الأحد 22 سبتمبر 2024 آخر تحديث: السبت 14 سبتمبر 2024
الفجيعة عند علي السّباعي في مجموعته القصصية" إيقاعات الزمن الرّاقص" - د.سناء الشعلان
الساعة 12:46 (الرأي برس (خاص) - أدب وثقافة)

 


يبدو أنّ علي السّباعي يقودنا منذ عتبة العنوان في مجموعته القصصية"إيقاعات الزّمن الرّاقص" إلى توليفة مضمونية قابلة لأن تكون مفتوحة على جدلية التأويل التي تقود العمل الإبداعي إلى التخصيب والإثراء والتفريع الذي يكفل له حياته واستمراره ونماءه وخلوده مع كلّ قراءة جديدة له،وهو منذ البداية يضعنا مباشرة أمام إيقاعات لا إيقاعاً واحداً في مجموعته التي يفترض أنّها تأرّخ لزمن راقص،وهي تسمية تقودنا ابتداءً إلى البهجة والفرح،فالزّمن الراقص يستحضر معطيات الفرح والابتهاج والأريحية والانسجام التي تسبق عادة فعل الرّقص،ثم تلازمه،ولكن تبدأ المفارقة عند القرن بين الزّمن والرّقص،فما هو مدلول الزّمن الرّاقص؟ ومتى يكون الزّمن راقصاً؟ وكيف يُتعامل مع هذا الزّمن الرّاقص؟وهذه الأسئلة تقودنا إلى سؤال أكبر،وهو:ما مفهوم الزّمن الرّاقص؟ ومن هو المؤّهل للرّقص في هذا الزّمن؟ وماهي إيقاعات هذا الزّمن الرّاقص؟
 

وتبقى الأسئلة جميعاً مفتوحة على كلّ التأويلات التي تنساح في هذه المجموعة القصصية الخصبة الولود.ولنا أن نختار إيقاعاً بعينه لنرقص عليه مادامت المجموعة منذ عتبة العنوان تجيز لنا الاختيار؛إذ هي تقدّم توليفة كاملة غير معلنة،وإنّما مفتوحة على التّوقع والتخيّر والتعاطي والتفاعل.
ولعلّ من أهم خصائص هذه المجموعة القصصية- في رأينا المتواضع- أنّها تقوم على مجموعة من الثيمات الكبرى التي تنتظم القصص جميعاً في وحدة موضوعية تتباين وفق وجهة النّظر،وزاوية التلقي،ومنظومة الأدوات والافتراضات وعينات الدّراسة،ولكنّها تصبّ أخيراً في حقيقة واحدة،وهي أنّ المجموعة قائمة على وحدة موضوعية.

 

 

والفجيعة هي الثيمة الكبرى التي تنتظم هذه المجموعة في وحدة تقدم حالاً واحداً يختصر كلّ أحوال أبطال قصص المجموعة،ويوصّف ظروفهم،ويحلّل أزماتهم النفسية والمعيشية التي تقودهم جميعاً دون استثناء إلى نقطة واحدة محور وبؤرة في كلّ القصص،وهي بؤرة الألم الذي يصبح بطلاً إجبارياً في حياتهم،ليشكّل مصائرهم وأقدارهم،ويسوّغ أفعالهم وأقوالهم ومشاعرهم،بل وانكساراتهم وسلبيتهم في كثير من الأحوال.
 

وبذلك تصبح الفجيعة إيقاعاً من الإيقاعات التي يوصّف بها هذا الزّمن الرّاقص حيث لا استقرار أو أمان؛ففي قصة "عرس في المقبرة" نفجع ابتداءً من المفارقة(1) التي تحملها عتبة العنوان؛فكيف يكون العرس في المقبرة؟ والعرس هو رمز لفعل الحياة والاستمرار والنّماء،في حين أنّ المقبرة هي رمز لفعل الموت والانتهاء والعجز،وتفاصيل القصة هي من تجعل الجميع شركاء في تجرّع هذه الفجيعة،فحارس المقبرة يعيش تجربة عزلة موحشة،تحرمه من أن يعيش كلّ تفاصيل حياته بشكلها الطبيعي "كنت أحسب أنني أعيش في عزلة موحشة، كل ما فيَّ ينتمي إلى الماضي، حتى أنفاسي فإنها تصدر عن الوحدة المتفردة بداخلي"(2)،ويبحث بأيّ شكل عن مؤنس له في المقبرة حيث يقطع أيامه يحرس الموتى من اللصوص،ويسوق له القدر"ناجية" المرأة الأربعينية التي يجدها بين القبور،وعندما يسألها عن سرّ وجودها في المكان،تصدمه بأنّها تدّعي أنّها عروسه،وأنّها قد جاءت لتعيش معه تفاصيل زفافها إليه،وتقول له:" عملت لك سرير الزوجية فوق أحد قبور أثرياء مدينتنا"(3).يحاول الحارس عندها أن يستوعب ما يجري،ولكنّه يصطدم بفعل غرائبي(4) يثير الخوف والقلق في نفسه حيث يجد" العديد من الهياكل العظمية تصطف على شكل أزواج، العشرات من الجماجم موزعة على مواضع منتخبة بإتقان وقد رتبت على شكل أزواج فوق القبور "(5) ،ويزداد الوضع غرائبية عندما تزعم المرأة أنّه قد خطبها منذ زمن،وتسدر في بكاء طويل،فيحاول أن يرتب فهمه للموقف بأن يسألها عن سبب بكائها في هذا الجو الغرائبي الذي تصنعه في المقبرة في طقوس زواج مزعوم،فتعترف له بأنّها " وحيدة أبكي كل شيء في حياتي فحياتي بكاء في مأتم"(6)،يتعاطف معها الحارس أكثر عندما يشعر بأنّه وحيدة مثله في هذا المكان،ولكنّه ينعتها بالجنون عندما يعلم أنّها تعيش حياة فنتازية بتفاصيل غرائبية عزّ أن نقابلها في كلّ يوم،إذ تقول له:" في أعماقي تسكن امرأة... أنثى بانسدال ستائر الليل تتفجر بركاناً من الشهوة: فأعيش زفافاً كل ليلة... ينتهي بنشوة عامرة مع أحد العابرين. حينها أنام نوماً عميقاً... عميقاً جداً"(7)
 

 

يحاول أن يتخلّص منها بالوعود الكاذبة،ولكنّها تضعه في مواجهة مباشرة مع فجيعتها عندما تخبره بسرّها المحزن:" لقد زوجني أهلي عنوة، وأنا بعد بنت في الرابعة عشرة من عمري، لشخص يدعي بأنه: تاجر! أنجبت له خمس بنات، باعهن زوجي لأحد بيوت الدعارة هه.. لقد كان: قواداً"(8) 
هذا الاعتراف يقود القصة إلى المزيد من الأفعال الغرائبية،فنجد الحارس ينحاز إلى عالم المرأة بما فيه من جنون وسلوك شاذٍ،ويتواطأ معها في فعل الزّواج الذي تشهده المقبرة في كلّ ليلة،ويخرج عن أدبيات عمله ،وعن ضوابط عالمه،وينساح في جنون يشابه جنون المرأة،وبدل أن يحاول أن يعيدها إلى عالم الاتزان،يفقد هو الآخر اتزانه،ويطفق يكرّر أفعالها الغربية التي كان يستنكرها عليها قبل لحظات"رحت أطوف صارخاً بغابة القبور الصماء، أصرخ محفزاً كل الموتى على –النهوض- من سباتهم الأزلي، تشاركني ((تاجية)) الصراخ والطواف بين القبور تبكي بناتها، حظها، وألمها الذي زعزع كياني، مزق يقيني بالحياة، أمسكتها من يدها مهدئاً، داهمني منظر الدموع السابحة في الكحل الأسود، قلت لها:
-اجلبي طبولك، دقي، اقرعي عليها إيقاعاً يوقظ الموتى، فهم أصدقاء اليوم.. دعي أصابعك تضاجع طبول الفرحة"(9)

 

ويمضي حارس المقبرة ليلة زواج غرائبية ماجنة تعجّ بالجنس في المقبرة بين القبور وعلى عظام الميتين،منحازاً بذلك إلى عالم الجنون مادام عالم العقل لم يملك أن ينصف ناجية وبناتها من ظلم زوجها القوّاد،مشاركاً إيّاها الفجيعة المشترك التي يعيشها في مجتمع ظالم يجعل مصير المرأة –في كثير من الأحوال-معلقاً بين يدي زوج أظلم أم عدل.
 

وهكذا تصبح الفجيعة عند علي السباعي في هذه القصة مسوّغاً مقبولاً للجنون وللجنوح إلى الانحلال والغرائبية مادامت الشخصية تعيش تحت ظلم اجتماعي صارم،وهو بذلك يقدّم حلاً استلابيّاً سلبياً،فبدل أن تثور" ناجية" على واقعها،وتحاول أن تنقذ بناتها من مصيرهن المشؤوم،تهرب إلى عالم المقابر،وتمارس الدّعارة بالمجان مع كلّ عابر سبيل يمرّ بها،وهي بذلك تنتقم من الدّعارة بممارسة الدّعارة!وهذا يجعلنا نسخر من هذا السلوك الذي تقوم به،تماماً كما نسخر من موقف حارس المقبرة الذي هاله ما سمعه من قصة ناجية وبناتها مع زوجها القوّاد،وبدل أن يثور هو الآخر على هذا السّلوك،أو على الأقل يلزم الحياد إزاءه ،نراه ينصر " ناجية" على ظلمها،بأن يمارس عليها المزيد من الظلم! ولأنّه يغضب من إجبار بناتها على الدعارة فهو يمارس معها الزّنى في المقبرة كي يريح أعصابها ويلبّي رغباتها!
 

 

لابدّ أنّ علي السباعي قد قدّم في هذا القصة حلولاً لا تقل مأساويةّ عن أقدار الشّخصيات،فهل الحلّ لامرأة هاربة من الدعارة هو أن تمارسها بالمجان في المقبرة مع العابرين الغرباء؟ وهل الطريقة المثلى للانتصار لها هو مشاركتها العبث والانحلال الجنسي في المقبرة فوق رفات الميتين؟ 
ويبقى السّؤال في هذه القصة هل هذه الخاتمة هي نهاية فاجعة لا تقل قسوة عن حيوات شخصيات القصة؟أم هي حلّ مقترح للتعاطي مع الواقع بمنطق المزيد من الجنون والعنف في مقابل الكثير منه؟ أيّاً كانت الإجابة،فنحن لا نملك إلاّ أن نشعر بالأسى من فجيعة "ناجية" وحارس المقبرة في حياتهما التي تبدو إيقاعاً حزيناً من إيقاعات أخرى في زمن علي السّباعي في هذه المجموعة القصصية.

 

أمّا في قصة " الخيول المتعبة لم تصل بعد" فالفجيعة تتوالد عندما يعجّ الزّمن بالأشرار الذين يتكاثرون بسرعة،فالدنيا في زمن هذه القصة كلّها مرارٌ بوجود هارون رشيد واحد،فكيف عندما يعج بملايين الرجال أمثال هارون "تغير هارون، ظهر بدلاً عنه ملايين الرجال الذين يدعون بـ (هارون)" الذين يعيشون في زمن الدّم والقتل"(10)
 

هارون الرشيد يعيش فجيعته عبر معاناته الخاصة في عالمه المتغيّر ضدّ إرادته" ليس هارون وحده الذي تغير، بل كل التقاليد والعهود، الأحاسيس والإنسان الشجر والأغصان، السحابة والمطر، السجان والسجين. آه... كلّ العواطف تغيرت، حتى البحر تغير. والرشيد وسط ذلك كله يقف على الساحل وحيداً بلا مركب، بعد أن رحلت كل المراكب"(11)
 

وجاريته دموع تعيش فجيعتها في إخفاقها في أن تجذبه إلى عالمها حيث الحبّ والأمن والسلام بعيداً عن القتل والفتن والحروب،وتزداد تعاستها عندما يواجهها الأمير الزائر ببشاعة حياتها،ويستنكر عليها أن تعيش في ظل هارون حيث القتل،ولاشيء غير القتل:" دموع! كيف يعيش الإنسان وسط أنهار الدم وبرك القتل؟ كيف؟"(12)
 

والأمير الزائر الذي يتنكرّ بزّي المتسول،يهدّد بالثورة والعصيان:"ما زالت كل براكين الأرض خامدة لا تستعر. لكن! بإمكان شرارة صغيرة أن تجعل الأرض تتنفس بعمق فتزفر جهنم إلى الخارج، بهذا تغرق الأرض في بحر من الحمم المستعره"(13) ويحرّض الجارية "دموع" على التمرّد على هارون الرشيد،والانتصار للحياة بعيداً عنه،وبعيداً عن القتل" دموع! إن الإنسان يهرب من تعاسته بالقتل. لكن! الطيور بإمكانها الهرب من كل شيء دونما اللجوء إلى القتل، حياتنا لو كانت ثمناً لراحة العالم، سنمنحها لهم، وهذا غير جائز معك يا أميرة.. فمثلك شفافة، حلوة، تشبهين التفاحة النضرة، صعب أن تمنح حياتك من أجل... آه... حياة الآخرين!"(14)
 

وعندما لا يجد تجاوباً من " دموع" ولا أذناً صاغية من هارون الرّشيد يعلن حقيقته ومواقفه دون خوف"أنا من تقرّحت قدماه من السير فوق خرائط الدم، أنا عبد الأمير الشحاذ، أرتدي الأسمال البالية لأنها زي كل الفقراء يا مولاتي. أحمل الأكياس الثلاثة معبأة بالأواني الفارغة، والقناني، لأنها عدة كل أمير لحفلاته، الذي أضعه على أنفي قطعة من القماش تجعلني استنشق هواء نقياً لأن هواء الدنيا كلها يزكم أنفي لما فيه من نتانة يا ملكتي".فيكون مصيره الفاجع أن يأمر هارون الرّشيد بإطاحة رأسه!"(15)
 

وتلبس الفجيعة في قصة " هكذا وجدتُ نفسي" رداء الفنتازيا المرتكز على المفارقة العكسية(16)،فالعنوان يوحي بأنّ بطل القصة قد وجد نفسه،وهذا فعل إيجابي،ولكن عندما نقرأ القصة نتفاجأ بأنّ البطل قد ضيّع نفسه،لا وجدها،بل إن حالة الالتباس عنده قد وصلت إلى حدّ أنّه اندغم في الحالة الحمار،وما بات يدرك أنّه إنسان،وشرع ينهق في آخر القصة عوضاً عن أن يتكلّم "راح يحرك رأسه للأعلى والأسفل كما يفعل الحمار، حينها شرع ينهق بقوة... بقوة..."(17)
 

وهي مفارقة تستثمر الفعل العجائبي (18) لتقودنا إلى أصدق توصيف لحالة البطل في هذه القصة،وهي حالة الفجيعة،إذ أنّه يعيش فصول الوحدة والعزيمة واليأس وحده بعد أن جرب الأمل مرة تلو مرة،دون أن ينجح في الوصول إلى مساعيه،ليجد نفسه في آخر المطاف وحيداً يعيش مع حماره الذي يضطلع بملكات عجائبية؛فهو قادر على الحديث مثل البشر،وقادر على أن يحاور صاحبه،وأن يشاركه همومه ويأسه.
 

ويتوافر الحمار العجائبي على رصيد كبير من التفاؤل على عكس صاحبه الذي بلغ اليأس منه منتهاه،فينصحه بالعمل والإصرار على الحصول على السعادة "سنحصل على كل شيء بعزيمة الورود وهي تشق رمال الصحراء طرباً بهطول المطر."(19) ولكن تذهب نصائحه أدراج الرّياح في نفس صاحبه الذي انتصرت الهزيمة واليأس عليه،فيضرب الحائط بما يسمع،ويغرق في غربته عن نفسه التي تبلغ به أن ينسى ذاته،ويتقمّص دور الحمار،ويسرع ينهق دون أن يتفكّر في كلام حماره الذي ينصحه قائلاً " تستطيع أن تربط كل أجزاء جسمك الممزقة بأوتار من أوجاعك القديمة، تجد قلبك، أرجلك، أذرعك، وجسدك كله قد اكتمل نسجه بفعل أوتار الحياة التي خاطها حزنك الدائم، وكما قالت محبوبتك ((تستطيع صنع قدرك الجيد بالإرادة"(20)
 

وبذلك يستسلم بطل القصة " وجع" لقدره الموجع،دون أن يحاول أن ينتصر لنفسه ولو لمرة أخيرة،وكأنّ علي السباعي قد قدّر لبطله أن يكون مهزوماً لا يملك بارقة أمل،ولاغرو في ذلك،وهو من اسماه ابتداءً" وجع" ليكون اسمه قدراً ملازماً لمصيره.
 

وهذا يدعونا إلى أن نتساءل هل علي السباعي يصمّم على أن يقفل في وجوه أبطاله أبواب الأمل؟ أم أنّ حالة الإحباط الذاتية التي نفترض وجودها عنده ولا نجزم بذلك قد انتقلت عدواها إلى قصصه؟ أم تراه يندّد بالتخاذل واليأس عبر تكريسه قبحه في قصصه؟ أم هي طريقة فنية منه للتلويح بالامتساخ عقاباً لكلّ من تسوّل له نفسه بأن يتنازل عن حقّه الطبيعي والمشروع في الحلم بغدٍ أجمل؟ في رأيي المتواضع إنّ هذه القصة مفتوحة على كلّ التأويلات المطروحة الآن والمفترضة آنفاً،ولكلٍّ أن يضبط تأويله وفق الإيقاع الذي يسمعه من هذه القصة.
 

ومن جديد تطالعنا الفجيعة بإيقاع جديد في قصة" قطار اسمه: غاندي" ،حيث تأخذ شكل الانفصام(21)،فبطل القصة غاندي الذي يعمل سائق قطار يعاني الكثير من الآلام النفسيّة التي تصل به إلى حالة الفصام الذي يتجعله يعتقد بأنّه اثنين،هو وخياله/ ظلّه الذي يشاركه أحزانه،وينصحه بأن يهرب منها بالسّكر بحجة أنّ الألم " على شكل قطارٍ ممتلئ بالألم يجرُّ وراءه مقطورات من الوجع المزمن فوق سكة الخيبة بداخلك، عندها تعمل على إخراج ألمك بتنهيدة متقطعة فإنك بهذا تعمل على إخراج وجعك عربة... عربة"(22) 
 

ولكن غاندي يكتشف بأنّ ألمه أكبر من السّكر،وأقوى من أن يزول بطريقة خياله/ ظلّه بالنّسيان،كذلك يكتشف أنّ الفجيعة الكبرى في حياته وفي حياة البشر أجمعين تتمثّل في الكذب الذي يمقته،عندها يسقط في أشدّ حالته ضعفاً،وينتحر غير آبه بالحياة :" يغرس عنق الزجاج بذراع خياله، تفتق جرح من دماء تتدفق كأنها احتضار الأنهار عند حبسها بسدود، يعالج خياله بضربة تجعل النهار يحتضر وهو ينتظر ولادة المساء.
 

يسقط غاندي على الأرض، وهو يصرخ:
-الكل يكذب."(23)
ومن جديد يحاصرنا علي السباعي بفجيعته المستلبة التي تطرح على كلّ أبطالها شتى أنواع الهزيمة والضعف والتخاذل،فنجد بطله قصته "غاندي" يهرب ابتداء إلى المرض النفسي،مروراً بالسّكر،انتهاء بالانتحار،دون أن يحاول ولو محاولة واحدة جادة أن يوجّه أحزانه في درب التحدّي والصمود والعمل،ودون أن يقرّر أن ينتصر لنفسه،ولقوة الحياة التي من الأفضل أن تنتصر في أنفسنا،بدل أن ننكسر دونها،ونترك الحياة مهزومين موجوعين وحيدين! فما هو الحزن الذي يستحقّ أن نترك الحياة هرباً منه؟!

 

أمّا في قصتي " ورقة" و "دم أخضر" فيقوم استدعاء الفجيعة فيهما على عناصر التكثيف والتّصريح والتّرميز لاسيما أنّ القصتين هما من جنس القصة القصيرة جدًاًً حيث يعتمد هذا النّوع من القصص على التكثيف والترميز.وإن كانت الفجيعة في القصة الأولى "ورقة " تتمثل في الاستسلام والتخاذل اللذين يمنعان البطل حتى من أن ينتصر لورقة ضعيفة في مهبّ الرّيح" تجمدت، تركتها تحركها الريح"(24)،فهي تتمثل في قصة " دم أخضر" في ذلك الجبن الذي يسكن نفس بطل الذي يمنعه من أيّ ردّة فعل إزاء قتل الشّيخ للعجوز أمام عياله ونسائه لحجج مفتراه مثل النّظر إلى زوجة الشّيخ الصّغرى باشتهاء كما زعمت(25) ،بل إنّ الجبن يمنعه حتى من أن يهرب من وجه الشّيخ الظالم،ويظلّ يرزح تحت نيره،ويصرّح بكلّ خزي بأنّه " جبان يا امرأة…! جبان!!".(26)
 

 

وعلى إيقاع آخر يحاصرنا علي السباعي بالفجيعة متمثلة في السّبب وفي النتيجة؛ فالأب في قصة " آخر رغيف" يضرب ابنه الصّغير على أذنه،فيخرق طبلتها،ويفقده السّمع،وهذا لاشكّ فعل فاجع بشع،فكيف إن وقع من الأب على ابنه،ألا يكون عندها فعل مركب للقبح والوحشيّة والقسوة؟! ولكن هذه القسوة تُشفع بسبب لا يقلّ قسوة على النّفس من الفعل،فالأب ضرب ابنه لأنّه "أكل رغيف أخيه"(27)،وهو الرغيف الأخير الذي تملكه هذه الأسرة المعدمة! ولاشكّ أنّ الفقر فعل بشري وحشي يقع على أفراد بسبب جشع أفراد آخرين،وفي النّهاية تكون الفجيعة المتوالدة في كلّ مشهد فقر نعاينه في حياتنا،ويختزله علي السباعي في صفعة على إذن طفل جائع بيد والده،فيفقد السّمع بدل أن يقدّم له رغيف آخر ليأكل حتى يشبع! أليس علي السباعي في هذه القصة يضعنا جميعاً أمام بشاعة واقع كهذا؟! إنّه في هذه القصة يعلّق الجرس،ويحدّق في العيون بكلّ تحدٍ،ويمضي؛إذ لا يتوقّع الكثير من بشر قليلاً منهم من يبالي بطفل جائع مادامت معدته متخمة آمنة من جوع. 
 

وفي قصة " رجل أنيق" يقدّم علي السّباعي صورة أخرى للفقر والجوع والحرمان الذي يفجع كلّ من يعاني منه،فالرّجل الأنيق الذي يختفي وراء بذلة تبدو أنيقة،يعيش واقعاً مخالفاً لشكله الخارجي الأنيق الخادع،فهو فقير لا يملك شيئاً،وعندما يقرص الجوع معدته يلوذ إلى مكان القمامة يبحث فيها عن لقمة تسدّ رمقه،وهناك يتصارع مع كلاب الطّريق الجائعة مثله،وعندما يعجز عن الانتصار عليها،يشرع ينبح مثلها،لعلّها تخاف وتهرب،فيفوز بلقمة أو لقيمات من القمامة! منحازاً إلى سلوك غرائبي،قلّما يسلكه بشر،وهو النّباح والتصارع مع الكلاب من أجل لقمة في مكبّ للنفايات! وهو مشهد ظالم يدين كلّ من يجلس على وليمة عامرة شبعان ريّان،وغيره من البشر لا يجد لقمة مسروقة من أفواه الكلاب الضّالة في مكبّ النفايات !
 

وتتمثّل المرأة في قصة " مظلومة" نوعاً آخر من الفجيعة المولودة من رحم عادات المجتمع العربي الشّرقي الذّكوريّ الذي يعاقب الأضعف،وهي المرأة في الغالب،في حين يترك الأقوى،وهو الرّجل في غالب الأحيان، يقترف جرائمه دون حسيب أو رقيب. فالمرأة في هذه القصة تتوارى خلف نقابها إجباراً كي تهرب من جريمة وقعت في حقها،ففي حين سامح المجتمع الذّكوري المجرم الذّكر على فعلته البشعة في حقّها،وسلبها نفيسها،فقد فرض عليها عقاباً أبدياً في التخفّي خلف نقابها،وكأنّها المجرمة لا الضّحية،وسمح لنفسه بأن يشم جسدها بكلمة" مظلومة"(28)وكأنّها دابة أو أقل "وشم بحروف كبيرة فوق ساعدها الأيمن بلون أخضر مزرق... (المظلومة..‍‍!!) "(29) وتركها حزينة محزونة لا تملك إلاّ أن تبكي حظّها العاثر بقولها "أنا امرأة خرقتها أصابع آثمة!!"(30)،وأن تعيش في كلّ يوم كلّ معاني الفجيعة والألم والحرمان والقسوة والظلم في مجتمع لا يتقن إلاّ أن يعاقب المرأة،في حين يغفر للرّجل كلّ جرائمه بسبب ذكورته لاغير! وكأنّ الذّكورة فعل شرف،والأنوثة فعل انتقاص ومذلّة! 
 

 

وتتكّرر صورة المرأة المظلومة في قصة "ورود الغابة" لفضح نظام سلطوي كامل بمباشرة وبوضوح؛ فالأمير في القصة،بدل أن يقوم بواجبه الطبيعي والأخلاقي والدّستوري والإنسانيّ بحفظ أرواح المواطنين فضلاً عن حفظ ممتلكاتهم وحرياتهم وحقوقهم،نراه يسقط في درن القذارة،ويسرق زوجةً من زوجها لأنّها اشتهى جسدها الجميل،وعندما ترفض أن تكون خليلة له،وتتمسّك بشرفها،وبالإخلاص لزوجها الذي تحبّه يقدّمها الأمير طعاماً سائغاً لنمره المتوحّش ليقطّعها إرباً،وهو يرقب هذا المشهد الوحشي بمتعة وتشفٍ،يرافقه جنوده ومساعدوه الذي يقيدون الزّوج المهزوم المغلوب على أمره "قعقعت ضحكة الأمير مستهترة صاخبة، عيناه تبرقان بالشر لرؤيتها امتزاج الدم بثوب العسل، وعباءتها السوداء سحبتها مويجات مشيعات معزيات زوج الشهيدة"(31) 
ولاشكّ أنّ جريمة كهذه هي فجيعة مركبة؛فمن ناحية هي جريمة وحشية لا يمكن أن تُغتفر لا في حق البشرية ولا في حقّ الحبّ الذي هدر على أبواب الأمير لأنّه شاء ذلك في لحظة شهوة لجسد امرأة رجل غيره،ومن ناحية أخرى هي فضح لسقوط رموز السّلطة في كلّ أشكال الرّذائل والصّغائر في حين تتمنّى الرّعية أن تعيش في سلام وحبّ بعيداً عن خارطة المصالح والغنائم،وفي نهاية المطاف تحُرم من هذه الأمنية المشروعة.

 

ومن جديد يجنح علي السباعي إلى السّرد العجائبي،فيرسم لنا في قصة " مملكة الغضب" صورة لمكان عجائبي لا وجود له في عالم البشر حيث مهمة سكّانه من النّساء أن يستدرجن الرّجال للولوج إليه،وهناك يشرعن يذقنهم أبشع أنواع العذاب.وهذا المكان اسمه "مملكة الفجيعة "أنت الآن في مملكةِ الفجيعةِ، برحاب الفناء، لا حياة لك! " (32)وهو الطّريق نحو الموت.
وهذه المملكة العجائبية التي تزخر بكلّ أنواع العذاب الجسدي فضلاً عن النفسي هي في رأي بطل القصة امتداد لذلك العذاب الذي عاينه وغيره من البشر في حياتهم الزاخرة بخيبات الأمل " نحن جيل الخوف يا هذه... بذار نساء الرعب... أيام الخوف أرضعتنا... وأصابع الشقاء الحديدية فطمتنا" و" لقد عشتُ أزمنة الخوف، البؤس، الغربة، وما أجمل أن أعيش لحظات الموت".(33)

 

ولعلّ هذه المملكة العجائبية بكلّ ما فيها من ظلم وقسوة وتعذيب هي امتداد لصورة الواقع في نفس علي السباعي حيث يعيش البشر تجارب نفسية قاسية ،ويمرّون في تجارب نفسية وجسدية وحياتية لا تقلّ قسوة عن التعذيب حتى الموت على أيدي نساء مملكة الفجيعة دون سبب أو جناية،ليصل الإنسان في نهاية هذه التجربة إلى أنّه يعيش مجبراً في الوهم،ولاشيء غير الوهم الذي قد يقوده دون أن يدري إلى مملكة الفجيعة حيث العذاب،وتهمة الأوهام التي تلصقها نساء المملكة بكلّ من يشرعن يعذبنه:"اقتربتْ صاحبة الفم الشيطاني، لتقول بمرارة:
ـ إنك تحيا بالأوهام... فهي زادكم يا بشر"(34)
وتكون النجاة من هذه المملكة الجهنمية ومن هذا العذاب الموصول بأن يقرأ البطل آية الكرسي دون توقف على معذباته اللواتي احترقن حتى الموت "أغفى وهو يكررها" (35) ويبقى السّؤال الحائر اللاهث الذي تورثه لنا هذه القصة: كيف لنا النجاة من عذابات مملكة الحياة التي نعيش كلّ إكراهاتها وقسوتها وتناقضاتها؟
في حين نجد أنّ النجاة من قسوة الحياة ومرارة الفجيعة فيها تنهزم أمام حرارة الحبّ في قصة " بندقية الحاج مغني"؛ فالأب الذي جاوز السّبعين من عمره قد وقع في عشق بائعة الهوى"بنت النّاس رمّان" وتزوجها،وأخلص لها،وأخلصت له،ولكن أبناءه ضنّوا عليه بهذه السّعادة؛لأنّها امرأة سيئة التاريخ،فخطفوها من والدهم على أمل أن ينزعوها إلى الأبد من حياته،لكن الوالد المفجوع بعقوق أولاده كما هو مفجوع بحرمانه من المرأة التي يعشقها،يرفض أن يستسلم لقهر أولاده،ويسعى إليهم حاملاً بندقيته كي يستعيد زوجته،وعندها كانت مفاجأته الكبرى بردّ فعل أولاده تجاهه "وبينما هو سادر في عزمه لمقاتلة أولاده، انطلقت صليات متتالية من الرصاص فوق رأس ((الحاج مغني)) من رشاش ابنه البكر، بعدما تموضعوا بساتر ترابي أمام دارهم، فلم يأبه بصلياتهم وكأنها أسراب من البعوض، مما دفع ابنه إلى معاودة إطلاق صليات متعددة، متعاقبة، غرضها ثني والده عن عزمه. قال ((الحاج مغني)) بصوته الهادر: 
ـ اضربوا ما استطعتم! فأنا قادم. 
قال ابنه الأوسط لأخيه: 
ـ تنح جانباً لكي أكسر ساقيه بقناصتي هذه. 

 

فشل في إصابة أبيه، وبدلاً من إصابته بساقيه فإذا بالرصاصات تترك ثقوباً في ثوب أبيهم بعدما ألقته على الأرض، وبهذا استمرت رشقات بنادق أولاده، فاض قلبه في فمه، تمنى لو كان صقراً لحلق في الفضاء هارباً من مقاتلة أبنائه. " (36)
وتنتهي فجيعة الحاج مغني بانتصاره على أبنائه،وباستعادته لزوجته التي يحبّها ويفضّلها على كلّ عالمه بما فيه من أولاد وزوجات وحفدة وأصدقاء،اقترب منها،وقال لها:"شعرت بمتعة لا حدود لها، وأنا أستردّك، وحينما لمستك ولدت فيّ ملايين الخلايا، حينها أحسست بأن دماء الشباب تجري في عروقي.
أشاحت بوجهها، لتقول بغنج: 
ـ افتقدتك يا حاج لأنك رجلي، واشتقت إليك لكونك أثمن مشاعري على الإطلاق.
ردّ قائلاً:
ـ لن يخيب أملك فيّ أبداً. أبداً".(37)
أمّا فجيعة المرأة الطّائر في قصة " الأيادي المتعبة" فتأبى أن تغادرها،وتعجز عن أن تتخلّص منها،فهي تعيش في ازداوجية مؤلمة،تجعلها مزيج أسطوريّ من امرأة طائر،فلا هي طائر خالص،ولا امرأة صرف،إنّما هي عالقة في هذه الحالة المسخ التي تشبه حياتها المفصومة التي تعيشها في واقعها الحياتي،عندها تطلب من بطل القصة وصديقه أن يحرّراها ممّا هي فيه "حرراني من ازدواجيتي! فأنا منكودة الطالع"(38) ،ولكنّهما يفشلان في ذلك،فتبقى عالقة في حالتها المربكة المحزنة،وتحلّق نحو البعيد محمّلة بفجيعتها في عدم قدرتها على الانعتاق ممّا هي فيه.

 

ويختم علي السّباعي مجموعته القصصية بقصة " المدينة" وهي قصة تشابه في تشكيلها المدينة ؛إذ هي شبكة من القصص القصيرة المتوالدة عن بعض في لحمة موضوعية هي المدينة،وبالتحديد حكايا أهل المدينة الذين يجمعهم رابط واحد،وهو الفجيعة التي تأخذهم إلى كلّ أشكال الحزن والألم؛ففي قصة "الصّراخ" نجد الفجيعة قد ارتدت رداء الكوميديا السّوداء التي تعدّ كفاية اجتماعية تمثّل كيفية تعبير الإنسان عن مشاعره(39) ،فهي مركّب من القبول والرفض لهذا العالم(40) الذي يستجيب فيه كلّ إنسان وفقاً لسجله العاطفي الإيجابي والسلبي، ضمن بنية لغوية متماسكة " تفرز السخرية والمرارة في آن "(41)؛ فالمتسولون الذين يطلبون الصّدقات من المارة،لا يطلبونها بالطريقة الاعتيادية بما فيها من ذلّ واستجداء وإلحاح،بل يستخدمون عبارات صريحة تعرّي حقيقة من يسألونهم الصّدقات،فيقولون:" لله يا سماسرة... لله يا سماسرة، وحدة شفيعكم يا سماسرة"(42).و" من كروشكم المباركة تصدقوا بلقمة على جائعة... لله يا أصحاب الكروش المباركة... الله!"(43)
وتتكرّر هذه الكوميديا السّوداء في قصة" الأكفان " إذ نجد الأغنياء يتنافسون في مزاد علني على شراء أكفان لهم ومن أجود أنواع الأقمشة،وبأغلى الأثمان،ومسوّغهم في ذلك أنّهم يريدون أن يذهبوا إلى "جهنم بأبهى كفن"(44)والمنادي ينادي على بضاعته بكلّ صراحة قائلاً:" أكفان، أكفان للمزاد من يزايد؟ أكفان للسماسرة بتشكيلات متعددة!!"(45)

 

فقد وصل أولئك الأغنياء اللصوص إلى حدّ مأساوي من اللامبالاة بمصيرهم الدنيوي أو الآخروي ماداموا يحصلون على أعزّ غاياتهم،وهو المال،وجهلوا أنّهم يعيشون في مشهد فاجع من اختصار إنسانيتهم ووجودهم في فعل جمع المال،ولا شيء غير المال،وانحازوا ضدّ كلّّ الأشياء الجميلة،بل ضدّ غاية وجودهم،وجوهر كينونتهم لأجل هدفهم الوحيد المشترك،وهو جمع المال،ولو أوصلهم ذلك إلى جهنم التي يشترون استعداداً لدخولها أكفاناً باهظة الثمن!
ويبلغ علي السباعي مبتغاه في السّخرية في قصة" الرّاية" عندما يحرّض أبطال قصته من متسولين وفقراء ومنكودين على أن يحاولوا أن يبحثوا عن حظّهم الغائب في جيوب السّحرة والمشعوذين،فيجدون حظهم الغائب مسروقاً،ومدفوناً في جيوب السّماسرة" الحظ... الحظ موجود في كروش السماسرة!!؟(46)

 

وفي قصة " الطعنة"تتجلّى الفجيعة في حادث مأساوي إذ يقتل الابن أباه في عشية استقبال شهر رمضان؛وذلك لأنّه اشترى الخمر بالمال الذي وفّرته العائلة بشقّ الأنفس بعد أن باعت جزءاً من أغطيتها الشّتويّة من أجل أن تؤمّن بعضاً من احتياجاتها من أرز وبقوليات وسكر،وبذلك ترك الأسرة الفقيرة التي لا معيل لها بعد أن غرق الزّوج في عالم السّكر والعربدة دون طعام أو أغطية شتاء! فحق عليه في عُرف الفجيعة والحاجة والفقر أن يُقتل على يديّ ابنه الذي ذاق ذرعاً بجوعه وبجوع أسرته،وباستهتار أبيه.وما بالى النّاس كثيراً بهذا الحادث الفاجع،وشرعوا ينتظرون شهر رمضان،وكأنّهم ألفوا الفجيعة،واعتادوا مفاجآتها،وما عادوا يبالون بصروفها ونوائبها. 
فعلي السباعي في هذه المجموعة القصصيّة ينحاز علانيّة إلى الإنسانيّة في كل ملامح تجربتها،ولذلك فهو ينحاز إلى الإنسان الذي يعايشه في حياته اليومية،ويرصد مفردات حاجاته ورغباته ومعاناته وانكساراته وخيبات أمله،كما يتوقّف مليّاً عند فجيعته المكرورة في تفاصيل سيرته اليومية،وهي فجيعة تشكّل في الغالب حياته وسلوكه وردود أفعاله وأحاسيسه ومشاعره،كما تشكّل بكلّ صدق صراعه مع الحرمان ،وانهزامه أمام معطيات حياته.

 

وهو ينقل لنا الفجيعة كما يراها ويدركها ويفهمها؛ولذلك فهي تأخذ الكثير من الأشكال وفق مفهومه،وزوايا نظره.فتارة نراها فجيعة واقعية مؤسفة،وتارة أخرى نراها فجيعة في ثوب فنتازي مغرق في الدهشة والإلغاز،وتارة ثالثة نراها مقدّمة في شبكة معقدّة من التكثيف والترميز الذي يتحايل على الإنسان حتى في لحظات صفوه وضحكه ،ويتسلل إلى قهقاته،ويسلبها لونها وطعمها وصوتها،ليهبها بدلاً منه سوداويته المفرطة في الكآبة والإحباط.
علي السّباعي-باختصار- يرى الإنسان في هذه المجموعة من زاوية الفجيعة؛فهي في رأيه- على ما يبدو- نافذة حقيقية على جوانيات الإنسان فضلاً عن برانياته،إلى جانب أنّها تُعدّ مساحة مكشوفة دون أسوار أمام من يريد أن يواجه الواقع دون عمليات تجميل لملامحه- أعني الواقع- القبيحة التي لا تعرف إلاّ التبرّم الدّائم في وجه البشر المنكودين الذي يزدادون عدداً وعذاباً ومعاناة في الأرض بسبب انخفاض مستوى الإنسانيّة في إخوانهم العاقّين من البشر !!

 

الهوامش:
 

* د. سناء الشعلان، أديبة وناقدة أردنية ومراسلة صحفية لبعض المجلات العربية، تعمل أستاذة في الجامعة الأردنية،حاصلة على درجة الدكتوراة في الأدب الحديث ونقده،عضو في كثير من المحافل الأدبية مثل رابطة الكتّاب الأردنيّين،و اتّحاد الكتّاب،وجمعية النقاد الأردنيين،وجمعية المترجمين الدوليين وغيرها.حاصلة على نحو46 جائزة دولية وعربية ومحلية في حقول الرواية والقصة القصيرة والمسرح وأدب الأطفال.وحاصلة على درع الأستاذ الجامعي المتميز في الجامعة الأردنية للعامين 2007 و2008 على التوالي.ولها 36 مؤلفاً منشوراً بين كتاب نقدي متخصص ورواية ومجموعة قصصية وقصة أطفال،فضلاً عن الكثير من الأعمدة الثابتة في كثير من الصحف والدوريات المحلية والعربية،وشريكةٌ في كثير من المشاريع العربية الثقافية.ترجمت أعمالها إلى كثير من اللغات.
 

(1) انظر المفارقة:نبيلة إبراهيم ،مجلة فصول،المفارقة في القصّ العربي المعاصر،مج2،ع2،ص57.
(2)علي السباعي: إيقاعات الزّمن الراقص،ط1،اتحاد الكتاب العرب،دمشق،سوريا،2002،ص13.
(3) نفسه:ص14.
(4) جنس الغريب أو الغرائبيّ يكون إذا قرّر القارئ أنّ قوانين الواقع /الطبيعة تظلّ سليمة،وتسمح بتفسير الظواهر الموصوفة،ولكنّه أمام حالة غير مألوفة. والغرائبيّ ليس جنساً واضح الحدود،وبتعبير أدق إنّه ليس محدوداً إلاّ من جانب واحد،وهو التفسير على وفق معطيات عالمنا الحقيقي. فالغرائبيّ يتنوع، وينهض الفهم الخاص والمعارف المشتركة، والثقافة الخاصة، والزمن، والمكان، والحالة النفسية، والإحالات الذاتية بدور في تقييمه ورسم خطوطه وأبعاده. انظر المزيد عن الغرائبي: سناء شعلان:السّرد الغرائبي والعجائبي،ط2،نادي الجسرة الثقافي والاجتماعي،قطر،2006،ص61؛ تزفيتان تودوروف- مدخل إلى الأدب العجائبي، ترجمة الصديق بوعلام، ط1، دار شرقيات، القاهرة، 1994،ص 49؛ لطيف زيتوني- معجم مصطلحات نقد الرواية، ط1، مكتبة لبنان ودار النهار، بيروت، 2002،ص87.
(5) علي السباعي: إيقاعات الزمن الراقص،ص14.
(6) نفسه:ص 16.
(7)نفسه:ص18.
(8) نفسه:ص20.
(9)نفسه:ص20.
(10)نفسه:ص24.
(11) نفسه:ص 25.
(12)نفسه:ص 27.
(13) نفسه:ص27.
(14) نفسه:ص28.
(15)نفسه:29.
(16) انظر المفارقة العكسية: نبيلة إبراهيم،مجلة فصول،المفارقة في القصّ العربي المعاصر،مج2،ع2،ص57.
(17) علي السباعي: إيقاعات الزمن الراقص،ص34.
(18)فجنس العجيب أو العجائبيّ : يتحدّد إذا قرّر القارئ أنّه ينبغي قبول قوانين جديدة للطبيعة، يمكن تفسير الظواهر بها .انظر المزيد: سناء شعلان:السّرد الغرائبي والعجائبي،ص15-63؛ تزفيتان تودوروف- مدخل إلى الأدب العجائبي، ص 49؛ لطيف زيتوني- معجم مصطلحات نقد الرواية،ص87.
(19) علي السباعي: إيقاعات الزمن الراقص،ص33.
(20) نفس:ص34.
(21) انظر الفصام عند سيجموند فرويد: محاضرات تمهيدية في التحليل النفسي، ترجمة عزت راجح، مكتبة مصر، الاهرة، -195؛فرج عبد القادر طه:موسوعة علم النفس والتحليل النفسي،ط2،دار غريب،القاهرة،2003.
(22) علي السباعي: إيقاعات الزمن الراقص،ص43.
(23) نفسه:ص44.
(24) نفسه:ص46.
(25) نفسه:ص48.
(26) نفسه:ص48.
(27) نفسه:ص50.
(28) نفسه:ص54.
(29)نفسه:ص54.
(30) نفسه:ص55.
(31) نفسه:ص65.
(32) نفسه:ص72.
(33) نفسه:ص71.
(34)نفسه:ص72.
(35) نفسه:ص74.
(36) نفسه:ص 78.
(37)نفسه:ص 83.
(38)نفسه:ص94.
(39) دانييل جولمان:الذكاء العاطفي، ترجمة ليلى الجبالي، ط1، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، 2000،ص307.
(40) نفسه:ص166. 
(41) زكريا إبراهيم:سيكولوجية الفكاهة والضحك، ط1، مكتبة مصر، القاهرة، -196،ص88.
(42) نفسه:ص108.
(43) نفسه:ص108.
(44)نفسه:ص114.
(45) نفسه:ص114.
(46) نفسه:ص115.

 

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
اختيارات القراء
  • اليوم
  • الأسبوع
  • الشهر
  • الأكثر قراءة
  • الأكثر تعليقاً