الأحد 22 سبتمبر 2024 آخر تحديث: السبت 14 سبتمبر 2024
صحراء مضادة يصعب تغييرها - منير عتيبة
الساعة 12:58 (الرأي برس - أدب وثقافة)

 


"صحراء مضادة"، رواية عبد الله السلايمة، الصادرة عن دار الأدهم عام 2012، تحاول الاقتراب بحذر غالبا، واندفاع أحيانا من إحدى المشاكل الكبرى لدى بدو سيناء وهى رفضهم مصاهرة الغرباء، كمدخل إلى المشكلة الأكبر التى تحاول أن تتلمس الرواية طريقها إليها بلباقة.

فالطبيب البدوى الأصل "عارف" المتمرد منذ صغره على تقاليد البدو، والذى قتل الأب بداخله، رغم أن الأب فى الواقع هو الذى رسم له مجرى حياته، يرى مصادفة وهو جالس على مقهى قاهرى حيث يعيش ويعمل بالقاهرة "ضحى" (فتاة ترتدى عباءة سوداء، بدت فضفاضة عليها بعض الشئ، ومتسخة كما لو كانت ترتديها منذ عدة أيام... حالها الذى ذكرنى على الفور ببعض ما مررت به بدورى من أوقات عصيبة، دفعتنى قسوة أبى وعصبيته المفرطتين على مكابدتها) ص5و6. الصدفة التى جعلت الفتاة تمر من أمامه، وإحساسه بتشابه ما بينهما، يدفعه إلى متابعتها، ومن ثم التعرف إليها، اصطحابها إلى بيته، التعرف على حكايتها تدريجيا، حبه لها، ثم خطوبته لها فى ظروف مجنونة.
 

الفتاة بدوية أيضا، ومن العريش، وقد هربت من أهلها لأن جماعة أبيها أى قبيلته صممت على تزويجها برجل أكبر منها سنا رغم رفضها ورفض أبيها نفسه حتى لا تجلب العار لهم وتتزوج من "غريب" مدرسها فى المدرسة الثانوى، لأنه ليس بدويا، هو من الفلاحين الذين ينظر إليهم البدو نظرة استعلاء عنصرية (إذ ترسخ فى أذهانهم أن العالم ينقسم إلى نوعين من البشر، نوع أعلى درجة وأنقى عرقا يمثله البدو حسب تصورهم، أما النوع الآخر فيمثله كل من لا ينتمى إلى جلدتهم على وجه البسيطة!.. ويسمونهم بالفلاحين) ص35.

تسير الرواية فى خطين متوازيين وزمنين متتابعين، الخط الأول هو خط عارف البطل الراوى ويحكى حكاية ماضيه وتمرده على أبيه، ورضوخه له بالتحاقه بكلية الطب كما وعده، (فليس من حقه كبدوى أن يكون فنانا، يلطخ سمعة البداوة، ويلوث شرفها العفيف) ص96. ويحكى حكاية حاضره مع "ضحى" وتذبذب مشاعره تجاهها باعتبارها فتاة غامضة رائعة الجمال مشوهة النفس التقطها من الشارع، وهو لديه هاجس بأنه ضعيف جنسيا، يفكر فى أخذها أكثر من مرة ويتراجع، يحترمها أكثر، ويحبها تدريجيا كلما عرف قصتها. أما الخط الثانى فهو ما تحكيه ضحى أو يحكيه عارف نفسه نيابة عن ضحى، كيف أن أباها أحد المتعلمين القلائل فى القبيلة، وهؤلاء المتعلمون يرفضون التقاليد الجامدة للقبيلة لكنهم لا يستطيعون الوقوف أمامها وإلا جرفتهم لأن الأغلبية تكسب دائما، نرى كيف صمد أبوها أمام قبيلته لينتزع حق تعليمها حتى المرحلة الثانوية، ووعده لها بأن تدخل الجامعة، ورفضه لزواجها من ابن أخيه غير المتعلم، وكيف تعنتت القبيلة، واعتدت على الأب، واختطفتها لتزوجها من رجل عجوز عقابا لها خصوصا بعد أن عرفت القبيلة أن المدرس القادم من المنصورة يريد أن يتزوجها ويلبسهم ثوب العار.

 

أما الزمن الآنى فهو مشبع بهواجس ضحى وخوفها من وعلى أبيها، ورعبها من قبيلتها، وندمها على ما فعلت، واعتزازها بما فعلت فى الوقت نفسه، وعلاقتها بالرجل الغريب الذى استضافها فى بيته من دون أن يعرفها والذى لابد يريد بها شرا، ومحاولاتها العديدة للانتحار فعليا أو فى خيالها.

يلتقى هذا الخطان تدريجيا، وتتادخل الأزمنة، خصوصا الماضى البعيد الذى يقبع فى خلفية أزمنة الرواية ويعمقها، ماضى الأب، والد الطبيب ووالد ضحى، الهجرة من سيناء بعد حرب 1967، الحياة فى "العقبة" لوالد الطبيب، وفى محافظة البحيرة لوالد ضحى، العودة بعد نصر أكتوبر1973، اكتشاف انتهاء الصورة الرومانسية عن المكان والناس معا، فلم يعد المكان هو الصحراء العذراء بعد أن غزتها مدنية الطوب والحجر، ولم يعد الناس هم الأهل المحبون والمتكاتفون بعد أن ملأتهم الأنانية والرغبة فى الثراء. وخلف كل ذلك تأكيد على أن الحياة تتطور من حيث المبانى، والعلاقات الاقتصادية، لكنها جامدة من حيث القيم والتقاليد والعلاقات الاجتماعية، وهذا التناقض هو ما يؤدى إلى مأساة ضحى بالأساس.

 

لم يكن "غريب" جديرا بحب ضحى، ولم يكن والد ضحى ضعيفا، بل كان لديه من القوة النفسية ما يجعله يقبل "التشميس" من أجل ألا تجبره القبيلة على مالا يريد، فتنزع حقه وحق ابنته فى تقرير مصيرها (التشميس فى عرف البادية يعنى تخلى أهل الشخص وجماعته عن حمايته إذا ما تعرض لمشكلة ما... يعنى يتبرؤون منه... لأنه يعد فى نظرهم خارجا على رأيهم وإرادتهم... حتى لو كان رأيهم خاطئا)ص30.

ورغم إعلان التشميس الذى يعنى تخلى القبيلة عن والد ضحى، وسقوط حقها فى الوقت نفسه فى محاسبته، إلا أن كبير القبيلة وحاشيته يعلمون بزيارة عارف لوالد ضحى، ويعرفون مكانها ويحاولون قتلها، لكنها تنجو من القتل.
 

القضية الكبيرة التى يحاول عبد الله السلايمة تلمس الطريق إليها بلباقة فى روايته هى الانفصال بين قيم البدو وقيم الحضر فى واقع الممارسة الفعلية، انفصالا يؤدى إلى أفكار عنصرية تحكم تعامل كل منهما مع الآخر، ورغم أن بعض حاشية زعيم القبيلة يفكرون فى عزله ووضع أحد المتعلمين مكانه فى آخر الرواية، ورغم أن عارف وضحى يجمعهما الحب فى "عين شمس" بالقاهرة، حيث يعود والد ضحى وزوجته القاهرية للحياة فيها مرة أخرى، إلا أن هذه النهاية الروائية تبدو روائية أكثر مما هو واقعية، فالتفكير الأول جاء تحت ضغط خوفهم من الحكومة/ السلطة القوية التى يمكن أن تقبض عليهم بعد أن اتهمتهم ضحى بمحاولة قتلها، وليس نتيجة اقتناع حقيقى بالتغيير، إنه تفكير تحت سلطان الخوف من القمع، وليس تفكير من عرف الحقيقة فذهب إليها، فلو كانت السلطة ضعيفة، أو استطاع زعيم القبيلة تدبر أمره للخروج من المأزق، فلن يفكر أحدهم فى التغيير..

 

وهنا لابد من الإشارة إلى الدور الضعيف جدا للدولة فى هذه المنطقة، ليست دولة السلطة القاهرة، ولكن الدولة التى عليها دفع شعبها إلى التغيير الإيجابى التدريجى باقتناع بأن هذا هو الحق، ليس فقط حق التطور والمدنية والحياة الحديثة، بل هو الحق الذى يتسق مع صحيح الدين والشرع، وليس من القيم القديمة التى تلبست زورا ثوب الدين، كما تؤكد الرواية فى أكثر من موضع. أما المتمردون بداية من والد ضحى، وضحى نفسها، وأمها كقاهرية، وعارف، فأقصى ما يستطيعونه هو قبول التشميس ومغادرة البادية إلى المدينة، العريش مثلا، ومغادرة العريش إذا ضاقت السبل إلى القاهرة، فهذا ليس تغييرا فى القيم بقدر ما هو هروب أشخاص من الوقوع تحت نير هذه القيم.
ولعل الكاتب كان متسقا جدا مع الواقع الذى يؤكد أن التغيير القيمى هو أصعب وأبطأ أنواع التغيير التى تمر بها المجتمعات، لكنه كان حريصا على فتح باب أمل ما باتجاه هذا التغيير.

 

تعامل الكاتب مع هذه القضية بشكل يمكن أن نقول إنه (من بعيد) وهو ما يتسق مع طبيعة شخصياته وأفكارها، فنجد أن البدو وزعيمهم يصورون بصورة نمطية من خلال ذهنية المتمردين عليهم، هم لا يتحدثون بأنفسهم عن أفكارهم ومشاعرهم، وهو ما يؤكد أن ما يحاول الكاتب الحديث عنه له من الصلابة والقدسية ما يصعب اختراقه ويجب التعامل معه بحذر، خصوصا أن الكاتب نفسه والذى تتماهى شخصيته مع الراوى الطبيب؛ بدوى الأصل.

 

والعنصرية التى تشير إليها الرواية تفتح باب الرؤية للتعامل الواقعى مع عالم/وطن تنضح علاقاته الاجتماعية والسياسية والاقتصادية بالعنصرية، البدوى والفلاحين، المدينة والقرية، المسلم والمسيحى، رأس المال والعامل، الرجل والمرأة، الكبار والشباب، إلى آخر تلك الثنائيات التى لا تفكر إحداها فى مد يد التواصل إلى الأخرى، بل تتقوقع على نفسها، معلية من شأن نفسها، ومستعلية على الأخرى، والغريب أن الجميع يستخدمون نفس الآليات تقريبا للوصول إلى نفس النتائج التى تجعل منهم جزرا متباعدة جدا وغير صديقة فى الغالب.

 

تحكى الرواية على لسان عارف الذى يفسح المجال أحيانا لضحى لتحكى بعض قصتها الخاصة، لأنه حريص على حكاية قصتهما معا، أو حكاية قصتها باعتبارها جزء من قصته هو، وهو ما أدى أحيانا إلى تداخل فى ضمائر الحكى، ينقذ الكاتب منها عمله بأن يقول عارف (كما عرفت فيما بعد) لكنه أحيانا يتركها كما هى، كما فى ص 102 حيث يقفز فجاة الراوى العليم ليكمل الحكى فى فقرة واحدة، بعد أن كان عارف هو الذى يروى، وبعد هذه الفقرة يعود عارف لاستكمال الحكى، ودخول الراوى العليم هنا لم يكن له ما يبرره، كما أنه لو لم يتم إيراد جزء كبير من قصة ضحى من خلال فلتر عارف وجاء على لسان ضحى نفسها كان سيعطى العمل حيوية وعمقا أكبر، بحيث يكتمل توازى الخطوط الروائية حتى تصل إلى التلاقى والاندماج فى النهاية.

منقولة من بوابة الأهرام..

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
اختيارات القراء
  • اليوم
  • الأسبوع
  • الشهر
  • الأكثر قراءة
  • الأكثر تعليقاً