الأحد 22 سبتمبر 2024 آخر تحديث: السبت 14 سبتمبر 2024
باكثير وكتابة السيرة الذاتية - د.عبدالحكيم باقيس
الساعة 13:10 (الرأي برس (خاص) - أدب وثقافة)

 


منذ عقود استقطب أدب علي أحمد باكثير الباحثين الذين أخضعوه للدرس النقدي والمناهج المتعددة، فخرجت عشرات من الكتب القيمة، والرسائل الأكاديمية، والبحوث العلمية الرصينة، التي تناولت تجاربه الأدبية في المسرح والرواية والشعر، وتوقف بعضها عند جوانب بعينها من تراثه الأدبي الحافل بالتنوع، وعُقدت في الآونة الأخيرة سلسلة من المؤتمرات والندوات المحلية والدولية احتفاءً به، ما يدل على إعادة الاعتبار لهذه الشخصية الأدبية المهمَّشة، ومكانتها في الأدب العربي الحديث.
 

إن خطاب السِّيرة الذاتية أخذ في راهننا الأدبي والثقافي العربي يحتل موقعاً مهماً، وأخذت الدراسات الحديثة تبحث في نصيّة السِّيرة الذاتية وأوجه تشكلها، وهناك من المؤشرات ما يدل على زيادة الوعي بها، سواء أكان على مستوى الكتابة، مثل زيادة معدلات المنشور من السِّير الذاتية العربيّة التي أصبح يتشارك الشغف بها إلى جوار الأدباء والعلماء والمفكرين، السياسيون والفنانون والإعلاميون والإداريون، ورجال الأعمال، وآخرون أمثالهم، أم على مستوى الدراسات الأدبية والثقافية، حيث الاحتفاء بقراءة نص السِّيرة الذاتية الذي بات يستقطب الدارسين، ومؤشر ذلك ما نلمسه مؤخراً في معدلات الكتابات النقدية المنشورة، والمؤتمرات والندوات والمحافل العلمية والثقافية التي أخذت في ارتياد مناطق السِّيرة الذاتية في الأدب العربي في مختلف الأقطار والبيئات، ما يشكل ظاهرة أدبية وثقافية عامة توحي بالاقتراب من مقولة "زمن السِّيرة الذاتية".
 

وغني عن البيان أن علي أحمد باكثير لم يكتب سيرته الذاتية في كتاب يمكن تجنيسه في إطار السيرة الذاتية، وفقًا لمفهوم السِّيرة الذاتية المعيارية التي تتضمن تسجيل أطوار متعددة من حياة ما، على الرغم من تعدد مجالات ممارسته الكتابة في معظم الأجناس الأدبية المعروفة مثل: الشعر، المسرح، الرواية، القصة، الكتابة الصُحُفية وغيرها، ومنجزه الأدبي الكبير المتمثل في عشرات الكتب التي ألفها، ورحلة العمر الممتدة والحافلة بالمراحل والتحولات والأحداث المهمة، ما يؤهله لكتابة سيرته الذاتية، لاسيما أن السياق التاريخي والثقافي الذي عاش فيه باكثير قد شكل الباعث الأكبر لأكثر مجايليه في كتابة سيرهم الذاتية، فقد عاش شطرًا طويلاً من حياته الاجتماعية والأدبية في البيئة المصرية، منذ أن جاءها منتصف الثلاثينيات، وحتى وفاته في أواخر الستينيات من القرن الماضي، وهي بيئة ثقافية زمانية ومكانية حافلة بكتابة أهم السير الذاتية العربية. فلماذا لم يكتب سيرته الذاتية؟!، (من أشهر السير الذاتية المصرية في زمن باكثير: (الأيام) لطه حسين عام 1939م، (قصة حياة) لإبراهيم عبدالقادر المازني عام 1943م، (طفل من القرية) لسيد قطب عام 1946م، (حياة قلم) و(أنا) لعباس محمود العقاد عامي 1947و 1964م، (تربية سلامة موسى) لسلامة موسى عام 1947م، (حياتي) لأحمد أمين عام 1950م، (أيام الطفولة) لإبراهيم عبدالحليم عام 1955م، (سجن العمر) لتوفيق الحكيم عام 1964م، بخلاف ما كان يُنشر تحت اسم المذكرات).
 

 

هل وجد باكثير الذي توفي قبل أن يطوي عقده السادس أن الوقت لم يَحِنْ بعدُ لكتابة السيرة الذاتية أُسوة بالآخرين؟، ذلك أنَّ كتابة السيرة الذاتية أشبه بتتويج يقدمه الكاتب لمرحلة طويلة وحافلة من الحياة، وكما يقول جورج ماي أن كتابة السيرة الذاتية "نتاج بلوغ سن النضج إن لم نقل سن الشيخوخة"، فعميد الرواية العربية نجيب محفوظ أنجز سيرته الذاتية (أصداء السيرة الذاتية) التي صاغها في شكل سردي جديد أثار جدلاً حول مدى علاقته بأدب السيرة الذاتية بعد تجربة روائية حافلة، وبعد بلوغه مرحلة متأخرة من العمر، وحصوله على جائزة نوبل، وقد أثمر تأمله في نصوص السيرة الذاتية شكلاً جديدًا لسيرته الذاتية في الأدب العربي يعتمد على التخييل في سرد الذات أكثر من اعتماده على المرجعي، حتى أنه في نظر بعض دارسي سيرته الذاتية قد "غالى في التجريد والعبث بالمرجعي إلى حد طمس معالم الذات وإقصائها"، فهل كان هاجس الشكل أيضاً ممَّا شغل باكثير قبل كتابة سيرته الذاتية؟، أم أن الأجل لم يمهله لينجز نص سيرته الذاتية؟، وذلك قَدَرُ كثيرٍ من الكتاب الذين فارقوا الحياة قبل كتابة سيرهم الذاتية، فجاء بعدهم من جمع شذراتها المتفرقة، ولملم أوصالها المتشظية في كتاب، مثل سيرة عباس محمود العقاد الذاتية (أنا) التي نشر جانباً من فصولها المتفرقة في مجلة الهلال ومجلات أخرى، وبعض الكتب في الثلاثينيات والأربعينيات من القرن الماضي، ولأنه توفي قبل أن يكملها ويخرجها في سفر واحد، جمعها وأعدها للنشر (طاهر الطناحي) بعد وفاة العقاد، وأخرجها بعد ذلك في كتاب سيرة العقاد الذاتية الذي حمل عنوان (أنا). فهل الإحساس باقتراب الأجل أو وطأة الشيخوخة يُعدُّ دافعًا مهمًا في كتابة السيرة الذاتية؟، وذلك ما لم يمر به باكثير الذي توفي عند مشارف عتبات الستين، ودون عتبات الشيخوخة، في الوقت الذي كان يحزم حقائبه لرحلة جديدة في المكان، وتغريبة أخرى، باتجاه الغرب الأوروبي، ربما إلى بريطانيا، كما ذكر بعض من عايشوه في سني حياته الأخيرة، وهل كان أبو القاسم الشابي سيتردد في كتابة سيرته الذاتية إذا لم يكن المرض الشديد الذي أفضى به إلى الموت، كان المحفز للكتابة، وتشبث الشابي بتلابيب مابقي له من أيام معدودات لينجز نص سيرته الذاتية المعنونة بـ(اليوميات)؟، وقد أخبرنا حسونة المصباحي عن ظروف كتابة الشابي لسيرته قائلاً: "كان الشابي في الواحدة والعشرين من عمره عندما شرع في كتابة هذه اليوميات، وكان مرض القلب الذي ألمَّ به وهو على عتبة المراهقة قد اشتد عليه حتى بات يائسًا، متعبًا، مثقلاً بالهموم والأوجاع، وعلى الرغم من أن المدة التي استغرقتها كتابة هذه اليوميات كانت قصيرة إلى أقصى حد (من 1 جانفي/ يناير إلى 6 فبراير/ شباط 1930) فإننا نعثر فيها على تفاصيل رائعة عن حياة الشاعر، كما أنها بمثابة رصيد دقيق للأوضاع الثقافية والسياسية والاجتماعية في تونس مطلع الثلاثينيات"، ألم يخبرنا إدوارد سعيد في مقدمة سيرته الذاتية (خارج المكان) بأن كتابتها جاءت استجابة نفسية بعد تلقيه "تشخيصاً طبياً مُبرماً" أشعره أهمية أن يترك سجلاً لحياته، ما يعني أن فعل كتابة الذات بقدر ما يبدو في بعض الأحيان مشبعاً باللذة في استحضار الماضي وكتابة الذكريات، أو التبرير والاعتراف أو الشهادة والتوثيق، وغير ذلك من دوافع كتابة السيرة الذاتية، هو كذلك محاولة عاطفية متخمة بالألم في مواجهة الفناء لتخليد حياة ما على شكل نص مكتوب، وعلي أحمد باكثير من الأدباء الذين توافر لهم أكثر من دافع موضوعي أو عاطفي لكتابة السيرة الذاتية، ولعلّ خبرته الإبداعية في مجال كتابة الرواية، ونزعته نحو التجديد الأدبي عمومًا، وحياته الحافلة بالأحداث والأمكنة المتعددة كانتا مما يقربانه خطوات لأن يكون صاحب سيرة ذاتية كاملة، يقول الأستاذ الدكتور حاتم الصكر "لم تكن حياة باكثير إلا ملحمة متنوعة الفصول كأدبه، فالهجرات المتتابعة والإقامات المتنوعة، منحته الشجاعة ليرتاد فنونًا أدبية متنوعة أيضًا، ويعكس وعيه بها لهفته لتطعيم الأدب بالجديد عليه من الفنون، دون أن يتخلى عن اعتقاده بالواجب القومي للمثقف".
 

 

(من مقدمة بحث طويل كتبته منذ سنوات، يحاول إعادة بناء سيرة علي أحمد باكثير الذاتية من أحاديثه الصحفية المنشورة، والتي جمعها في كتاب د. محمد أبوبكر حميد، وكتابه (فن المسرحية من خلال تجاربي الشخصية، ويوميات علي أحمد باكثير التي نشرها مؤخرا د. محمد ابوبكر حميد..).

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
اختيارات القراء
  • اليوم
  • الأسبوع
  • الشهر
  • الأكثر قراءة
  • الأكثر تعليقاً