الأحد 22 سبتمبر 2024 آخر تحديث: السبت 14 سبتمبر 2024
الحياة العامة والخاصة في حضرموت في القرن التاسع عشر - مسعودعمشوش
الساعة 14:39 (الرأي برس (خاص) - أدب وثقافة)

 

 


(1) ملامح المدن والمباني: (ترجمة لم تُنشر بعد)
 

فان دن بيرخ وتقديم حضرموت عام 1886 بواسطة طرف ثاني
لأسباب عدة، ليس أقلها أهمية الجوانب الأمنية، التي جعلت إقامة الرحالة والعلماء ورجال الاستخبارات الغربيين في كثير من بلدان الشرق أمراً محفوفاً بالخطر، بات الاستشراق المعاصر يوظف أكبر عدد ممكن من أبناء الشرق نفسه للكتابة عن بلدانهم ورفد المؤسسات الغربية، العلمية والاستخباراتية ومنتسبيها، بشتى أنواع المعلومات، وذلك من خلال الدفع المباشر، أو تمويل الأبحاث، أو تحت مسمى دعم بعض المراكز والمؤسسات البحثية المحلية.

 

وفي الحقيقة، اعتماد الأجانب على المعلومات المستقاة من السكان المحليين يعدُّ ظاهرةً قديمةً نوعاً ما؛ فكثيرٌ من كبار مستشرقي القرن التاسع عشر اعتمدوا على معلومات مقدمة من طرف ثاني في كتاباتهم عن الشرق أكثر من اعتمادهم على البحث الميداني، أو الاحتكاك الفعلي بالسكان المحليين بشكل عام. فعدد من الباحثين الأجانب يكتفون، خلال نزولهم الميداني، بالتواصل مع المخبرين والعلماء والموثقين المحليين للاستفادة مما لديهم من معلومات شبه جاهزة. وبالنسبة لحضرموت، تحديدا، هذا ما فعله الكونت السويدي لاندبيرج، وروبيرت سرجانت الذي ارتكزت معظم دراساته على كراسات رحيّم، أو وليندا بوكسبرجر مع المؤرخ جعفر السقاف والمؤرخ عبد القادر الصبان وغيرهما.
ومن أبرز المستشرقين الذين كتبوا عن حضرموت اعتمادا على معلومات مستقاة من طرف ثاني: المستشرق الهولندي فان دن بيرخ الذي كلفه الحاكم العام لجزر الهند الهولندية في باتافيا [جاكرتا حاليا]، سنة 1881، بإعداد دراسة مفصلة عن العرب المقيمين في الأرخبيل الهندي. وفي سنة 1886، قام بيرخ بنشر نتائج دراسته في كتاب وضعه باللغة الفرنسية وأسماه (حضرموت والمستعمرات العربية في الأرخبيل الهندي). وعلى الرغم من أن فان دن بيرخ لم يزر أبدا حضرموت فقد كرس الجزء الأول من كتابه (حضرموت الموطن الأول لعرب الأرخبيل الهندي) لوصف حضرموت التي كانت حينئذ لا تزال تعد إحدى المناطق المجهولة في شبه الجزيرة العربية بالنسبة للأوروبيين. وقد قام المؤلف بجمع معلومات كثيرة عن حضرموت من عدد من المهاجرين الحضارم في باتافيا ومدن الأرخبيل الهندي الأخرى في نهاية القرن التاسع عشر بطريقة منهجية قام بشرحها في مقدمة كتابه، وذكر أن أبرز مخبريه كانوا: عبد الله بن حسن بابعير والسيد عثمان بن يحيى. وقد ظل ذلك الجزء من الكتاب لفترة طويلة المرجع الوحيد عن حضرموت، واعتمد معظم الرحالة الذين زاروا حضرموت في تلك الفترة على ما جاء فيه، كما استخدمه الضابط البريطاني هارولد انجرامس بشكل واسع عند وضع تقريره عن حضرموت سنة 1934.

 

 

أما القسم الثاني من الكتاب، (الحضارم في الأرخبيل الهندي)، الذي يتضمن كثيرا من المعلومات المتعلقة بنشأة المستوطنات والسلطنات والجاليات العربية في الأرخبيل الهندي، وحياة المهاجرين الحضارم والمولدين في إندونيسيا وسنغافورة، وطباعهم، ومصادر دخلهم، ومواقفهم وتطلعاتهم السياسية، وتأثيرهم الاقتصادي والسياسي والاجتماعي والديني في بقية السكان، واندماجهم وسط السكان المحليين، ولغتهم، فيعد اليوم أهم مرجع للقيام بأي دراسة اثنولوجية اجتماعية أو تاريخية للعرب الحضارم في اندونيسيا. وقد قمنا بنشر ترجمة كاملة له في كتابنا (الحضارم في الأرخبيل الهندي).
 

وتكمن الأهمية البالغة لكتاب فان دن بيرخ، بأقسامه المختلفة، في كونه يحتوي على تقديم شامل لأهم المحاور التي جذبت انتباه الأجانب في حضرموت، وركز على دراستها معظم الرحالة والمستكشفين الذين زاروا حضرموت منذ نهاية القرن التاسع وحتى اليوم، وهي: التركيبة الاجتماعية التقليدية في حضرموت، والفن المعماري الذي تتميز به كثير من مدن وقرى حضرموت، وظاهرة الهجرة الحضرمية ودورها في خلخلة البنية الاجتماعية التقليدية في حضرموت وأثرها في أنماط البناء والحياة في حضرموت.
 

يحتوي الفصل الأول من كتاب فان دن بيرخ على أول دراسة جغرافية جادة لحضرموت، ويبيّن حدود حضرموت وفق المنظور الغربي حينذاك، الذي يؤكد على أن سلطنة الواحدي تقع ضمن حضرموت. وقام المؤلف بوضع خريطة أولية لحضرموت بناءً على المعلومات التي وفرها له السيد عثمان بن يحيى. ولكي يشجع الرحالة والمستكشفين الغربيين على الذهاب إلى حضرموت قام المؤلف بتقديم وصف ممتاز للطرق بين مختلف مدن وقرى حضرموت، ساحلها وواديها، مبيناً كذلك المسافات والزمن المطلوب للتنقل بينها مشيا على الأقدام.
 

وفي الجزء الأول من الفصل الرابع، يتناول المؤلف سمات المدن والمباني. ومن المعلوم أن الهندسة المعمارية في حضرموت، لاسيما في واديي حضرموت تعد سمة مميزة لحضرموت، فهو يصف تعدد الطوابق والمواد الطينية وكيفية قولبتها ولا يحتوي الكتاب على أي صور فوتوغرافية، لكن هناك بعض الرسومات في الملحق، توضح تفاصيل دقيقة لمكونات البيت الحضرمي التقليدي في وادي حضرموت حينذاك. وحينما يتحدث بيرخ عن الشحر، التي كانت عام، 1886، لاتزال حاضرة الساحل، يصف بشكل مسهب اسوارها، بينما يؤكد أن مدينة سيؤن لم تكن مسورة.
ويعنون فان دن بيرخ الفصل الثاني من كتابه: (السكان والحكومة في حضرموت)، لكنه، في الحقيقة، لا يقدم إلا ملحوظات عابرة عن الوضع السياسي في حضرموت، ويركز، بالمقابل، على السكان وتقسيمهم الاجتماعي. ومن المعلوم أن التركيبة الاجتماعية التقليدية في حضرموت قد حظيت باهتمام عدد كبير من الباحثين الغربيين وغيرهم. ويعد فان دن بيرخ أول من كتب بشيء من التفصيل عن تلك التركيبة. وقد كرس صفحات كثيرة من كتابه للحديث عنها، وخصص الفصل الثالث بأكمله لدراسة (أصل التقسيم الحالي لسكان حضرموت)، ويقسمهم إلى أربع فئات: السادة والقبائل والبرجوازيون والعبيد. وتحظى فئة السادة باهتمام كبير في الكتاب اذ يعود ويكرس لها جزءا من الفصل الرابع. ويعطي معلومات مهمة جدا عنهم وعن مناصبهم مثلا يؤكد أن آل الحبشي كان مركز منصبتهم في خلع راشد ثم انتقل ثقلهم الى سيؤن. ويعترف بوجود امتيازات روحية مهمة لفئة السادة، لكنه ينتقد محافظتهم المفرطة ورفضهم كل ما يأتي من الخارج، لا سيما من أوروبا، وكذلك رفضهم تطوير التعليم. 

 

 

أما الفصل الأخير من القسم الخاص لحضرموت فيكرسه فان بيرخ لتناول (الحياة العامة والحياة الخاصة في حضرموت)، ويقسمه إلى عشرة أجزاء يتناول فيها: سمات المدن والمنازل، والغذاء، والأخدام والعبيد، وقيمة النقود، والتجارة والصناعة والزراعة والصيد وغيرها، والعبادة، والآداب والعلوم، والسادة، والوضع الاجتماعي للمرأة، والملابس.
 

ترجمة لم تنشر بعد للفصل الرابع
الحياة العامة والخاصة في حضرموت في القرن التاسع عشر

 

(2) ملامح المدن والمباني:
منظر المدن في حضرموت ليس منفرا. فهي، بشكل عام، جيدة التهوية ونظيفة، وإن كانت الشوارع ليست معبدة. فبسبب المناخ الجاف والطبيعة الصخرية للأرض لا يعد هذا الأمر عيبا خطيرا. وعادة يمتد مجرى صغير وسط الشارع أو في جانبه لتصريف المياه المنسكبة من البيوت. (1) إما القمامة ومخلفات الحمامات فيتم إخراجها من المدن والقري يوميا، وتباع كسماد عند تراكمها بكميات كبيرة.
 

معظم المدن المهمة في حضرموت محاطة بأسوار (دور)، تتخللها أبواب تسمى سدد (المفرد: سدة)، تتم حراستها وتُغلق في المساء. وتضاف لأسوار بعض المدن، مثل الشحر، قلاع. كما تحاط تلك المدن بقصور أو أبراج تسمى حصون أو أكوات (المفرد: حُصُن وكوت)، وتقوم بحمايتها فرق من العبيد المسلحين أو من أفراد القبيلة المهيمنة على المدينة.
 

إن أول ما يلفت انتباه الزائر الأجنبي لحضرموت هو شكل القصور والمنازل، وسأحاول هنا أن أقدم وصفا لها. من بين مواد البناء الأساسية لها: الطوب (المدر) الذي يتكوّن من الطين المبلل الذي يُخلط بالتبن ويتم ضغطه في قالب، ثم يجفف بحرارة الشمس. في جاوة، لن يتحمل هذا النوع من الطوب الأمطار حتى لموسم واحد، لكن يبدو أنه يقاوم بشكل جيّد المؤثرات المناخية في حضرموت.
ولا تستخدم الأحجار المنحوتة إلا بشكل محدود جدا. ويستخدم الطين المبلل، بدلا من الاسمنت ليتماسك المدر. وفي المناطق الساحلية يتم تغطية الجدران الخارجية (باليس وهو خليط من الجير والرماد). إما في الداخل فيكتفون بطلاء الجزء الأعلى من البيت بالنورة البيضاء (الجير).

 

في حضرموت تُبنى البيوت عادة فوق أساس من الأحجار المنحوتة. وترتفع بين طابقين إلى أربعة طوابق، إضافة إلى الدور الأرضي. ويتوسط البيت الباب الرئيس، الذي يُزيّن بالنقوش أو المسامير التي قد تكون من النحاس. وتُعلق وسط الباب حلقة يتم قرعها للإعلان عن الوصول أمام الباب. وينفتح هذا المدخل على ممر يسمى الضَّيْقة. وتقع على جانبي الضَّيْقة أقبية (دروع)، تستخدم لتخزين السلع والمواد الغذائية والحطب .... إلخ. وفي الطرف الخلفي للببت تقع (الشمسة)، وهي عبارة عن فناء صغير يطل عليه المطبخ والحمامات. وفي البيوت الكبيرة فقط يمكنك أن تجد بئرا ملتصقا بالبيت. لكن، عادة، وعلى الأقل في المدن، يتم جلب المياه اللازمة من الآبار العامة المتناثرة في جميع الحارات. ووسط السور الذي يحيط بالحوش يوجد باب خلفي خاص بالحيوانات الأليفة.
 

لبناء الطابق الأرضي من البيت، يتم تأسيس أعمدة مربعة من الأحجار: بكار (مفرد بكرة)، في كل غرفة لتقوم بدعم الأعمدة العمودية: القواسم، التي تتكئ عليها أخشاب السقاف: القُبال. ويتم تغطية هذه الأخشاب بسيقان نوع من النبات ويفُرش فوقها خليط من الجير (النورة) والرمل، الذي يعطي لأرضية السقف المتانة والصلابة اللازمة. وبالطريقة نفسها يتم بناء أرضية الطابق الثاني، الذي تستبدل فيه الأعمدة الراسية: البكار الحجرية بأعمدة خشبية تسمى أسهم (مفردها سهم). وبما أن الطوابق العلوية يتم تخصيص جزء منها للريوم (مفرد ريم وهو جزء يظل مثل السطح الطابق الأخير بدون سقف)، فمساحتها تتقلص تدريجيا. وعادة يتم بناء الدرج (الرقاد) من المدر. ويتم تشطيب أرضية الممرات وغرف البيت باستخدام خليط من النورة والرماد.
 

من النادر أن يحتوي البيت الحضرمي على شرفات مستقلة (بالكونات) كما هو الحال في معظم البلدان الإسلامية الأخرى. وبينما لا توجد في أقبية الطابق الأرضي إلا فتحات ضيقة تقع على ارتفاع مترين ونصف، ولها حماية من الحديد، تحاط المحاضر بالعديد من النوافذ (الأخلاف مفرد خلفة)، التي تطل على الشارع، وتوصد بفردات تسمى: لهوج (المفرد: لِهِج)، وليس لها أي فترينات زجاجية. وتغيب كذلك المداخن؛ وعندما يشتد البرد يتم وضع كانون به جمر خشبي لا يسبب كثيرا من الدخان، وتجلس العائلة حوله للدفيء. أما الفحم الخشبي (الصخر) فلا يستخدم إلا في محلات الحدادين.
 

وتغلق الأبواب والنوافذ بقفل خشبي يسمى قالودة، أو قفل حديدي يسمى قفل. وتفتح القالودة بالإقليد، والقفل بالمفتاح. وتغلق أبواب الغرف بأقفال أخف من قفل الباب الرئيس: السدة(3)، وهذا القفل يربط بحبل يصل إلى الدور الثاني ويتم بواسطته فتح الباب دون الحاجة للنزول. وأمام البيوت الكبيرة هناك عادة حوش محاط بسور يرتفع مترين ونصف على الأقل، ويسمى (الحيوة). ويسمى الباب الذي يتوسط هذا الجدار: السدة البرانية.
 

وتبنى الحصون بالطريقة نفسها، لكن على مساحات أوسع، كما أنها تُرفد بأبراج حماية ذات ثغرات للمراقبة في أركانها الأربعة، كما هو الحال في القلاع التي شُيِّدت في أوروبا في العصور الوسطى. وعندما تكون الأبراج مستديرة الشكل يوصف الحصن بأنه معصّر، وحينما تكون أبراجه مربعة يوصف بأنه منوّب.
 

ويمكننا أن نشاهد أمام كثير من الحصون قلعةً مرتفعة ومحصنة تسمى: مقدمة، وفي أعلى جميع الحصون تُبنى غرفة مربعة الشكل تسمى: غُلُب، يُثبّت في اثنين من أركانها قرني وعل للزينة. كما تتميّز هذه الحصون عن قصور الأثرياء بأنها لا تحتوي عادة ألا على سطح (ريم) واحد يقع في القمة، بينما تحتوي قصور الأثرياء، كما ذكرنا، على ريوم في جميع الطوابق الفوقية. إما الأبراج الدفاعية المعزولة (الأكوات مفرد كوت)، فهي مباني صغيرة تتكون عادةً من طابق واحد أو طابقين وفيها فتحات للمراقبة، ولا يتم السكن فيها كما هو الحال بالنسبة للحصون، فهي بالأحرى نقاط محصنة للحراسة.
 

ولا تبرز سمات الهندسة المعمارية المميزة للبناء الحضرمي في بيوت الطبقات الدنيا، فهي في الواقع أصغر، وبالتأكيد، أقل ارتفاعا، ولا تختلف عن بيوت أفراد الفئة نفسها في المدن الشرقية الأخرى. وبالنسبة لمساكن البدو فهي، كما سبق إن أشرنا إليه، عبارة عن مغارات أو أكواخ من الطين، ولذلك ليس لها أي سمات معمارية. أما الخيام، التي تُعد سمة مميزة لبدو الأجزاء الأخرى من شبه الجزيرة العربية، فلا وجود لها في حضرموت.
 

الهوامش:
 

1- في الحقيقة، وجود مجرى صغير لتصريف المياه من البيوت وسك الشوارع ظلت بارزة في مدينة شبام حتى نهاية القرن العشرين، لكن يبدو أن عادة حفر البلاعات في مدن حضرموت الأخرى ظاهرة قديمة.
 

2- ليس هناك ما يؤكد أن كثيرا من مدن حضرموت كانت فعلا مسورة قبل القرن العشرين، مثل الشحر وتريم وشبام، فسيؤن لم تسور إلا في مطلع القرن العشرين.
 

3- كلمة (السدة) لا تطلق على الباب الرئيس للبيت نفسه، بل على الباب الكبير الذي يقع في سور الحوش.

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
اختيارات القراء
  • اليوم
  • الأسبوع
  • الشهر
  • الأكثر قراءة
  • الأكثر تعليقاً