الثلاثاء 24 سبتمبر 2024 آخر تحديث: السبت 14 سبتمبر 2024
عطشُ ذاكرةِ النهر - علي السباعي
الساعة 14:44 (الرأي برس (خاص) - أدب وثقافة)

 

    صخورٌ مهشمةٌ ... أسماكٌ يابسةٌ... جثثُ حيوانات مائية... نخيلٌ متيبس ...أوانٍ صدئةٍ ... بقايا هياكلٌ عظمية لحيواناتٍ نافقةٍ ... نفاياتٌ... أحذيةٌ عسكريةٌ تقطنها سرطاناتٌ مخيفةٌ ... أيادٍ مفجوعةٍ تمسك بعددِ الحفرِ وزوارقُ خشبية محطمة . ترى كم مرةً عَبَرتْ ؟ ومَنْ حملتْ عند غرقها ؟ كلها أضرحةٌ تؤكدُ موت النهر.
المدينةُ ظمآى تبكي نهرها ، تجمهر الناس بعيونٍ قلقةٍ متأرجحين بين عالمين ، في كلِ عالمٍ يضعون قدماً ، في برزخٍ بين ارتواءٍ وعطش ، نورٌ وظلام ، بين حياةٍ وموت ، صراخٌ وصمت ، ابيض واسود .
امرأة متسولة ترتدي سروالاً رجالياً ازرق شعرها ذو تسريحة رجالية بلون الكستناء ، تمسكُ بيدها اليسرى سيكارتها ، أفعى خضراء موشومة فوق كفها عند الإبهام ، كأنها تنفث سحباً زرقاً دخانية ، وتارةٌ تمجُّ نفساً طويلاً رصاصياً كالجحيم ، عيناها بلون الحبر الصيني تراقب الناس ببلادة بغل ، نظرات ثابتة ثقيلة ، صرختْ في صوتٍ كوارثيّ :-
-    اتركوا جسد النهر يا كُفّار !
تعانقتْ نقاط الوشمِ الأربعةِ الموزعة في زوايا فمها الأدرد ذي الشفاه البنفسجية ، تردد نداؤها:-
-    اتركوا المدينة .
الناس ضاجون كضجيج كورَة زنابير ، تدافعوا ناحية النهر يبحثون عن بقايا حروبهم الماضية وآخرون يتصورونه مستودعاً يحتفظ بخيباتهم ، تنفث المتسولةُ دخان سيكارتها بمتعة ، سروالها يتطايرُ عابثاً مالئاً الحيّز بين قدميها ، عاوتْ زعيقها :-
-    توبوا .. اطلبوا التوبة يا خطاة...!
تدافعَ جيشُ الأطفالِ مطارداً ضفدعةً مرعوبةً ، النساء والرجال يتضرعون بأصواتٍ مستجيرةٍ أوجرتْ المتسولة كلماتها في صدورِ لمتضرعين :-
-    كفى آن لكم ان تموتوا . استطردتْ : انتظروا موتكم .
هتف آخر :-
-    لنترك المدينة .
نادى أحدهم بتساؤلٍ خُرافيّ مبتور :-
-    مَنْ تنتظرون يا مساكين ؟
صَدَحَ اسمجهم بصوتٍ فيه نبرةُ انكسارٍ :-
-    غادروا المدينة . لنْ يجري النهر أبداً ... !
أمواجُ البشرِ تلدُ أمواجاً أخرى ، تتناسل كالذباب ، يتصاعد غبارها لافاً دائراً يندب نفسه كنساءٍ معزياتٍ ، ينفذُ صوت المرأة المتسولة كالرمح إلى خاصرةِ المدينةِ :-
-    موتوا . آن لكم ان تموتوا .
                                 ♥          ♥             ♥

يهلوسون بكلماتٍ كالمحمومين :- انتظرناك ألف ليلة وليلة ، ولم تأتِ ..                                                                ♥                                                                    ♥             ♥
الشَّمسُ تتفتتُ كالبخار بفعلِ غيومٍ عاجيةٍ جعلتْ نفسها فرشاةً تغمسها بلهب الشمس صانعةً لوحةً صارخةً تكثر فيها ضرباتِ الفرشاةِ السرياليةِ ، المعاول تحفر في جسدِ النهر آباراً فراغةً ، كل فردٍ يحفرُ لنفسهِ بئراً ، أصبح جسد النهر مجدوراً بملايين الآبار العميقة ، رائحة الطين تملأ المكان شوقاً لقطرةِ ماءٍ ، يحركهم لحنُ تدفق المياه بداخلهم ، تَوجَّعَ المجدورُ من ضرباتِ الفؤوسِ النابشةِ ، المتسولةُ تستجدي وتبكي ، تبكي وتستجدي بصوتٍ جنائزي :-
-    جئتُ لأموت . امنحوني قبراً .
مجرى النهر خارطةٌ رُسمِتْ عليها مقبرةٌ حديثةٌ ، وجوه الحفارين زرق مجهدة مثل طينٍ غليظٍ مُزِجَ بمياهٍ آسنةٍ ، يُدهشهم استجداء المتسولة :- 
-    لله يا محسنين قبراً لفقيرة ... !!!
تدثر القمر بغيماتٍ بيضٍ قطنيةٍ ، عّنفها أحدُ حفاري الآبار الشبّان منزعجاً :-
-    عشتِ حياتكِ كلها في الشحاذةِ .. و اليوم تستجدين قبراً .. ابتعدي .
خرج صوتها يرافقه دخان سيكارتها ساحباً كلماتها بصريرٍ موجعٍ كمن يسحب سريراً حديدياً على بلاطٍ :-
-    يا الهي لماذا يقف الإنسان ضد الإنسان ؟
نهرها ثانيةً :-
-    ابتعدي أيتّها المجنونة .
أشعلتْ سيكارة جديدة من عقبِ سيكارتها المنتهيّة ، مجَّتْ دُخانها نفساً طويلاً من غيومٍ رصاصيةٍ مشعثةٍ ، قالتْ وهي تواصل نفث عباراتها الغامضة :-
-    مساكين أهل الأوهام يحفرون قبورهم .
رن كلامها مثل ضربات فؤوس تنبش الآرض بسخطٍ :-
-    ادفنوا فيها : أحلامكم ... ذكرياتكم ... حروبكم ... خطاياكم ... أوهامكم ... 
 ابتلعتْ ضربات المعاول كلماتها ، عاودتْ موّال استجدائها الحزين :-
-    قبراً لفقيرة !!! 

                            ♥                   ♥                      ♥

طبول تقرع تضرعا : (( متى يجري النهر ؟ )) .

                           ♥                   ♥                      ♥

الغيوم عناكب خردلية نسجتْ مكوكاتها شباكاً معتمةً اصطادت الشَّمس والبشر . البشر مطاردون بتدفقِ أصوات المياه  ، هرولتْ كلمات أحدهم :-
-    احفروا . استمروا بالحفرِ .. سنجد الماء حتماً .
تتضاحك معاولهم بأصواتها القاضمة للطين ان : لا جدوى !
قال آخر :-
-    واصلوا الحفر .
جهر صوتٌ نسائي من حفرةٍ بعيدةٍ :-
-    لقد جرى ... جرى ... احفروا .
ابتلع كهلٌ ريقه باصقاً بشدة في كفيه ، صاح مفجوعاً :-
-    نحنْ متواطئون مع الشيطان ...
كَفَنَ صوته ووضع في تابوتٍ ضيقٍ صراخ امرأة تحاول إرضاع طفلها من ثديها السائح كعجينةٍ ممطوطةٍ :-
-    حلت نهايتنا . رحمتك يا الهي !
ذهولٌ شاحبٌ ركع في وجوهِ وحركات الحفارين ، عيونهم شاحبة باردة جاحظة في تشوشٍ كأنها عيون ضفادع باردة رخيّة تستفهم ببلادة ، حشودهم تنز عرقاً ، عيونه رطبة تجوس خلال الأشياء بترددٍ ، نذور النسوة طمرتها أتربة الحفر ، طمرتْ شموعهم ، زغردتْ المتسولة فرحةً :-
-    ولّى زمنُ الغربةِ وعاد نهرنا يجري... يجري .
-    عيناها السوداوان زجاجيتان لمعتا بنداوةٍ مكابرةٍ ، قطعتْ الشَّمسُ البرتقاليةُ آلاف القطع بسكاكين حملتها الطيور الأبابيل بمناقيرها ، كأن أهل المدينة منذهلين ينظرون ناحية الطيور الأبابيل ، يرفعون رؤوسَ أصابعهم تتطاول رقابهم شخصت أبصارهم لتشاهد تحت فضة القمر البليلة المتسولة خارجةٍ من قبرها حاملةً ما بين راحتيها اليابستين ذاتي الأصابعِ الطويلةِ غَرَفَةَ دم . دم ساخنٌ وفائر ...

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
اختيارات القراء
  • اليوم
  • الأسبوع
  • الشهر
  • الأكثر قراءة
  • الأكثر تعليقاً