الأحد 22 سبتمبر 2024 آخر تحديث: السبت 14 سبتمبر 2024
عرض كتاب "عدن في عيون الكتاب والشعراء" (من العصر الجاهلي حتى العصر الحديث) للأستاذ الدكتور أحمد علي الهمداني - د.عبدالحكيم باقيس
الساعة 12:11 (الرأي برس (خاص) - أدب وثقافة)

 


عدن مدينة عتيقة استقطبت العشاق والمريدين والغزاة والأعداء، على حدٍّ سواء، يعود تاريخها إلى قرون عديدة قبل الهجرة، وربما إلى ما قبل الميلاد، وتختلط بتاريخها الأساطير، والحكايات العجيبة والأخبار الغريبة، والتي تعود إلى قصة هابيل وقابيل، هي منتهى اليمن، كما يصفها بعض الرحالة القدامى، وهي فُرضة جزيرة العرب، والمدينة الميناء الكُوزمُوبُوليِتيَّة ملتقى الأجناس والأعراق، والثقافات والمعتقدات، ومدينة التعايش الحضاري في النصف الأول من القرن الماضي. تعاقب على منازعة أهلها الحكام الغزاة الأجانب والمحليون، والوطنيون والانتهازيون، ومرَّ فوق ترابها العابرون، فمنهم من أحبها، ومنهم من تفانى في بغضها، ومرّ بها التجار والسواح والمغامرون، والرحالة والكتاب والشعراء، وكل واحد نظر إليها في أثناء ذلك من زاوية، وإن أجمع أكثرهم على محبتها، والإشادة بمحاسنها، وطيب كرم أهلها الأوائل، في البذل لكل سائل، ما دفع بأصحاب الإنشاء إلى التغني بذكرها، والتأمل في سحرها.. وكانت لهم نظرات، غصت ببعضها العبرات.
 

 

قال أحد الشعراء القدامى:
 

تقول عيسى، وقــــد وافيت مبتـــهلاً
لحجًا، وبانت ذرى الأعلام من عدن
أمنتهى الأرض ـ يا هذا ـ تريد بنا؟!
فقلت: كلا، ولكـن منتـهى اليمـــــن.

 

وقال عمر بن أبي ربيعة:
 

هيهات من أَمَة الوهاب منزلنا
إذا حللنا بسيف البحر من عدن
واحتلَّ أهلُكِ أجيادًا، فليس لنا
إلا التَّذكُّرُ، أو حظٌ من الحّزّن

 

عدن مادة عذبة سخية ممتعة لكتاب موسوعي بعنوان (عدن في عيون الكتاب والشعراء من العصر الجاهلي حتى العصر الحديث) للدكتور أحمد علي الهمداني صدر هذا العام في طبعته الثانية، بعد صدور طبعته الأولى عن دار جامعة عدن للنشر في 2005 بعنوان (عدن في عيون الشعراء) ويحاول هذا الكتاب المحتفي بعدن واسمها أن يطوف في ديوان الشعر العربي قديمه وحديثه بحثًا عن تجليات مدينة عدن، منذ العصر الجاهلي عند شعراء كالأعشى واليشكري، وشعراء العصر الإسلامي مثل عمر بن أبي ربيعة والفرزدق، وعباسيين مثل السيد الحميري وأبي الطيب المتنبي، وهكذا في رحلة عبر تاريخ الشعر العربي حتى يصل إلى العصر الحديث، وتبرز تجليات جديدة للمدينة عدن في قصائد ديوان الشعر العربي الحديث، وتتخذ صورًا متعددة، وأبعادًا رمزية، "ومن المهم الإشارة إلى أن هذه القصائد المكتوبة عن عدن تعبر عن مواقف متقاربة أو مختلفة لشعراء من مختلف المراحل والعقود، يحاولون الإفصاح عن اتجاهاتهم في استيعاب المدينة وأهلها في شيء من التأمل الصادق، والتعبير المبدع، والإنشاء الخلاق، إذ إن عدن أحمد علي الهمداني تختلف عن عدن سعدي يوسف، وعدن إبراهيم نصر الله أو سليمان العيسى، وعدن هؤلاء تختلف عن عدن أبي بكر العبدي الأبيني، لقد رسم كل واحد من هؤلاء أو من غيرهم نموذجه الخاص، ومثاله الكامن في داخله، وأفصح عن علاقة خاصة تربطه بهذه المدينة من هذه الناحية أو تلك.. ومن هنا يقدم بعض الشعراء صورة درامية تراجيدية عن عدن، وبعضهم الآخر يكشف عن لوحة رومانسية فائقة الجمال والإبداع، وبعضهم يمزج بين هذا وذاك، إذ قد يبدو أن الأوضاع السياسية والأحوال الاجتماعية أو غيرها هي التي تصبغ هذه الصور المختلفة بألوانها المتعددة والمتباينة أحيانًا أو في كل الأوقات. غير أن عدن تظل محبوبة الجميع ومعشوقة الكل، بما فيهم أولئك الذين عانوا الأمرين داخلها، أو أولئك الذين حاولوا إيذاءها عن عمد أو من غير عمد في وقت من الأوقات".
 

جاء الكتاب في جزئين (قسمين): الجزء الأول ويحتل ثلث الكتاب، في نحو 250 صفحة، وقد تضمن إلى جانب المقدمة التي كتبها محرر الكتاب الدكتور أحمد علي الهمداني، الدراسات والمقالات، وهي سبع دراسات: الأولى (ثغر اليمن في الأدب للدكتور جعفر الظفاري) والثانية (الدُّر المنثور عن عدن من الكلام العربي المأثور للدكتور محمد كريم إبراهيم) والثالثة (عدن لوليم هارولد إنجرامز، وهي جزء من محاضرة عنوانها (الجنوب العربي كما أراه، وكما أودُّ له أن يكون، ألقاها إنجرامز في الجمعية الأسيوية الملكية في 1945) والرابعة (منتهى اليمن لعبدالكريم الحنكي) والخامسة (أهمية عدن التاريخية للدكتور شايف عبده سعيد)، أما السادسة (عدن بين الريادتين: الزمنية والإبداعية) والسابعة (الحركة الثقافية والأدبية في عدن، بعض الحقائق والتفاصيل) فهما لمحرر الكتاب الدكتور أحمد علي الهمداني، وبالتأكيد أن المقالات والدراسات التي تناولت عدن هي أضعاف هذا العدد، مما لا يمكن أن يضمها كتاب واحد، ويبدو أن هذه الدراسات قد جاءت بين يدي هذا السفر الكبير من القصائد والمقطوعات الشعرية، بالإضافة لكون جل هذه الدراسات هي للقائمين على فكرة هذه الموسوعة الشعرية، فقد ذكر المحرر أن فكرة جمع القصائد التي ذكرت فيها عدن في كتاب قد تشكلت منذ عام 2004، وتشكل فريق العمل آنذاك من الدكتور أحمد علي الهمداني، والدكتور جعفر الظفاري، والدكتور محمد كريم إبراهيم الشمري، وعبدالكريم الحنكي.
 

في الجزء الثاني من الكتاب ويشمل القصائد، وجاء في ثلاثة أقسام، الأول: الشعر البيتي (الشطري) أو عدن في القديم والوسيط، وقد جاء الشعراء في هذا القسم بحسب ترتيبهم من الناحية الزمنية ـ بينما في القسمين الثاني والثالث سيذكر الشعراء بحسب الترتيب الألف بائي لأسماء الشعراء ـ وعددهم واحد وثلاثون شاعرًا، ولم يميز بين شعراء المقطوعات أو القصائد التي جاء فيها ذكر عدن، أولهم أبو المشمرخ اليشكري وهو شاعر جاهلي، وآخرهم أحمد بن حسين المفتي، وهو من شعراء القرن الثالث عشر الهجري، وأغلب الظن أن عدد القصائد والشعراء الذين ذكروا مدينة عدن أكثر من ذلك، وهذا ما تنبه إليه محرر الكتاب ذاكرًا أن مهمة البحث عن النصوص الشعرية القديمة والوسيطة لا تزال مستمرة، وربما تتضمنها طبعات قادمة من الكتاب.
 

والقسم الثاني للشعر البيتي (الشطري) بعنوان عدن في الشعر الحديث والمعاصر، وذكر فيه أكثر من أربعين من الشعراء العموديين، من مختلف المدارس والاتجاهات الشعرية، وحافل هذا القسم بقصائد لكبار الشعراء العرب من أمثال: أحمد شوقي وحافظ إبراهيم ومحمد مهدي الجواهري وعبدالله البردوني وعلي أحمد باكثير وعلي محمد لقمان وأحمد فضل القمندان ومحمد سالم البيحاني ومحمد عبده غانم ولطفي جعفر أمان وحسين بن محمد البار، وعبدالله هادي سبيت، وأحمد علي الهمداني وغيرهم، ومن طريف هذا القسم القصيدة التي قالها أمير الشعراء أحمد شوقي في رثاء سيف الإسلام محمد بن يحيى حميد الدين، الذي توفي غريقًا في بحر الحديدة في أثناء محاولته إنقاذ أحد أفراد حاشيته، وقد جاء ذكر هذه القصة في مذكرات تقية بنت الإمام يحيى حميد الدين (يتيمة الأحزان من حوادث الزمان)، وقد جاء ذكر عدن في معرض ذلك الرثاء الرقيق الذي قاله أمير الشعراء:
 

وباتت بصنعاء تبكي السيوف
عليـــه وتبكي القنــا في عدن

 

ويثبت الدكتور أحمد علي الهمداني ثلاث قصائد من عدنياته:
وطني هـــواك يعيث في أنحائي
ويهيج من شجوي ومن برحائي
وهي قصيدة بديعة طويلة، كتبها وفق التاريخ المذيل في آخرها في القرم في الاتحاد السوفيتي آنذاك، في 27 نوفمبر 1979.

 

وقصيدة أخرى تسيل عذوبة ورقة وتصويرًا بعنوان (عدن الهوى):
عدن الهوى لا أستطيب سواها
أجريت نهر الحبِّ في مجراها

 

ومن بدائع القصائد في هذا القسم قصيدة أحمد فضل القمندان:
إذا رأيت على شـمســــان من عـــدن
تاجًا من المزن يروي المحل في تُبن
قل للشـــبيبــــة نبغـــي هكــــذا لـــكم
تاجًا من العلم يمحو الجهـل في اليمن

 

في القسم الثالث تأتي القصائد السطرية، أو عدن في الشعر الحديث والمعاصر، وفي هذا القسم تحتشد النصوص الشعرية لشعراء من اليمن ومن الشعراء العرب، من أمثال محمود درويش وسميح القاسم وسعدي يوسف وسليمان العيسى وعلي حداد ومبارك حسن الخليفة، وإبراهيم نصر الله، ومن أجيال الحداثة الشعرية في اليمن: عبدالعزيز المقالح وشوقي شفيق ومحمد حسين هيثم وعبدالرحمن إبراهيم وسلطان الصريمي وعبدالرحمن السقاف وغيرهم، وتحتل عدن المكان والرؤية والرمز والتوظيف أهمية خاصة في ديوان شعراء الحداثة، يقول الشاعر اليمني الكبير عبدالعزيز المقالح في قصيدة

(عدن.. ودونكيشوت):
 

كم مرَّ من هنا مخبول
كم دق في حدودها الطبول
وعاد خائبًا يبكي خياله المهزوم
يبكي انتصاره المهزوم
تناثرت..
تمزقت طبوله تحت حوافر الخيول
وقبل أن تبدأ لحظة الهجوم
كان غريقًا يشرب الدماء والوحول

 

ويقول الشاعر الفلسطيني محمود درويش في (ذهبنا إلى عدن):
ذهبنا إلى عدن قبل أحلامنا، فوجدنا القمر
يضيء جناح الغراب.. التفتنا إلى البحر، قلنا: لمن
لمن يرفع البحر أجراسه، ألنسمع إيقاعنا المنتظر ؟!.

 

وأختم اختياراتي الشعرية هنا بمقطع من قصيدة الشاعر العراقي علي حداد (عشرة بحار.. وعدن واحدة):
 

عدن
ملتقى الماء والحلم الغض
والأحاديث طازجة، مثل أسمكها
والأغاني التي فلق البحر حبتها بالمباهج
ما مشى الضوء إلا ليغمرها بالقبل
ما تناهى إلى حضنها الليل
إلا ليندس في شعرها عطر فُل
ما تسامى للألاء قامتها طائر ونزل
ما تذوق عاشقها تين أسرارها ورحل.

 

بقيت الإشارة إلى أن هذا الكتاب يقدم متعة فريدة في الاحتفاء بالمدينة والشعر، وتأتي أهميته في موضوعه والجهد الكبير الذي بذل في جمع مادته من مختلف المصادر، وتضفي عدن عليه معنى خاص، وستبقى عدن مادة شعرية ملهمة للشعراء، والكتاب والفنانين، وهي كذلك الفضاء السردي الذي يمد مخيال الروائيين والقصاص بمادة سردية قابلة للتشكيل، وقد كتبت بحثًا منذ نحو عشر سنوات توقفت فيه عند عدن في الخطاب الروائي، بعنوان (عدن مدينة التحولات في السرد الروائي) ونشر ضمن كتابي (ثمانون عامًا من الرواية في اليمن).
 

وستبقى عدن مادة شعرية أو روائية غير مكتوبة، يرتادها المبدعون والكتاب والنقاد، ولن يستطيع أحدهم الغوص في لجة بحرها العميق، أو تاريخها التليد...
الكتاب: عدن في عيون الكتاب والشعراء 
من العصر الجاهلي حتى العصر الحديث.
تحرير وتقديم: أ.د. أحمد علي الهمداني
مراجعة وقراءة: د. سالم عبدالرب السلفي
الطبعة الثانية 2015
الناشر: دار الوفاق للدراسات والنشر ـ عدن
عدد صفحات الكتاب: 706 من القطع الكبير.

 

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
اختيارات القراء
  • اليوم
  • الأسبوع
  • الشهر
  • الأكثر قراءة
  • الأكثر تعليقاً