الأحد 22 سبتمبر 2024 آخر تحديث: السبت 14 سبتمبر 2024
"صورة العائلة" واللعب بضمائر السرد - منير عتيبة
الساعة 11:59 (الرأي برس - أدب وثقافة)

 


ربما تكون هناك روابط كثيرة تربط قصص مجموعة "صورة للعائلة" للأديبة د.عزة بدر، كتشابه الحالات النفسية ودورانها فى دائرة الأسرة فى معظم قصص المجموعة، وفكرة القهر الذكورى للأنثى، القهر بمستواه العنيف، وبمستواه الناعم الذى يصيبها بالإحباط من دون أن تستطيع مواجهته لأنه خبزها اليومى، وتشابه بطلات القصص، وأجواء الأحداث بما يخلق جوا شبه روائى لمجموعة قصصية..

لكن الرابط الأهم فيما ترى هذه القراءة للمجموعة هو الرابط التقنى، حيث تستخدم الكاتبة ضمائر السرد المختلفة لتكون هى المعبر الحقيقى عن القصة وبالذات عن المعانى الماورائية فى العمل القصصى، تلك التى لا تفصح عنها الأحداث ولا الشخصيات ولا حتى السارة، لكنها تكون هى الدافع الحقيقى لكتابة القصة وهى ما يمكن أن نطلق عليه "هدفها النهائى" أو البصمة/الندبة التى تريد أن تتركها فى عقل وإحساس القارئ.

ولعل اختيار قصة "صورة للعائلة" لتكون أول قصص الكتاب، وليكون اسمها عنوانا للمجموعة، كان موفقا للغاية، لأن معظم القصص لا تخرج عن هذا الإطار الأسرى، العلاقات المعقدة والمتشابكة للأبوة والأمومة والبنوة والزوجية والصداقة والزمالة، وهى تستخدم فى هذه القصة ضمير المخاطب لتحكى قصة أسرة مثالية عندما ننظر إلى صورتها الخارجية، لكنها فى الحقيقة أسرة ذات علاقات إنسانية متهرئة بالتباعد والوحشة، حيث يبدو المعنى العام مدخلا مناسبا للقصص التالية التى ستفصل ما يعترى علاقات أفراد هذه الأسرة ببعضهم البعض، ويبدو ضمير المخاطب هو المعبر الأول عن حالة الانفصال والتباعد والرغبة فى قطع علاقة الساردة بهذه الأسرة. 

ضمير المخاطب.. جسر يفصل ويوصل
 

تستخدم الساردة ضمير المخاطب فى قصتين أخريين غير قصة الافتتاحية، هما (الصديق) ص27 و(قطعة سكر) ص53، حيث نرى استخداما مختلفا لنفس الضمير، ففقى قصة صديق يكون الخطاب إلى الأمل فى منقذ لا يجئ ليحمى البطلة من إغواء أستاذة، ويعكس استخدام ضمير المخاطب البعيد هنا اليأس الشديد للساردة ومعرفتها العميقة بأن من تنتظره سيتركها لمصيرها لكنها تثابر على مناداته، بينما يكون ضمير الخطاب فى قصة قطعة سكر هو جسر الحركة التبادلية بين الذكر والأنثى فى حوار الإغواء الأبدى المتبادل.

ضمير المتكلم.. المعبر الأول عن المشاعر العميقة
 

وفى ست قصص من المجموعة نجد ضمير المتكلم هو البطل الفاعل فى القصة، حيث تستخدمه الساردة للتعبير بدون وسيط عن أعمق وأدق مشاعرها، وهى قصص: (أصابع زينب) ص19، (كارت بوستال) ص33، (وردتان ودمعة) ص39، (تمر هندى) ص57، (ذراع ناعمة) ص77، (كعب الغزال) ص107.

ويبدو أن الساردة فى كل هذه القصص (عدا قصة وردتان ودمعة وقصة أصابع زينب) هى نفس الشخص، الأنثى التى تعيش حالة من الإحباط والفراغ وعدم التواصل مع الآخر/الذكر تواصلا حميميا ناعما يحقق احتياجاتها النفسية والجسدية معا، بل هى تتواصل معه أو بمعنى أدق تتعايش معه وفق قيم مجتمع يضعها دائما فى الهامش، فتفكر كثيرا فى التحرر من هذا المجتمع بتحرير جمل الكارت بوستال من سنمه واتخاذه وسيلة لتحررها هى الأخرى من حياتها المملة، ولتهرب أيضا من نعومة زوجها التى تخنقها والتى هى وسيلته ليحصل على كل شئ منها حتى حبها من دون أن يقدم هو شيئا بالمقابل أو يبذل حتى جهدا، بالتماهى مع دودة القز التى تكاد تختنق بالحرير فى قصة ذراع ناعمة، وهى نفسها بطلة قصة كعب الغزال التى توصل هى وزوجها ابنهما إلى المدرسة، ثم تدعوه للذهاب إلى الميرلاند لاختلاس لحظات رومانسية من حياتهما الجافة، حيث تتخيل كل ما ستفعله وسيفعله معها، وما سيشعران به وهما يعودان عاشقين بقلبين أخضرين، لكنها تصطدم بواقعيته الخشنة التى ترفض عرضها. 

وهى التى تماهى بين الحبيب الذى تنتظره بمواصفات معينة وبين الساعى الذى يعد لها تمر هندى حيث تخلط أحلامها بينهما لطول شوقها إليه ولهفتها ويأسها من تحقق أملها. أما قصة وردتان ودمعة فهى القصة المعروفة عن الأب والأم اللذين يعملان ولا يعرفان أين يتركا طفلتهما، فى حضانة، أم يترك أحدهما العمل لرعاية الطفلة، وفى نهاية القصة يتم الإعلاء من قيمة احتياجات الطفلة نفسها لا أحد الأبوين. أما أصابع زينب فهى مغموسة فى الفقر وبخل الجدة وحنين الانتظار للابن الغائب.

 

الراوى العليم يكشف الخجل الاجتماعى للسرد!
 

لعل استخدام الراوى العليم فى خمس قصص أخرى من قصص المجموعة؛ إضافة إلى وظائفه الأخرى، يكشف ضغط القيم الاجتماعية على الساردة نفسها، فصة (الدفء) ص71 كان يجب أن تروى بضمير المتكلم، لكن الساردة تخجل أن تعبر عن ذاتها مباشرة فتحيل الحكى إلى الراوى العليم الذى لن يستطيع المجتمع محاكمته عندما يتحدث عن رغبتها فى دفء حقيقى للعلاقة الحميمة التى تفتقدها مع زوجها حيث يحصل هو على كل الدفء الذى يريده منها، ويتركها تعانى برودة كان عليها أن ينهيها وينام ويشخر. وهى البطلة نفسها فى قصة (رجل الأمس) ص91 التى لا تستطيع أن تواجه المجتمع بأنها تحلم بلحظة حميمية مع زوجها الملتزم بالوقت بشكل مرضى، فتستبدله ببطل فيلم رومانسى يمسح خد حبيبته النائمة بوردة منزوعة الأشواك، وترى شبيها للبطل فى الأوتوبيس –لأنها تأخرت على زوجها فانطلق بسيارته وتركها- فتهيم به فى خيالها، هذا الخيال المحرم على زوجة فتترك للراوى العليم مواجهة المجتمع باحتياجاتها نيابة عنها. وقصة (سمكة) ص83 أيضا كان من الأفضل أن ترويها البطلة التلميذة الصغيرة التى يسيطر عليها مدرس الجبر والحساب ويقبلها أثناء الدرس فى غفلة من أهلها، هو فج فى مشاعره وهى تشعر بطعم القبلة غير حلو كسمكة فى فمها، فالراوى العليم هنا ينوب عن التلميذة فى الحكى لأنها لا تسطيع أن تواجه أبويها والمجتمع وتحكى لهم ما يحدث لها لمعرفتها أنها ستكون المتهم الأول، فتصمت ولا تعبر حتى بنفسها عن مشاعرها الصامتة. 

 

أما قصتا (الأشياء القريبة) ص11 و(أبو ولاد) ص63 فربما كان الراوى العليم هو الأنسب لهما فعلا، لأنهما رغم استبطانهما لمشاعر إنسانية فى مواقف مختلفة إلا أن هذه المشاعر يمكن أن تكون عمومية ترتبط قد لا تختلف من شخص لآخر، وهى أقرب إلى القيم الاجتماعية التى تسعى الساردة وغالبا القارئ أيضا إلى الإعلاء منها، حيث تقدم فى القصة الأولى صورة قميئة للجحود ونكران فضل الأب سواء من أبنائه أو زوجته حتى أنهم يحرمونه من كل شئ حتى ملابسه وحذائه رغم أنهم يعيشون من معاشه، وفى القصة الثانية تصف العلاقة العكسية بين الأمنيات وإمكانيات تحقيقها حيث ترغب الأسرة فى توفير فوانيس رمضان لأطفالها لكن الفوانيس أغلى من قدرات الأسرة المادية، مع إشارة إلى انحدار الذوق العام بالمقارنة بين أغنيات رمضان زمان وبينها حاليا.

 

 

اختلاط الضمائر.. اختلاط المشاعر
 

بذكاء تقنى شديد تستخدم الكاتبة أكثر من ضمير فى ثلاث قصص، لتعبر عن اختلاط المشاعر والأحلام والخيبات فى كل قصة، ففى قصة (تفاح أحمر) ص 97 تبدأ بالراوى العليم وتكمل بضمير المتكلم، لنكتشف فى النهاية أن الراويان هما نفس الشخص؛ الإنسانة التى ضاعت منها كل الأحلام وترغب فى الحرية والانعتاق، وتظن أنها حصلت عليهما وأنها خرجت من الحجرة 604 بينما هى سجينة هذه الحجرة وسجينة هلاوسها أيضا. وتستخدم ثلاثة ضمائر فى قصة (امرأة للقمر) ص113 هى بالترتيب الراوى العليم ثم ضمير المخاطب ثم ضمير المتكلم، فالساردة هى امرأة الظل التى ترى حبيبها وزوجته معا بينما هى تنتظره فى الظل الخافت للقمر، تحدق فيه فيكتمل جنونها، فهذا الوضع؛ تقول القصة، وضع جنونى لمن ترضاه، فقصة الزوج والزوجة وامرأة الظل (زوجة أخرى/أو عشيقة) تروى هنا من وجهة نظر المرأة الأخرى الرافضة لوضعها المهين، لكنها ليست بطلة فلا بطولة لها، لكن ضمائر السرد هى بطل الحكى، يكون الراوى عليما عند الحديث عن الزوجة الأصلية التى تقف تحت الشمس بكعب عال شامخة يطل عليها الجميع ويمكن أن يتحدث عنها أى إنسان، ويكون ضمير الخطاب عندما تتحدث امرأة الظل إلى حبيبها بلهجة أقرب إلى الذلة والمسكنة، أما ضمير المتكلم أو المتألم فهو الذى توبخ به نفسها وتلومها ويكتمل به وبالقمر جنونها. 

 

وتستخدم الكاتبة تقنية أخرى فى قصة ، (عطر قديم) ص119 حيث تبدأ القصة بضمير المتكلم ثم حوار طويل بين البطلة وبائعة العطور ثم تنهيها بضمير المخاطب، فهى تستبطن مشاعرها تجاه زجاجة العطر القديم الذى لا يشتريه أحد منذ عشر سنوات، ثم تحاول أن تحصل عليها والبائعة تراوغها، وهى تستميت لتستعيد ذكرياتها بهذا العطر، ثم تنفصل عن نفسها بضمير المخاطب عندما تكتشف أنها لن تحصل عليه أبدا لأن امرأة أخرى حجزته فى الصباح رغم أنه على الرف منذ عشر سنوات لم يقترب منه أحد.

 

مجموعة أخرى
 

يحتوى كتاب د.عزة بدر على ثلاث وعشرين قصة، بالنسبة لهذه الدراسة فإن أول سبع عشرة قصة الأولى هى مجموعة مكتملة، وتمثل باقى قصص الكتاب مجموعة أخرى أو قسما ثانيا مستقلا من الكتاب، وكان من الأفضل أن يتم تقسيم الكتاب إلى قسمين حتى لا يشعر القارئ بالنقلة المفاجئة لمن جلس فى البيت طويلا ثم خرج فجأة إلى الشارع البارد العنيف. ويغلب على هذا القسم قصدية فكرته السياسية أو الاجتماعية وهو ما انعكس على اللغة القصصية به فأصبحت أكثر وضوحا ومباشرة للوصول إلى الفكرة بأبسط الطرق، بخلاف القسم الأول التى كانت للغته ظلال شعرية وشعورية فى غالب القصص.

 

القصص الست التى تمثل ما أطلقنا عليه القسم الثانى من الكتاب يروي أربعة منها عن حق الراوى العليم حيث ترصد لقطات عامة لأحداث حياتنا، لقطات نراها ونعيشها فى حياتنا اليومية، وإن كانت الكاتبة قد عبرت عنها بجمالية قصصية غير منكورة، وبشجاعة تحسب لها إذا تذكرنا تاريخ نشر الكتاب فى 2008، فقصة (الباشا) ص128 عن ضابط يضرب بائعا متجولا فى الشارع ويكسر إشارة المرور وهو آمن من الحساب. وقصة (الباب العالى) ص131 عن المدير الذى يستخدم نفوذه ليحيط نفسه بالجميلات ويصطاد ذوات الحاجة منهن، وقصة (درجة ثانية مكيفة) ص143 قصة مبنية بقصدية سياسية واضحة تقارن فيها الكاتبة بين ركاب الدرجة الثانية والثالثة وقهر مفتش القطار لركاب الدرجة الثالثة وثورتهم عليه، فهل كانت تتنبأ أم تحرض؟. وقصة (زجاجات مكسورة) ص153 هى إعادة إنتاج لحكاية قناوى وهنومة باب الحديد ليوسف شاهين فى واقع قمئ أكثر خشونة وتعقيدا ملئ بالشراك النفسية، فهى تكرهه وتحبه، تكره قسوته وتحب أخذه العنيف/اغتصابه المتكرر لها فى دورات مياه القطار العطنة، تريده بعيدا لكنها تنتظره أيضا فى كل لحظة. 

 

وتقسم الكاتبة قصة (صورة طبق الأصل لتمثاله القديم) ص161 إلى خمسة مقاطع، الأربعة الأولى يقدمها الراوى العليم، والخامس حوارى، مذكرة من خلالها بفكرة الشعوب التى تتخلص من الطاغية لتأتى بآخر. أما القصة الأخيرة فى الكتاب (الأصفار) ص169 فتروى بضمير المتكلم عن الفساد السياسى/الانتخابى حيث تحدثنا المرأة الفقيرة الجاهلة عن الخديعة التى تعرضت لها وقبضت ثمنها مائة جنيه لتصوت لمرشح فى الانتخابات لا تعرفه مع أنها لا تملك بطاقة انتخابية.
لعل تقسيمنا للمجموعة إلى قسمين؛ الأول يتناول المشاعر والأحاسيس المهترئة فى نطاق الأسرة، والثانى يتناول قضايا اجتماعية عامة، يضيف هذا التقسيم إلى المجموعة معنى آخر، فهذا المجتمع بما فيه من فساد سياسي واستغلال نفوذ وانحلال أخلاقى، لا يمكن أن ينتج علاقات صحية أو حتى متوازنة فى إطار الأسرة، لكن الأهم أن ننظر أيضا إلى قدرة الكاتبة على توصيل المعنى الكلى لعملها ليس فقط من خلال متن الحكاية بل أيضا؛ والأهم فيما أرى، من خلال مبنى الحكاية، أى أسلوب الحكى ذاته وفى القلب منه قدرتها الكبيرة على استخدام الضمائر بما يوحى تحليله بالمعنى الأعمق خلف كل قصة، وبما يتوازى مع تحليل مجتمع الحكاية ذاته.

 

بعد ست سنوات من نشرها لم تزل مجموعة صورة للعائلة صالحة للقراءة، فالمجتمع الذى تتناوله قصص المجموعة بكل علاقاته وتشابكاته وتعقيداته وعقده لم يزل كما هو، ولن يتغير كل ذلك بسهولة أو فى مدى قريب، وحتى لو تم تغيير جذرى بعد عشرات السنين فلن تفقد المجموعة قيمتها الأدبية لمستواها الفنى المتميز، كما أنها ستكون حينئذ ذات جدوى كبيرة للباحث الاجتماعى والأنثربولوجى مثلما حدث مع ثلاثية نجيب محفوظ.

منقول من بوابة الأهرام...

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
اختيارات القراء
  • اليوم
  • الأسبوع
  • الشهر
  • الأكثر قراءة
  • الأكثر تعليقاً