الثلاثاء 24 سبتمبر 2024 آخر تحديث: السبت 14 سبتمبر 2024
عيد سند - عبدالله الإرياني
الساعة 18:54 (الرأي برس (خاص) - أدب وثقافة)


بلغت ((تقية)) ثمانين عاما؛ إلا أنها بكامل صحتها الذهنية والجسمية؛ تنهض من جلستها نهوض امرأة في الستين. تعيش مع زوجها الثري في بيت فسيح من دورين وبدروم، ومعها ثلاثة من أولادها المتزوجين والمنجبين؛ ولأن شخصيتها قوية فأنهم يعيشون بسلام. ونظامها في العيد لم يتغير منذ ثلاثين عاما؛ كل شيء معد في أول أيام العيد لاستقبال زوار كثر: مبخرة وقارورة عطر منصوبتان على طاولة جوار باب غرفة استقبال فسيحة، أطباق الحلوى، وكعك، ممنوع شراءه من السوق، موزعة على طولها وعرضها؛ جالسة في الصدر من الغرفة، وعلى يمينها، تحت مخدة صغيرة، كانت قد وضعت أوراق نقود جديدة فئة (مائة) ريـال، وبدلا من مأتي ريـال كانت تناولها لكل طفل قررت في هذا العيد ان يكون (300) ريـــال؛ رسالة للزائرين بأنها لن ترضى بأقل من مبلغ معروف ومتعارف عليه، وإن خالف أحدهم فسيعود إلى رشده في العيد القادم.
تبادر في مناولة الأطفال المصاحبين لقريبهم؛ إلا أن أحدهم، ونيابة عن أخوته الاثنين، قال:
- ومنلكم جديد، وما ذي نحصل هذا العيد إلا قديم، وعاد أكثره مشطط.
نهره والده بنبرة حادة مستحية:
- عيب، وأنت ما أليك.
ردت تقية بنبرة أحد:
- ما عيب إلا أنت، يا ولد اختي، إذا ما ديت مثلها جديد.
ناكسا، محرجا، متمنيا ان تبلعه الأرض؛ مترددا في أن يناولها ما أستعد به داخل جيب معطفه: ألف ريــال من فئة المائة ريــال، وقديمة حد التلف؛ إلا أنها سليمة من قطع، أو لاصق يحفظ سلامتها؛ حريصا على أن يكون أنظف ما عنده لخالته ((تقية))، بدلا عن (3000) ريــــال أعتاد أن يناولها في العشر السنوات الأخيرة؛ بيد أن ما لابد منه قد حدث؛ مناولا خالته. لمحتها بطرف عينها، ثم تناولت سلة صغيرة من على يمنيها، جديدها في هذا العام، قائلة:
- ضعها هنا. 
وضعها مبتسما، ابتسامة تناولها حتى ولو كانت سلة؛ وهي محدقة في ورقات عشر، تساقطت على سلة ضمت قبلها وريقات أتلف، أقرب إلى الموت من أمل في الحياة؛ لحظات ثم قالت:
- ليش يا بني تستخف مثلهم بخالتك شقيقة أمك.
- لا والله هم يا خالتي صرفوا لنا مرتباتنا هكذا، والحمد لله أحسن من غيرنا ذي ما صرفوا لهم.
رمقته بنظرة ساخرة، ثم قالت:
- حامدين شاكرين طول عمركم لا ما وصلوكم إلى أبو (100) تالفة.. ههه شلوكم.
عادت عينها إلى سلة التالف؛ لحظات ثم قالت:
- وكم المبلغ.
- ...
- رد يا ولد اختي عادك بزيت من ضرعي.
أردفت بنبرة حادة:
- رد...!
- ألف ريـــال.
- فأنت على ما قالوا أحمر عين.
- قد اقتلبت يا خالتي.
- كيف...!
- قدهن لون ثاني... أسأليه قالوا قلبهن.
مدركة من يعني؛ إلا أنها المتجاهلة.. قالت:
- خلاص بز حقك وأعمل لي بالثلاث الأف سند مثل ما قال الو.. الو أو أيش اسمه يا عيالي؟
- الواتس أب
- أيييييوه الواتس أب.
واقفا، ثم قال ناكسا:
- قد لا أفي بالعهد والسند.
- قد سند قبلك ثلاثة، وعيحلها الله للعيد القادم.. هيا سند.
أرادت أن تأخذ حقها ولو كان ورقة مكتوبة؛ لا تحتاج إلى نقودهم؛ لكنها محتاجة لحق متوارث ولو كان معنويا؛ ومنتظرة أن تقول للقريبات والقريبين منها:
( مساكين اكتفيت منهم بسند.)
وهو أخذها بحساسية مفرطة؛ أرادوا من سند أن يكون نكتة متداولة تعبيرا عن واقع الحال؛ وخالته أرادته وثيقة لها. و((تقية)) ترمقه بنظرة مترددة بين الشك واليقين؛ لحظات ثم قالت:
- أيش قلت، واقف متنكس مثل يوم كنت جاهل.
لمحها بطرف عينه، عادت من جلس على حضنها ورضع من ثدييها، بعدها ضج بالبكاء. رمت السلة في الهواء؛ تناثرت أوراق تالفة...! على أرضية غرفة حديثة؛ تدافع أطفاله الثلاثة لالتقاطها، وهي مدفوعة إليه؛ تضمه إلى صدرها؛ تبكي معه.

 

سبتمبر 2016

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
اختيارات القراء
  • اليوم
  • الأسبوع
  • الشهر
  • الأكثر قراءة
  • الأكثر تعليقاً