الاثنين 23 سبتمبر 2024 آخر تحديث: السبت 14 سبتمبر 2024
قراءة في تجربة القاصة نبات السماوي - عبدالله عصبة
الساعة 10:44 (الرأي برس - أدب وثقافة)



فضلاً عن قلة الممارسات النقدية التطبيقية - مقارنة بحجم النتاج الإبداعي اليمني - فقد تميز حضور الدرس النقدي التطبيقي المعاصر في بلادنا باتجاهه نحو محايثة وقراءة نماذج محدودة من ذلك النتاج ، مكتفياً بتناول أعمال قلة من المبدعين - ممن تصدروا المشهد الإبداعي اليمني - وذلك تحت مبررات عدة أهمها : البحث عن النص المدهش والمكتنز بالجماليات . 
 

قد يكون النص المدهش والمكتنز بالجماليات هو الأكثر استحقاقاً باهتمام المتلقي ، لاسيما في ظل توسع مفهوم التلقي ، واستحالته إلى حالة إبداعية لا تقل شأناً عنها لدى منتج النص ، ذلك أنه - أي النص المدهش والمكتنز بالجماليات – سيمنح المتلقي سانحة بناء عالمه المتخيل ، الذي قد يقترب أو يبتعد عن عالم النص ، بيد أن هذا لا يسوّغ الإعراض عن التجارب الإبداعية الشابة ، لاسيما من اكتملت لهم عناصر التجربة الفنية ، ذلك أن النقد في جانب منه هو عملية استقرائية تقييمية يتطلبها العمل الإبداعي في كافة مراحل تشكله ، وبما يساهم في الكشف عن ملامح الجودة والضعف ، ويدفع بالطاقات الإبداعية إلى آفاق إبداعية أكثر إدهاشاً ونضجاً ، ومن هنا ولما كان النقد ينهض – في حيز منه – بمهمة التعريف بالطاقات الإبداعية الواعدة ، وإيصال صوتها للمتلقي ، فإنه يتحتم عليه توفير جزء من وقته وجهده لقراءة مثل تلك التجارب في محاولة منه ليس للتعريف بتلك الطاقات الإبداعية ومنحها فرصتها في الظهور فحسب ، بل و للمساهمة في رصد المشهد الإبداعي الشبابي ، وتوجيهه نحو المزيد من الإبداع والنضج ، وهو ما تطمح السطور اللاحقة للنهوض به من خلال قراءتها لتجربة القاصة ( نبات السماوي ) الحائزة على جائزة رئيس الجمهورية على مستوى محافظة ذمار للعام 2009م ، مناصفة مع القاصة (عفاف صلاح ) . 
 

كما هو شأن الكثير من الأصوات الإبداعية التي برزت من خلال النشاط الثقافي الذي بدأت ملامحه في التشكل مع بداية العام 2005م طالعتنا ( نبات السماوي ) بتجربة قصصية يشوبها الكثير من الهنات ، وكما هو شأن ( القلة ) ممن أثبتوا حقيقة امتلاكهم الموهبة ، والقدرة على الظفر بكتابة النص الأدبي ( شعراً أو قصة ) فقد تمكنت (نبات ) من تجاوز تلك الهنات ، وبحيث أصبحت قادرة على امتلاك زمام النص القصصي ، وبما ينبي عن موهبة قصصية تبشر بميلاد قاص متميز ، ويتجلى ذلك من وجوه عدة لاحت لنا على النحو التالي : 
أولاً : الجانب الموضوعي : 

 

بالنظر إلى مجمل نصوص المجموعة(*) يتضح أن القاصة تتوخى معالجة الواقع الذي يحيط بها ، وقد شكل الواقع نبعاً تستقي منه مضامينها القصصية ، وإزاء ذلك يلاحظ انفتاح مضامين المجموعة على آفاق من الواقع متعددة ، وبحيث لا نكاد نعثر على الموضوع الواحد في أكثر من نص ، وهو ما ينبي عن سعة أفق القاصة ويقظتها ، فضلاً عن ذلك فقد تميزت المضامين القصصية بالتركيز على قضايا جوهرية تستحضر المهمش والمهمل ، والكشف عن متناقضات الواقع . 
 

ففي نص ( الشيخ ) تدأب القاصة على معالجة ظاهرة التطرف الديني ، والكشف عن العناصر الأساس المساهمة في التأصيل لهذه الظاهرة ، ومنحها القدرة على الانتشار والسيطرة ، وقد تجلت البطالة وضيق النظر ، فضلا ً عن الفراغ المعرفي كعناصر مساهمة في ذلك . 
وتحيلنا القاصة في نص ( لص ) إلى إحدى مفارقات الواقع ، إذ يتم معاقبة الشخصية (المهملة / البطلة ) بالسجن لأنها سرقت لتطعم إخوانها اليتامى ، فيما يتم غض الطرف عن شخصيات أخرى تمارس نفس الجريمة وبكميات كبيرة ، كناية عن الكيل بمكيالين ، ويعرض النص في الآن نفسه مآساة الشخصية في علاقتها بالمجتمع المحيط بها ، وقد ظهر المجتمع متخلٍ عن مسؤوليته تجاه تلك المأساة . 

 

وفي نص ( مكلف ) تلجأ القاصة إلى تعرية الفكر ( الذكوري ) إزاء نظرته للمرأة ، وقد ظهر – رغم ما طرأ على الحياة من تغيير وتطور – في صورة متخلفة ، ومتناقضة مع قيم العصر وما ينبغي أن يكون عليه ذلك الفكر ، إذ أن نظرة الفكر (الذكوري ) للمرأة ما زالت تنحصر في النظر إليها بكونها جسد يثير غرائزه ، وكائن أدنى مرتبة من الرجل . 
 

وتعرض القاصة من خلال نص ( كابوس ) معاناة الزوج في ظل وطأة جشع الزوجة ، وبحيث غدت الزوجة كائناً يقض مضجع الزوج ، وعلى نقيض ما ينبغي أن تكون عليه ، باعتبارها مصدرً للاستقرار والسكون والطمائنية ، وقد أثبتت القاصة في هذا النص قدرتها على تجاوز ذاتها كأنثى ، وتمثلها الدقيق والمؤثر لمعاناة ( الآخر/ الرجل ) ، وبالصورة التي يعيشها ، وهو ما نجده – ولكن وفق مضمون وشخصية مغايرة – في نص (مجنون ) ، حيث تذهب إلى تلمس هموم ومعاناة الإنسان المجنون (فاقد العقل ) ، فتعمد إلى تقمص الشخصية ، وتلبسها ، وبما يكشف عن تلك المعاناة والهموم والتطلعات . 
 

وفي نص ( صراخ ) الذي لا يتجاوز السطرين تتجه القاصة للكشف عن الاختلالات الأسرية الناتجة عن حدوث فجوة بين كثير من أفراد الأسرة الواحدة ، بحكم الاختلاف في طبيعة التفكير والأهواء والأمزجة وما إلى ذلك ، ويأتي نص ( حلم ) القصير جداً لإضاءة الواقع السلبي الذي يسيطر على حياة كثير من شبابنا ، فتبدوا الشخصية (البطلة ) الرامزة لشريحة الشباب بصورة تنم عن ضيق أفقها وقصور نظرتها للواقع والحياة ، وذلك من خلال أسلوب تهكمي ساخر ، وقد انحسرت تطلعاتها في الظفر بارتداء بنطال ضيق . 
ثانياً : الجانب الفني : 

 

- الشخصيات : تبدو القاصة في تعاملها مع شخصيات نصوصها على يقظة تامة ، ووعي عميق بطبيعة ودور الشخصية في العمل القصصي , ويتجلى ذلك من خلال اختيارها للشخصيات المهمشة من جهة ، والتي تشكل حضوراً فاعلاً في حاضر ومستقبل الواقع المحيط بها من جهة ثانية ، وقد احتشدت النصوص بنماذج إنسانية عدة ، فضلاً عن ذلك فإن تعاملها مع شخصياتها قد اتسم بالحيادية والوقوف منها موقف المشاهد ، تاركة للأحداث والحوارات مهمة الكشف عن ملامح وطبائع الشخصيات ، كما أنها لا تدعى المعرفة الكاملة بدواخل شخصياتها ، ولكنها تعمد إلى خلق تصرفات وأفعال تدل على ذلك , فشعور الشخصية - على سبيل المثال بالبرد أو بالغضب يطالعنا من خلال

الوصف ( تحتض ذراعيها وكفيها ) و ( يزم شفتيه ) ، وغير ذلك مما يكشف عن داخل الشخصيات . 
- الزمكان : كما هو شأن الشخصيات فقد تعددت الأماكن ، وقد تمكنت القاصة من اختيار الأماكن المناسبة والرامزة في الآن نفسه ، ففي نص ( لص ) - على سبيل المثال – يطالعنا المكان من خلال ( الصخرة السوداء ، زاوية في أحد أركان البيت ، زاوية أخرى , البيت ، السجن ) ، وهي أماكن تتماهى مع إحساس الشخصية بالضياع والوحشة والوحدة ، وتتلائم وطبيعة الحدث المسيطر على النص ، ولأن البيت يرمز في مدلوله المألوف إلى الدفء والاستقرار والسكن الأمر الذي يتناقض وشعور الشخصية ، فقد لجأت القاصة إلى تغييبه ، وذلك من خلال عدم السماح للشخصية بدخوله ، وإبقائها طوال الأحداث خارج البيت , ويصدق هذا الفعل الفني الواعي على معظم النصوص ، كما أنه يصدق على تعاملها مع عنصر الزمان ، إذ تنتقي القاصة الزمان المناسب للشخصية والحدث ، لاحظ على سبيل المثال الزمان في النص ذاته ( لص ) ، يستهل النص أحداثه وقت الغروب ، وقد استحال هذا الوقت من رمز يشع بالجمال إلى عنصر يوحي بالحزن والوحشة ( يستقبل بشغف أشعة الشمس المتأهبة للرحيل ، شعور بالحزن يتسرب إلى أعماقه .. يتمنى أن لا تغادر الشمس مكانها..) ، ويبدو الزمن أكثر التصاقاً بالشخصية ومعاناتها ، من خلال اختيار القاصة ( لليل ) والظلام ليكون مسرحاً للأحداث .

 

وفي تعاملها مع زمن السرد نجد أن القاصة تعتمد في جل نصوصها على السرد عبر خط مستقيم ، رغبة منها في الإمساك بزمام انتباه المتلقي ، فتتوالى الأحداث بصورة متتابعة ، بيد أنها قد تنحرف عن هذا المسار محاولة كسر رتابة التتابع الحدثي (الزمني ) ، فتلجأ إلى السرد عبر تقنية ( الارتجاع الفني )،كما هو في نص (الشيخ ) ، حيث يتذكر (البطل) إحدى مشاهد يوم تخرجه من الجامعة ، وقد تعمد إلى كسر رتابة التتابع الحدثي ، وإيقاف عجلة الزمن السردي من خلال الوصف كما هو في النص ذاته . 
 

- الحبكة : بالنظر إلى مجمل نصوص المجموعة يظهر أن القاصة تجيد صنع حبكات نصوصها ، وإدارة عناصر السرد ، فتبدو أجزاء النص وعناصره مشدودة ومترابطة ، لا يعتريها تفكك ، ولكنها قادرة على شد المتلقي إلى النص منذ الاستهلالة وحتى الخاتمة ، ذلك أن القاصة قد تخلصت تماماً مما لا يخدم النص ويشغل المتلقي عن متابعة سير الأحداث . 
- الخاتمة : تراوح القاصة في اختتام نصوصها بين طرق متنوعة ، بيد أنها في الغالب قد لجأت إلى الاختتام بخواتم مفتوحة تتكئ في جلها على عنصر المفارقة ، وبما ينير فضاء النص ، ويدفع بالمتلقي إلى إعادة قراءته ، ومن ثم فهمه بصوره أخرى لم تكن في متناوله قبيل الوصول إلى الخاتمة ، زد على ذلك أنها – أي الخاتمة – قد ساهمت إلى حد كبير في فتح أفق التلقي ، وبحيث تمنح المتلقي سانحة بناء عالمه المتخيل ، لاحظ على سبيل المثال نص (إنتظار) ، إذ إنه ومنذ الاستهلاله قد أثار لدى المتلقي العديد من الأسئله إزاء السبب الذي يدفع بالشخصية ( الفتاة ) إلى الصعود إلى سطح المنزل ، والانخراط في عملية الانتظار والترقب ، وبرغم أن الخاتمة قد جاءت للكشف عن سر هذا الفعل مشيرة إلى أن الشخصية ( الفتاة ) تترقب وصول أحد ما ، إلا إنها – أي الخاتمة – لم تفسد علينا لذة الإثارة التي صاحبتنا منذ الاستهلالة ، وقد أبقتها مشتعلة في أذهاننا ، ذلك أن المتلقي سيظل يتساءل عن هوية (الغائب / المنتظر ) الذي قد يكون حبيبها أو والدها ، وربما ينأى عن ذلك ليستحيل إلى حلم تترقب الشخصية الظفر به ، وهو ما ينسحب على نص (ابحار ) و ( كابوس ) و ( نظرات ) وغيرها من النصوص . 

 

- اللغة : يتسم أسلوب القاصة في تعاملها مع لغة السرد بلجوئها إلى استخدام الألفاظ السلسلة المتسمة بالبساطة والعمق ، والقريبة من متناول المتلقي والعصر ، وذلك وفق أسلوب تركيبي يمنحها القدرة على التعبير الدقيق عن المعنى المراد ، فضلاً عن ذلك فإنها قد تعمد إلى توظيف اللغة الشعرية ، والإفادة من الصورة الفنية بمستوياتها المتنوعة ، وبما يمنحها القدرة على النفاذ إلى أعماق المتلقي ، والتأثير عليه ، لاحظ على سبيل المثال نص (إنتظار ) :- 
 

(يلقي الليل بحمله على قريتها المستلقية في أحضان الوادي ، تمسح الأفق المترامي أمامها ، القرية تغرق في نومها ، الأشجار العارية ، الليل يجمع حاجياته ، يستعد للرحيل ... إلخ ) . 
وقد تلجأ القاصة إلى الإيغال في توظيف الصورة الفنية ، وبحيث يستحيل النص إلى لوحة شعرية تنبض بالحياة ، وبما يقترب من جنس القصيدة الومضة ، ولكن دون أن يتخلى النص عن هويته السردية ، كما هو في نص (طموح ) و ( ابحار).
ونخلص إلى القول بأن تجربة ( نبات السماوي ) القصصية قد بدت من خلال مجموعتها الموسومة (بابحار ) متسمة بالنضج ، وبما يبشر بميلاد قاصة تعي طبيعة العمل القصصي وعناصره الفنية

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
اختيارات القراء
  • اليوم
  • الأسبوع
  • الشهر
  • الأكثر قراءة
  • الأكثر تعليقاً