يرى دائماً أن الإنسان هو أكمل شيء في الدنيا ) . ولكن قوة القص وانسيابيته عند القاص علي السباعي ، ومعرفته أصول اللعبة القصصية جيداً ، فأن ما يذكره يعطي للقصة الزخم الذي يبقيها حارة طازجة متدفقة جياشة مزدانة بالدفء والدعة والجمال ، ويجعل الحدث رغم انه لم يبلغ إلا في الثلث الأخير من القصة ذروته ، كان حدث القصة حدثاً حاراً وطازجاً كحرارة خبزنا العراقي الطيب ، كانت قصة عراقية بامتياز ، لقد أستعار القاص العراقي ( علي السباعي ) الكثير من نماذج التراث الشعبي ، والقاص السباعي ذكر مايلي : ( تركهم عمي وجلب ابن آوى بين ذراعيه . . ترك زوجته تسير بجانبه وحيدة خائبة ) ، وأورد الكثير من الصور الجميلة التي جاءت بهذه القصة العراقية : ( أتوسل أليك أن تصنع لي جميلاً ) ، ( أتوسل أليك ياسبعي أن تأتي معي ) ، ( قلت بصوت أثقلته المفاجأة : إلى الموت ! ) ، ( قالت : نعم . وبسرعة إلى الموت . أتوسل إليك ) ، ( أمسكت مريم يدي اليسرى السائبة بيدها اليسرى الباردة كالثلج تماماً والرخوة كالشحم تماماً ) و ( التقطت من يدي بأصابعها الباردة تماماً والرخوة تماماً حفنة من التراب ) و ( كان دماً يانعاً كالقطيفة ) ، وأجمل ما في قصة مريم البلقاء ذلك الالتقاء الجميل الذي وهبه القاص علي السباعي لها : -  (( الجد الذي قتل وأخذ رأسه إلى لندن والمدفع والقطار الذين قد صنعا في إنكلترا من قبل الإنكليز وضرب رأس مريم )) . . أنه اقتناص رائع ليكون للجدة ثأرها في زوجها الذي لم يأخذ أحد ما ثأره والذي ظلت تطالب به طويلاً بحيث احتفظت بسيفه معلقاً في البيت لاستعماله في الوقت المناسب . هذه القصة العراقية " مريم البلقاء " جاءت مكتملة من حيث مضمونها وشكلها وأسلوبها ، وقد أعطتها الحادثة التي بنيت عليها القصة دفقاً هائلاً مثل شلال هادر من جبل أشم وهي أحدى مميزات أسلوب القاص العراقي ( علي السباعي ) الذي أراه يسير مثل نهر رقراق تتزاحم موجاته واحدة وراء الأخرى وهي تتداخل في الأعماق فتهزها هزاً رقيقاً غامراً يشعرك بالسعادة والدفء في ليلة من ليالي الشتاء الباردة التي تنخفض فيها درجة الحرارة إلى ما تحت الصفر ، وأنت تقرأ ( مريم البلقاء ) تشعر بحيوية الحدث وحدته وآلامه في آن واحد ، وانسيابية السرد تسحرك وتأخذك صوب مرابعها الحافلة بالوجع والوجد العراقيين .
القصة الثانية في مجموعة ( زليخات يوسف ) هي :- ( مومياء البهلول ) . . وبين المومياء والبهلول علاقة قد يراها البعض بعيدة ولكنها تاريخياً قد تكون قريبة جداً . . وهذا ما يكشفه لنا القاص علي السباعي . . وهذه القصة موضوعها الرئيسي أحد المشاكل المؤلمة التي تعرض لها الشعب العراقي أو التي رسمت للشعب العراقي لكي يهان وتسلب حريته ويجوع أطفاله في حصار مؤلم مقيت دمر كل شيء في العراق إلا الساسة ومن بيدهم الأمر والذين تأمروا على الشعب العراقي من أجل تضييق المساحة التي يمتلكها لغرض التخلص من الحصار المجرم الذي أحرق الأخضر واليابس . 
كتب القاص العراقي المبدع ( علي السباعي ) للناس  المظلومين والمهمشين كما يقول : ( خالد محمد خالد ) في كتابه : " إنه الإنسان " :- ( قد يرى بعض السادة أن الثقافة تفقد عظمتها وقيمتها حين تنتقل إلى الكافة وتصير طوع أيديهم وهذا يشبه قولنا أن الشمس تفقد الكثير من وجاهتها وعظمتها كلما وقعت أشعتها على الأعداد الكثيرة من الناس . . أعداد الدهماء والسوقة . أي منطق هذا ؟ أن طبيعتنا الإنسانية تملك البوصلة التي تحدد وتشير إلى حاجتنا الثقافية ، وهذه الطبيعة لم تخلق بين عشية وضحاها ، وإنما تكونت عبر الملايين من السنين ) ، وتلك هي المعضلة حين قال داروين : " أن الأزمات تخلق الإنسان العظيم " ، وما أكده كولن ولسن بقوله : " أن البشر يزدهرون في أسهل الظروف ، أما أ . ب . غوثري الابن فيقول : " في الرجال الذين يعتقد رفاقهم فيهم السوء وجدت طيبة لا حد لها ، وفي الرجال الذين يعتقد فيهم رفاقهم الطيبة وجدت سوءاً لا حد له . . " . . هذا ما قاله علي السباعي أيضا في قصصه .
 لقد ارتفعت قصة مومياء البهلول بلغتها وكانت لغتها شفافة سهلة مؤثرة حيث تبدأ قصة مومياء البهلول بعبارة تشدك : ( إذا كان عدد أيام شهري رمضان وشعبان ثلاثين يوماً ، تصحبها رياح شرقية ، ستظهر عربة يجرها حماران رماديان كل منهما بأذنين مقطوعتين تقودهما امرأة من يتبعها يجد الخلاص / هذا ما قاله البهلول ) . أذن القصة تبدأ بنبوءة واضحة المعالم ، وهذه النبوءة تقودنا إلى صميم القصة الذي تعامل معه القاص علي السباعي بوعي كبير ، وعي خطر حيث جاءت في القصة عبارات آسرة ومنها : - ( ظلال الفزاعات طويلة رفيعة باهتة ) و ( بعدما حزمت وسطها بعبأتها ) . ستجد في قصة ( مومياء البهلول ) الكثير من الألفاظ والعبارات الغريبة والتي يطلق عليها الوحشي من الكلام ، وهنالك الكثير من هذه العبارات التي ستردنا في القصة مثل :- ( البلدة أرخبيل الزقوم . . . أنبتت أرضها الزقوم والأصفاد والأحفاد ، والأحفاد موكب نمل كرع قدور المهل الكبيرة . تجرعوه . التهبت أجسادهم السمر الطيعة . . . توجعوا . . . انبعثت من مناخرهم اللدنة زفرات وبائية خبيثة ) و ( دارت الرؤوس / الجسد إلى الأمام والرأس إلى الخلف ) ، ولكن الضربة القوية في القصة والتي أجاد القاص العراقي علي السباعي استعمالها جاءت في الجملتين التاليتين :- ( خرجنا من حصار لندخل في حصار آخر ) و ( لم أدرت رؤوس أحفادي ؟ أجابت :- كبيرهم حطمهم ) . إذن . القاص ( علي السباعي ) يتهم كبير القوم بتحطيم الشعب العراقي ، فالقصة ، قصة " مومياء البهلول " تجسيد لما حدث من دمار وطن وشعب . أن التحدي واضح في هذه القصة ، وموقف الشعب العراقي من الحصار المدمر كان قوياً وشجاعاً ، فقد استطاع العراقيون رغم قوة ألمهم أن يمضغوا الحصار ويتندروا عليه ، ورغم أنه لبان مر ، شديد المرارة ، لكنهم استطاعوا أن يتجرعوا مرارته وخيباته المتتالية ، ورغم طول الفترة التي أسقطت ودمرت الكثيرين ، ولكن قوة المواجهة جعلت جدنا البهلول يصرخ :- ( أوئدوا حصاركم . أقبروه )  .
 أن الخلاص لا يوجد في لارسا ، ولكنه موجود في داخل النفوس ، ومن لا يستطيع أن يغير نفسه يبقى كما هو ويسبقه الزمن ويحطمه ، فبدون الفعل والمواجهة لا يكون هنالك الخلاص . ( جاءتها حكمته محشوة في أرث الأجداد . . ضغط أمارجي على الزناد . . . أطلق قرن الطين إناث رصاصاته / أحدى وعشرين زقوماً ) و ( جندل واحداً وعشرين ذئباً وحواءً واحدة / هذا ما لم يقله البهلول ) .
هنالك ربط متين بين الواقع العراقي والموروث الشعبي من خلال الكثير من الإيحاء :- ( أمارجي / الكواصد / البهلول / الزقوم / المومياء ، وغيرها من المفردات .
القصة الثالثة في مجموعة العطرة العبقة الشيقة ( زليخات يوسف ) هي :- ( وساخات آدم ) . .  التي تأخذك من صفحاتها الأولى إلى اكتشاف عوالم مجهولة قد أبدع فيها القاص العراقي المبدع ( علي السباعي ) ، ووظفها خير توظيف في قصص مجموعته زليخات يوسف ، وهذه القصة البديعة موضوعاً وبناءً ، قصة :- ( وساخات آدم ) .
أن القصة تبدأ بلغة المتكلم ، فبطل القصة هو المتكلم  هنا حيث تبدأ القصة كغيرها من القصتين السابقتين بضربة موفقة اعتاد عليها القاص المبدع علي السباعي ، وسوف يداوم عليها في قصصه التالية من المجموعة ، وهذه الضربة التي تكشف أسرار وغموض القصة :- ( والعصر . . زمن عقاربه مد وجزر . . طرقات . . دقي يا ساعة أخرت في توقيتها . . . أعلني توقف آدم عن السير . طرقات . أياد ملطخة بالأوساخ تسأل :- هل عندكم نفايات ؟ )  . نعم لدينا الكثير من النفايات فقد حولوا أجسادنا إلى نفايات ، والنفايات تملأ رؤوسنا ، ونحن لا نستطيع التخلص منها فقد كتب علينا إن نعيش في حفر عميقة من القذارة ، وكأن القدر تعاون مع جلادنا وحمل السوط ليجلد ظهورنا وأرادنا أن نظل عبيداً أبداً . ما أن نتحرر يوماً أو ساعات من حكم جائر مستبد أو دكتاتور مريض مقيت ينشر كلامه البذيء على وجوهنا وأجسادنا حتى نقع تحت حكم أقسى منه .  نعم . يا أيها القاص المبدع علي السباعي  . الهزيمة قاسية جداً ، ولكننا مهزومون في دواخلنا ومنذ أن ولدنا حتى الآن . فهل يصح أن يبني الحضارة جامعو القاذورات ؟
هذا ما يتساءل عنه علي السباعي في قصته المعبرة :- ( وساخات آدم ) ، والتي أضافت إلى معمار القصة العراقية الشيء الكثير . فالقاص علي السباعي في قصصه كلها يصعد سلماً  صعباً وقاسياً في ارتفاعه ، وقد أضافت القصة لمجده المؤمل كأديب وقاص بعداً ثالثاً إذا صحت هذه التسمية . 
أين زمن البراءة والنظافة في زمننا هذا الذي عشناه والذي نعيشه في كل لحظة بدم القلب ونزيف الشرايين . لا بل كيف طوى الزمن أعمارنا كبساط ممزق ولم يبق منا إلا الحزن ، حزننا الدفين الذي يعتصر أعماقنا بقسوة . أنها الهزيمة التي تدق في أعماقنا أوتادا صلدة .
( شجرة السدر تحترق . تحتها . أتم الصبي قلع آخر أضراسه وأحترق ) ، وهي ضربة موفقة أيضاً من قاص مبدع أخلص فأجاد لفنه القصصي حيث رست هذه الضربة الرشيقة الموفقة بالقصة على شاطئ الأمل والإحساس  في المقابل أن يكون لنا وطناً بهياً نعيش فيه أحراراً واعين صادقين مسالمين كما الجميع شعوب العالم .
والقصة ترتبط بالموروث الشعبي أيضاً من خلال الكثير من الإشارات :- ( خذي سن الحمار وأعطني سن الغزال – أبو طبيلة – يا حوته يا منحوتة . . ) وغيرها ، فربط الحاضر بالماضي وإيراد شواهد الموروث الشعبي التي سنشير إلى الكثير منها سمة واضحة ومكررة في قصص علي السباعي .
القصة الرابعة في مجموعة ( زليخات يوسف ) هي :- ( وتبقى قطام . . !!! ) ، وأريد أن أقلب الاسم وأقول : (( إذا قالت قطام فصدقوها فأن القول ما قالت قطام )) ، وهذه القصة تبدأ من الصفحة ( 65 ) ، وموضوع القصة هو : الحرية والتحدي من جانب والموت والفناء من جانب آخر . فهي من قصص الحال . حال الإنسان . حال الإنسان في هذه الدنيا الذي لا يعرف كيف ولد وقذف فيها ؟ وما معنى إن يولد إنسان ثم يموت بعد يوم أو يومين أو يظل تسعين سنة ؟!! 
هذه القصة رغم أنها تناولت موضوع العصر وكل عصر :- (( الحرية / التحرر / الموت / الحياة / الانبعاث )) . لكنها أيضاً كغيرها من القصص تعثرت من السلم الذي وضعته لصعودها . 
( نظرت قطام باتجاه الشمس بعينين نصف مغمضتين ثم بعينين مفتوحتين صوب ظلها . رأت جسدها بلا ظل . . . حاولت فرش ظلها على جدار المسجد . لا ظل . فقط جدار ابيض وظل رمادي مزرق ترشح من شجرة اللبلاب ) ، ( استمر الصمت محايداً غير منحاز لنداءات قطام ) ، ( أعادت المصلية سؤالها ، وقالت : كيف ترتضين أن يعاشرك رجل لا يعرف القسط ؟ ) . أن ضربات القاص المبدع علي السباعي الفنية قوية جداً ، وهو مثلما يشير إلى نسيج القصة ومضمونها في جملته الأولى فأنه يوظف الجملة الأخيرة بماذا يريده من الحياة . .  إلى أي جهة أو مكان تسير القصة ، وفي قصته هذه جاءت الضربة الفنية التي وظفها المبدع العراقي علي السباعي بشكل جميل وممتع وقوي الأثر ، كالآتي : - ( أين تهرب من ماضيك يا من ستولد فيما بعد . . . ؟ أقرأ زمناً عنكبوتياً حاصرنا بنسيجه القاسي . كلنا رأينا . لكن من الذي يتكلم يا جيلاً آت ؟ ) ،وهنالك الكثير من الصور الجميلة في هذه القصة المقاومة والمحرضة في آن واحد ، والتي تكشف عن معناها :- ( كل موؤد يعتبر نصباً حياً لخلودي ) ، في هذه الجملة أختصر فلسفة الموت والحياة . . . الحرية والعبودية . . . الحصار والمأزق والخلاص . نعم . من الذي يتكلم ويرفع صوته ويعلن نبوءة الميلاد التي افتقدناها منذ زمن بعيد ؟ أين أيام الخصب التي تعيشها شعوب العالم ؟ أين الفرح البهي الذي يعمر موائد القلب ، فيبقي نوافذها مشرعة بوجه الشمس ؟ أين عيد الحب والتسامح والألفة والعذوبة التي تعودت عليها شعوب العالم وافتقدناها منذ زمن بعيد ؟ أننا نتساءل مع القاص المبدع علي السباعي وسنظل نتساءل ؟ 
القصة الخامسة في مجموعة ( زليخات يوسف ) هي :- ( الجذر ألتربيعي للقمر ) هذه القصة من قصص الحال أيضاً ، وتدور حول الموت ، ومصير الإنسان في هذه الحياة ، وكل ما في القصة يشير إلى الحرب والدمار رغم ومضات الأمل التي تظل قابعة في النفوس والتي تشرق دائماً كالشمس . 
( دوي طائرات قادمة . . . تسبقها التماعات فضية / انفجارات / صيحات / ارتعاشات ) . قصة الجذر ألتربيعي للقمر تحاول أن تعرض الواقع المتأزم الذي نعيشه بكل آلامه وسلبياته وايجابياته ومهزلة هذا الواقع حيث أن المتوفى هو حصان الأمير ، والموكب الفخم لهذا الحصان الميت الذي يجعل الناس يتساءلون عنه ، وهم يشاهدون عملية التشييع والدفن الكبيرتين، والكفن الكبير والمشيعين الذين لا نهاية لعددهم . كل ذلك من أجل تشييع فرس الأمير بينما يموت آلاف الناس في العراق بحصار قاس  بدون إن يجدوا لهم قبوراً تضمهم ، وهذا حال الدنيا ، فكلنا نستذكر ( القاضي وبغلته ) ، فعندما ماتت ومازال قاضياً شيعها الآلاف ورثوها وبكوها ، وعندما مات القاضي لم يحضر أحد من مريديه ليحمل جنازته ويشيعه لمثواه الأخير . إن القاص المبدع العراقي علي السباعي في هذه القصة الرائعة كعادته يسابق الريح في تقدم مستمر نحو اعتلاء صهوة المجد ، ونحو الأصالة والصدق في عمل كتابي دءوب وثابت لإنشاء مكان صلب تحت قدميه يستطيع أن يرفع من خلاله قامته باعتزاز . . . بأنه أصبح قاصاً يشار إليه بالبنان ، وهو قطب من أقطاب كتابة القصة بين الشبان لا يمكن الإشارة إليهم بدون الإشارة إليه ، وإذا ما أستمر على هذا المنوال وبهذا الطرح وبهذا الانتقاء وتوظيف الحدث واختيار الأسلوب فسوف يكون من السباقين في كتابة القصة العراقية رغم أنه بدأ رحلته الطويلة بثبات وقوة . هنالك الكثير من العبارات الجميلة تضمنتها قصته الجذر ألتربيعي للقمر :- ( كمشروع حلم متسرب من ثنايا الذاكرة . . . تذكرت بطون الجياع . . . نواح بطونهم . . سأل أحدهم ملبياً نداء بطنه :- أيوزعون فيها ثواباً ) . أن قصة الجذر ألتربيعي للقمر رغم غرابة عنوانها فهي تسخر من الحياة التي أرغم الناس في العراق على أن يعيشوها وخاصة حينما يعطى الشيء الكثير لمن لا يستحق ، فقد أعطيت لأناس لا يستحقون الكثير من الامتيازات فيما مات آلاف الناس الجياع والفقراء والمعدمين بدون أن يهتم بهم أحد . . . بينما نرى الحكام يصرخون بأصوات فجة أنهم خدم الشعب وما جاءوا إلا لخدمة الشعب ، والصحيح أنهم جاءوا لسرقة قوة الشعب وقتل الناس من أجل أن يكنزوا أكثر وأكثر . أن علي السباعي  يوفق في قصته هذه من خلال ضرباته الموسيقية الفنية التي تكتنز الكثير من المعاني :- ( سكتت شهرزاد عن الكلام المباح لسماعها بياناً مهماً نقلته وكالات الإذاعات السمعية والمرئية : " بيان / يتوجه بالشكر الأمير شهريار إلى السادة مشيعي جنازة فرسه" . . .  ) ، وحتى هذه العبارة فأن القاص المبدع علي السباعي يقصد كل الخلل الذي يورده فيها ، فبدل أن يقول :- ( يتوجه الأمير شهريار بالشكر إلى السادة . . . قال العبارة أعلاه ) .
 القصة السادسة في مجموعة ( زليخات يوسف ) هي قصة :- ( الزا . . ماما ) ، وهذه القصة تشارك القصص الباقية أيضا في أنها من قصص الحال ، فهي أيضا تعزف على أوتار الموت والحياة . . موت الكرامة وموت الوضاعة . . مجمل أن يموت الإنسان واقفاً كالنخيل ، ومن يموت في الحياة . قصة الزاماما تشرح الواقع المرير للعراق . . آلام الإنسان فيه . . استكانة الكثير منا للعبودية وسخرية الحياة والمستقبل الأسود الذي ينتظر من يحنون رؤوسهم للريح لا للعاصفة ، وإذا بقينا ندور على الحال هذا في متاهة هي محيط دائرة لا خروج عن مساره . فأن الفناء أصدق شيء نستحقه ، وتعساً لمن يموت في الحياة .  
وهذه القصة من أقوى قصص المجموعة وأكثرها فنية رغم أن القصص الباقية لا تقل عنها قوة حيث يبدأ القاص علي السباعي قصته بالإيهام كعادته برسم واضح إلى مضمون القصة :- ( صورة بالأسود والأبيض توسطت شاشة التلفزيون لمذيع قلق مائع كدبق كثيف محركاً جسده ذات اليمين وذات الشمال ) ، وفي هذه القصة كباقي قصص مجموعة زليخات يوسف سخرية واضحة وإشارات كثيرة وربط بطولاتنا التي تركب الفرس العرجاء وتحمل السيف الصدئ بمأساتنا التي نعيشها منذ ألف سنة :- (  أيها المشاهدون الكرام . . . موعد شروق الزاماما ليوم غد ( أنا جندي عربي ) ، ويكمل الكاتب السخرية المرة بقوله :- ( أش بني . . " عزيزو " . . دعني أسمع ) ، و ( - موعد غروبها ( بندقيتي في يدي ) ، و ( علمونا كيف نجعل البندقية والرصاصة تحققان النصر . . تي . . تي . . طا ) . هذه السخرية بكل شيء في حياتنا هي محور هذه القصة الشجاعة الجريئة ، فقد أصبحت بنادقنا أما محطمة أو راكعة نهش بها الذباب عن وجوهنا القذرة أو مخبوءة في الحفر النتنة . . لأن كل انتصاراتنا جوفاء كاذبة . . . هزيمتنا انتصار . . وبطولاتنا انحلال ومستقبلنا اسود كئيب وكل واحد منا يكذب على الآخر . . . يطعن الآخر . . . وصدق الشاعر الكبير أحمد مطر حينما قال :-
وطني طفل كفيف
وضعيف
كان يمشي آخر الليل
وفي حوزته
ماء وزيت ورغيف
فرآه اللص وانهال بسكين عليه
وتوارى
بعدما استولى على ما في يديه
وطني ما زال ملقى
مهملاً فوق الرصيف
غارقاً في سكرات الموت
والوالي هو السكين . . والشعب نزيف 
لقد وصل الحال أن يقدم الأب ابنه للإعدام من أجل المال والحظوة عند القتلة . . وكل العالم إلى أمام ، ونحن دوماً إلى الوراء در . . الكل يتقدمون ونحن في انحناء نلعق حذاء الجلاد . . نلوك التبغ الرديء . . نفترش الأرصفة ومقاعد المقاهي الرطبة الصلدة . . تتسم أفكارنا وتتخدر أجسادنا ولا ضوء في نفق حياتنا ، قالوا لنا :- (  حاربوا . فحاربنا حتى أنفسنا . . كنا نمسك البندقية ونحارب . . احمي فيها وطني من شرور المعتدي . . ) ، و ( بين طعن القنا وخفق البنود خضنا أربعة عشر ألفا وخمسمائة زاماما كلها خاسرة . . لم نربح زاماما واحدة بعيداً عن خط النار . . معاركنا محسومة سلفاً لأعدائنا ) . أن عدد حروبنا يفوق سنوات تاريخ العالم ، وأخيراً بعد الكر والفر إلى الوراء . . بعد الخطب الجوفاء والكلمات الوضيعة . . بعد آلاف القتلى . . وآلاف الكيلومترات من أرض الوطن التي نهبت من جيران السوء يقول علي السباعي في قصته :- ( ملكنا يصافح عدوه ) ، وقد ذهب دماء آلاف القتلى سدى ، ويردد علي السباعي في متن القصة ، قصة الزاماما الرائعة :- ( كل زاماما عصرية تحتاج إلى دائرة جديدة من دوائر الخديعة ) ، وإلى ملايين الأوراق لتسجيل بطولاتنا الزائفة التي إجاعتنا ومزقت ثيابنا وهدرت كرامتنا :- ( إنا خادم هذا الشعب ) . . قالها المناضل نلسن مانديلا وصدق بقوله ، ولكن حكامنا رددوها بدهاء وهم يضحكون على الشعب ويسحقونه بأحذيتهم ويوردونه شر التهلكة في أقبية سجونهم ومعتقلاتهم . لحظتها كتب المبدع العراقي الشاب علي السباعي :- ( تراجعت تاركاً سيفي يسقط من يدي منكمشاً ذليلاً . . . وقعت دشداشتي تكفن سيفي المخذول . . . التفت جهة الصوت مرتبكاً . . . كان جلالة الملك رافعاً دشداشته زاهية البياض بيد وبالأخرى قابضاً سيفه الكبير . . متوعداً . . بدا سيفه تحت فضة المساء لحمياً مهيباً مرعباً في طوله وعرضه . . صرخ بصوت ضار :- أرفع يدك ) ، ولماذا ارفع يدي وإنا من مواطنيك يا سيدي ، وكنت أحارب دفاعاً عنك وعن الوطن ؟ 
( الويل لك فقد استوليت على كل نسائي ) هذا ما يقدر عليه حكامنا . . . أما أن يلبسون العباءة أو يهربون إلى الخارج أو يلقون القبض عليهم في حفرة نتنة وهم يدعون البطولة والمآثر الفارغة أو يحاربون الشعب العراقي بسيوفهم اللحمية الطويلة تحت ألبستهم الداخلية القذرة . 
وأخيراً بعد الوعد والوعيد ، وبعد أن وكان ولعل وأصبح ، يقول علي السباعي في تحفته الزاماما :- ( ملكنا يصافح عدوه بمناسبة حلول الألفية الثالثة . . ألفية المحبة والسلام فيما ترفض ملكة جمال مدينتنا مصافحة ملكة جمال العدو ) . هذا التكنيك العالي المستوى الذي يضخه القاص المبدع علي السباعي في مضمون قصته الزاماما كما يضخ الطبيب المغذي في أوردة جسد المريض ، بهذا يرتفع القاص العراقي علي السباعي بمستوى قصصه إلى مديات بعيدة ويفتح له الأبواب الموصدة لدخوله كأحد كتاب القصة الكبار ليس في العراق فحسب بل على مستوى الوطن العربي الكبير وربما لو كانت هنالك رعاية ودعاية للقاص علي السباعي كما يفعل غيرنا على مستوى العالم ، فعلي السباعي يستحق ذلك بكل جدارة . 
القصة السابعة في المجموعة الرائعة ( زليخات يوسف ) هي قصة :- ( احتراق مملكة الورق ) ، ولهذه التحفة علامات أعجاب أسجلها لها ، نحن نمتلك ورقاً أكثر من كل شعوب العالم ، فهنالك الكثير منه نلف بها السجائر ومن نصدر فيه جرائد أو منشورات عدة ومن نكتب به تقارير حزبية على أهلنا وعلى أحبائنا ومن نطبعه في كتب ثم نحرقه ونطبخ به الطعام أو نتدفأ به ، وهناك الآلاف من أطنان الورق من نطبع بها صور زعمائنا وقادتنا الأبطال الذين ما قتلوا ذبابة نعلقها في غرف نومنا تنظر ألينا وتكتب علينا الأحكام . . فكل شيء لدينا صهيل حصان عجوز فقد قوته الجسدية . أن حياتنا ضياع في ضياع . . فلا ظل نستظل به ولا كلمة طيبة تزيل غضبنا ولا شمس طاهرة تبعد عنا غمامتنا ، نحن لا نملك إلا لغونا الفارغ ، وسيوفنا اللحمية التي افتقدت قوتها والتي لم تستطع هزيمة قلاع النساء فنحن صنفان صنف مخصي وآخر يحمل سيفه البتار ، حيث يردد السباعي علي في مدونته الرائعة احتراق مملكة الورق :- ( خاسر من ترك عضوه الذكري يقطع ) .  ويهتف من متن القصة المقاومة طالباً المقاومة :- ( مدن تخثر الدم في عروقها . . رجال بلا أعضاء ذكرية . . خيول بلا فرسان . لا تكر . لا تفر . مناد يذيع فرمانات حجاجية . . حاضركم يبلغ غائبكم . . كل من يريد أعضاءه الذكرية يجلب مقابل وزنه كتباً ) ، و ( يتساءل احدهم لماذا الكتب ؟ وأي كتب يريدون ؟ ) .
يريدون الكتب التي تسبب لهم الداء والمرض لأنها سبب التقدم الذي يفتح عيونهم على ما وصلت إليه شعوب الأرض ، وشعبنا ليس واحداً منها ، فلو وجدت الكتب وقرأت بحق لما ذرف الحكام الدموع ، ولما أطاحوا برؤوس الشعب ، ولما اعدم كل حاكم عدداً من رفاقه ثم ذرف الدمع غليهم ساخراً من الناس ولما صفق الذباب للقمامة كما كتب علي السباعي .
( أقدام الصبية هجرت الصراط المستقيم تدخل أتون داحس والغبراء ، والتفت الساق بالساق إلى ربك يومئذ المساق ، بيارقهم حائرة بين الحرب فوق الصراط أو تحته / صبي يغني بحماس :- موطني . . . موطني . . . موطني ) ، ( أجابهم الحجاج بصلف :- اخصيهم ز ) ، و ( صعدت الجدات ليصرخن بالأطفال :- انزلوا حضرت ألسعالي ) . وما زال الحجاج يخصيننا ونحن نتمتع بالمشهد ونصفق له بحماس كالعادة .
القصة الثامنة في المجموعة المقاومة ( زليخات يوسف ) هي قصة :- ( عطش ذاكرة النهر ) . 
ومتى كانت الأنهار تعطش في بلاد العالم يا علي السباعي ؟ 
هذه القصة تكشف عن مضمونها من عنوانها ، فنحن خلقنا عطشى ، جوعى منذ أن ولدنا وحتى الآن كبيرنا يتحكم فينا ، وشريفنا يخدم كبيرنا ، وأفضلنا ينحني لأذلنا وأحقرنا شأناً كبيرنا ، وأحقرنا ، كبيرنا يخصي ذكورتنا .
( أتركوا جسد النهر. . ) صرخة يطلقها القاص المبدع علي السباعي في هذه القصة التي تعالج الحال ، حال الناس ، والموت الذي هو ميدان كل قصص علي السباعي ، والاستلاب ، والخنوع ، تراه يدعوا في قصصه على الانفجار بوجه الظلم ، يدعوا إلى الثورة دائماً ، ولكن من أين يأتي الانفجار لتحضر الثورة . 
( المعاول تحفر في جسد النهر آباراً فارغة ) . . يا ألهي . أي زمن نعيشه . . زمن اليباب . . عطش النهر الذي يلف كل العراقيين منذ أن وجدوا حتى الآن . فأصبح النهر مقبرة كبيرة لهم بدل أن يكون مصدر لحياتهم . 
( مجرى النهر خارطة رسمت عليها مقبرة حديثة . . وجوه الحفارين زرق مجهدة مثل طين غليظ مزج بمياه آسنة . . تدهشهم استجداء المتسولة . . لله يا محسنين قبراً لفقيرة ) . . قبر لفقيرة تطلبه المتسولة ، ويبدو أن لا مكان لقبر لها في العراق إلا قعر النهر . جعلونا نستجدي في ساحات وشوارع العالم ، نطرد من الأرصفة إلى الأرصفة ، نموت على حافات المدارس والحقول والمصانع وسط مظاهر البؤس والقذارة والعري .
( أبتلع كهل ريقه باصقاً بشدة في كفيه – صاح مفجوعاً :- نحن متواطئون مع الشيطان ) . . لو تواطئنا مع الشيطان لما وصل بنا الحال إلى هذا المأزق الكبير : ( كان أهل المدينة منذهلين ينظرون ناحية الطيور الأبابيل ) . . أن مجيء الطيور الأبابيل راحة لأجسادنا من التعب والجوع والتعذيب وإنقاذنا من براثن المجرمين . . فلا شيء في حياتنا غير الدم والدمار بعدما افتقدنا السلام والأمان .
القصة التاسعة في المجموعة المحرضة على الثورة ( زليخات يوسف ) ، وقد حملت المجموعة اسمها هي قصة :- ( زليخات يوسف ) ، وهذه القصة لا تختلف عن مضامين قصص المجموعة الأخرى ، وهي في قاسم مشترك معها في قصص الحال ، الهم المشترك الذي طرحته هذه المجموعة القصصية :- ( الموت – العذاب – الخنوع – السقوط – العطش – الحزن – الآلام – الحصار ) .حيث ورد في متن القصة :- ( سأشنق نفسي ولا أرى محاصرين لا يستحقون الحياة ) ، و ( يدور المحاصرون في الطرقات بأنفلاشات راحت تنشطر . . تتكاثر داخل قيعانها . . معتمة . . تخترق بنداءات المعلم :- أفيقوا حتى رحى طاحونة الحصار تطحنكم ) ،و ( ومنبه سيارة جمع النفايات التي كتب على جانبها :- حتى تينع الرؤوس ) ، وقد أينعت رؤوس أجدادنا فقطعها الحجاج ثم أينعت رؤوس آبائنا فقطعها المتوكل ، وأخيراً أينعت رؤوسنا ، فقطعها الدكتاتور  ، وسوف تينع رؤوس أولادنا وأحفادنا وهم بانتظار من يقطعها .
أن مدينة الناصرية هي المدينة الوحيدة في العراق التي تعيش مأساة لم تعشها المدن الأخرى ، فهي مدينة للأغراب يمتطونها منذ أن بنيت عام 1869 م ، وحتى الآن ، متى يشاءون ، وكيفما يريدون ، وباسم الحق والعدل تارة ، وباسم العري والكفر والنضال تارة أخرى .
( أخترق جامع نفايات حشد الكناسين يدفع أمامه عربة جمع القمامة محملة بأنواع من الرؤوس ينادي بصوته الأخن :- رؤوس للبيع . . رؤوس للبيع . . رؤوس للبيع )  ، وهنا يطرح علي السباعي أسئلته :- ( من المحاصر ومن المحاصرون ؟ !! فيقول : رؤوسكم . ومن حاصرها ، فيأتي الجواب : ذئابكم ) ، ويأتي السؤال الآخر :- ( هل حاصرتها ؟!! قالت ضاحكة : أنك لن تحاصر سوى نفسك ) ، ونحن حوصرنا ، وسنبقى محاصرين حتى يرث الله عزوجل الأرض ومن عليها .
ما أن انتهيت من قراءة قصة المبهرة بناءً وفكرة : - ( زليخات يوسف ) حتى تذكرت قصيدة مؤثرة جداً تجسد إنساننا المعاصر للشاعر العراقي الراحل : ( رشيد مجيد ) ، حين أنشد :-
( لم يبق من إنسانيتنا إلا هذا الوجه المحمول على جثة إنسان ) 
سيوفنا مكسورة
أفواهنا مغلقة
مدننا قذرة
يدنا اليسرى تحارب يدنا اليمنى
ونحن منخورون . . مخدرون حتى العظم 
هابيل قتل نفسه
يزيد لم يذبح الحسين
وأبو سفيان لم يكن شر البلية
حكامنا كلهم شجعان وطيبون
وأخطأ من قال أنهم جبناء ومنحرفون
أفكارنا على قارعة الرصيف
سلعة كاسدة للبيع بأثمن الأثمان
ونحن دوماً على انتظار شيء ما . . 
ولكنه لم يأت وسوف لن يأتي .
القصة العاشرة والأخيرة في المجموعة الرائعة ( زليخات يوسف ) هي قصة :- ( بكاء الغربان ) ، والرمز واضح في هذه القصة – فمتى كانت الغربان تبكي ؟!!!
هذه القصة ترتبط بالموروث الشعبي العراقي ، حيث تذكرت وأنا أقرأ قصة بكاء الغربان قصة زكريا تامر : ( النمور في اليوم العاشر ) ، فقد أصبح حالنا مثل نمور زكريا تامر تأكل الحشيش وتنهق مثل الحمار ، وينعق الإنسان في قصة علي السباعي كما تنعق الغربان بعدما أفقدونا حريتنا وكرامتنا وأصالتنا ، قصة مؤلمة ، مؤلمة جداً جرت لنا وكتبها علي السباعي :- ( صمت . . مدن ملونة بالدم . . إبليس . . أغرق الكون بدم عصفور . . غنت السماء . . نحن لا نعرف البكاء ، فأمطرت دماً ) ، ويتساءل القاص المبدع علي السباعي : ( أما كفاكم هابيل ؟ ) ، و ( لماذا تذبحونها ؟ ) ، و ( لماذا نذبح ؟ ) ، فيأتي الجواب مرعباً وصادماً : كلا لم يكفهم هابيل ، ولم يكفهم ملايين القتلى وسوف نذبح ونذبح ونذبح ملايين المرات .
ماجد كاظم علي
الناصرية
  

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
اختيارات القراء
  • اليوم
  • الأسبوع
  • الشهر
  • الأكثر قراءة
  • الأكثر تعليقاً