الأحد 22 سبتمبر 2024 آخر تحديث: السبت 14 سبتمبر 2024
قراءة في المجموعة الأدبية (نوب الغياب ) للكاتب محمد إبراهيم الغرباني - ثابت المرامي
الساعة 11:34 (الرأي برس (خاص) - أدب وثقافة)

 

 

إن التوقف عند عنوان المجموعة الأدبية "نوب الغياب" باعتباره الجملة الدلالية الأولى التي يواجهها القارئ فإنه يستحضر ـ في البعد الدلالي المألوف ـ كل أشكال تلاشي الموجودات وموتها ، لكنه سيفاجأ وهو يقرأ النصوص ، وسيصاب بخيبة أمل ، ( والتي ستسببها النصوص الإبداعية للمجموعة) تلك الخيبة التي تكمن في مسافة التلقي الفاصلة بين البعد الدلالي للعنوان، وبين البعد الدلالي لمفردات النصوص داخل المجموعة , التي تعكس حضوراً فاعلاً يسري بين أوصال النصوص، حضوراً يستدعي كل أشكال الحركة للأشياء والموجودات , فمن غياب "يحضر" تارة على شكل "إنسان العصر الجليدي الغير عاقل المعنون في المجموعة (قبل النياندرتال بنقرة حزن ) يريد أن يحقق له حضوراً بارزاً ببحثه عن انسجامه العميق في الأفكار ، إلى حضور لافت للغياب في إنسان العقل الأول والمعنون (رسائل عابره اخف من الهومو سايبنس ) بما يتصف به من أزلية تفوق أزلية اللغه نفسها ، لكن هذا الحضور الأزلي مشروط بعبور الملحمة الشعرية الأولى في المجموعة ( وجع القميص ) والتي تمخضت من حضور المعنى الكثير برمزيته الغامضة التي تخدم حضور الذات الفاعلة وتذهب نحو غياب المعنى متعدد التأويل بالنسبة للقارئ وهو غموض لا يخدم رمزية المعنى ولكنه يخدم رمزية الغياب التي تعنّى بها المجموعة الأدبية (نوب الغياب ) .

 


وبعد هذا الحضور الذي خرج من رحم الغياب، يأتي نص ( يا الله كيف نعيش بدون WhatsApp ليثبت حضور هذا الغياب 
سأرسم سماءً الليلة
وأنا أعني سماء حقيقة !!
من أي جهة أبدأ ؟ وأي الألوان سأختار
ساعدني يا الله 
ما الذي يمنع اكتشاف أن أحمقاً ما قرر رسم .. السماء
فرسم وجه حبيبته ؟!!
جسدي صديق الرمل..الخ 
فهو حضور له أجواؤه وطقوسه الخاصة (دعاء. جسد . أرواح )، وبعد هذا الإعلان الصريح لحضور الغياب يلاحظ القارئ وهو يواصل رحلته مع مفردات النصوص اختفاء (غياب) التي أخبرت عن تلك المخاطبة الحاضرة الغائبة ! لتحل محلها (تحضر) مفردات إخبارية أخرى في نص التفاحة الأخيرة (ترقصين بين حبات المطر، إبتسامتك ، دورانك في الهواء , إحتمال عن البعد والاقتراب .

التعثر بين أسنان الرجال .. الخ) مؤكدة على الحضور الفاعل الضاج بألوان الحياة والحركة (أشبه غيمه تبحث عن جغرافيا لتمطر – أنا أحسبني غيمه , ولست سوى مطر فقط) وهذا الحضور الحي هو زاد الشاعر وصاحبته للحضور في غياب آخر هو (سأجعل نفسي الظل – لكي أراك دائماً - سوف تبتسمين – لظلي وهو يحاول الهرب - من الخجل اللذيذ – لو انك الظل ).

 

 

بعد ذلك الغياب حضور الإحساس بما يدور في كون الغياب الذي تحتاجه الحياة الحقة للإنسان الذي تدرج في حضوره وتنامى مع نمو النص ليبلغ أوجه نهايته التي تصرح بحضور مدوي لغياب الجمال ومكونات ألأنسه الحقه فهو أكثر حضورا من عاصفة !.
 

بعد هذه القراءة الأولى التي استثمرت البعد الدلالي للنص في غياب غامض للكشف عن عدم انسجامه مع حضور الحياة تأتي القراءة الثانية التي تستثمر البعد الرمزي للنصوص ، والجزء الغامض بعد أن توسلت بالجزء المكشوف منه ـ والذي تولدت عنه المفارقات النصية والدلالية ـ لتحقق الانسجام للنص الإبداعي الذي تذوب في أعماقه تلك المفارقات محققا بذلك انسجامه الرائع مع الكون وموجوداته . في الجزء الثاني من المجموعة المعنونة (رسائل عابره أخف من الهومو سايبنس ) قصص قصيرة أسلمت القارئ إلى مجموعة من التساؤلات والمفارقات الدلالية والتركيبية تحاول القراءة الثانية الإجابة عنها لتحقيق الانسجام التام. ليأتي دور القارئ في الإصغاء إلى نداءات النص الخفية معتمدا على حسه الجمالي ومعرفته الأدبية .

 

فالرجوع إلى نصوص القصص نرى أن التصريح بحضور الغائبات فيما يبحث عنه الكاتب في الحياة أو فيما يريد أن يوصله إلى القارئ كان نصوصه ((حنين – أغنيه وطنيه – عزله – طاعة – دفء مفقود - عطر مصنوع من الخيبة – سوء فهم – قلب مشتعل – أستوديو متعثر – الرغيف – ماتت حياة – خيالات حالمة – سري جدا – الموت الذي اعرفه – ميت بعد العاشرة والنصف – تهمه )) فما هذه القصص إلا كتابة إبداعية , لحظة مكاشفة ورؤيا لتلك اللحظات التي تتشح بالتعتيم وتتسربل في ثوب الغياب الحاضر بقوة داخل الذات المبدعة. بعد معرفة كنه هذه المخاطبات يتحقق للنص انسجامه مع القارئ الذي يتحقق في المستوى الرمزي للنصوص وبذلك تزول المفارقات وتذوب في بوتقة رؤيا النص التي تؤكد على حضور المعنى الإبداعي الذي يريده القاص ليخرج الحضور من رحم الغياب ذلك الغياب الذي يمثل الحضور الحقيقي للكتابة الإبداعية. وعند العودة إلى مفردات النصوص وتراكيبها وقراءتها في بعدها ألترميزي يظهر لنا الانسجام بين الظاهر والباطن بين المرئي و اللامرئي , فما الغياب الذي يطالعنا به العنوان إلا حضور للنصوص الإبداعية ، وما التساؤلات التي تتركها النصوص في الغياب الا حضورها في زمن الإبداع و الحياة التي تبثها الموجودات في المجموعة لتقف في وجه الموت والعدم محققة بذلك الانسجام الروحي العميق لها وللموجودات الكاتب ، وما حضور النص إلا رمز للإبداع الذي يتجاوز بحار وصحاري العدم والموت , وما تلك البراكين الخامدة في الرأس إلا الهدير المندفع الذي يحضر كأحد طقوس الكتابة الإبداعية للكاتب الغرباني .

 

وعند الوقوف على الجزء الثالث والرابع من المجموعة وهي نصوص قصيرة ,وقصيرة جداً كمثال "شهر عسل " نجد ما يتفق مع هذه الرؤيا الإبداعية لغياب الإنسان العاقل في (نهايات أسرع بـ4 ميجا غياب ) ليضل حضور إنسان النياندرتال الغيرعاقل والذي لم يفكر بعد (أخرج من جيبه كيسا مملوؤه باللوز البلدي ووضعه بين فكيه مثل شمبانزي جائع – قطع خيوط خيالاته المتأرجحة صوت طفولي – عندما ما نرجع من الرحلة هل تسمح لي باللعب مع بنات الجيران ) تعكس لنا حضورا جديد للزواج الصغيرات تتبعها النصوص(إزعاج - وصيه – ألرصاصه - رجل الأمن بقايا أصدقاء - بالغط - رفض عنوسة - لا بتوب – زرقة - سؤال برئ - مفارقة ) و حضورها الذي يفوق العاصفة في تجليه ما هو إلا إشارة ورمز للكتابة الإبداعية عند الكاتب (محمد إبراهيم الغرباني ) المتجددة التي تعصف بذائقة التلقي الآسنة فهي ترفض ترك أي أثر أو مرجعية خارجية لها مهما كانت جذابة ومغرية لتبقى في حركة دائمة لاكتشاف ما لا ينتهي فهي لا تستقر في شكل معين ، كما أن هذه الحركة تستمد حضورها من باطن "الغياب" ذلك الحضور الذي "هو انفجار يحطم كل أشكال الفكر المألوفة ، والأشكال المألوفة في التعبير والكتابة. انه نوع من الخرق يتعرف به الإنسان على الطبيعة الداخلية غير المرئية تتجاوز جمالية المعنى القديمة "المألوفة " ـ التي تقوم على التشبيه والاستعارة ـ إلى الوصف الرمزي التي يحضر فيها الرمز كحالة لغوية ، إنها مجموعه أدبيه تعكس بناء لغويا متميزا، يتجاوز المجاورة والنقل والاستبدال بمعنى أن هذه الحالة اللغوية تتخطى المشابه إلى نوع من البناء تتعقد فيه العلاقات بين الظواهر والأشياء علاقات تقوم على فعالية التوحد والاندماج المطلق للذات الكاتبة للظواهر والأشياء.

 

وفي الختام فإن هذا الحضور في المجموعة الأدبية "نوب الغياب" هي كتابة إبداعية متجددة تمثل الوجود الحقيقي للذات الكاتبة عندما تتسلق جدران الغياب وتستثمره إلى نداءات لوجود آخر، وعندما تحتمي بالعزلة لتحس بضجيج ذاتها أكثر، فتجد نفسها أخيراً وقد مثلت في حضرة الغياب..!

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
اختيارات القراء
  • اليوم
  • الأسبوع
  • الشهر
  • الأكثر قراءة
  • الأكثر تعليقاً