الأحد 22 سبتمبر 2024 آخر تحديث: السبت 14 سبتمبر 2024
دراسة تفكيكية بنيوية في قصيدة النثر - محمد الحمامصي
الساعة 13:25 (الرأي برس - أدب وثقافة)

    

الشاعر سلمان كاصد يؤكد أن القصيدة هي نتاج تصور فاعل للعالم ولرؤيا الشاعر، لذا فإن اختلاف رؤى هؤلاء الشعراء جعلهم يتلاعبون.

يحلل الشاعر د.سلمان كاصد في كتابه “قصيدة النثر: دراسة تفكيكية بنيوية” الصادر عن مؤسسة أروقة للدراسات والترجمة والنشر تجربة قصيدة النثر العربية لدى الأجيال الجديدة انطلاقا من ثمانينات القرن العشرين على عدة مستويات بدءا من البنية واللغة والتشكيل الأسلوبي ورؤية العالم، حيث يرى ضرورة الإقرار بحقيقة ظهور جيل شكَّلَ مُعطى جديداً بفعل انفتاح رؤاه على قوانين من الشعر الحديث اصطلح عليه بقصيدة النثر تارة أو بقصيدة الشعر الحر تارة أخرى، ويضيف “لا أريد هنا أن أصوِّب أحد المصطلحين على الآخر ما دامت القصيدة الحديثة التي يكتبها الشعراء العرب تمتلك أسلوباً حداثياً يُعنى وبشكل فاعل بقارئ النص الذي نفترض فيه ‘منتِجاً للمعنى’ أي باعتباره قارئاً إيجابياً لا يكتفي باستقبال النص الشعري بسلبية المعنى الشعري المكتمل بذاته”.
ويوضح كاصد “لأن الاختلاف واضح في تمثل العالم ورصده بين شعراء الأجيال العربية الذين أخذوا على عاتقهم ممارسة طرح إشكالية هذا العالم في المنظور الشعري الذي يتمثلونه، فإنني أجد من الضروري أن ترصد تصورات هذه الأجيال عبر اكتناه المعاني العميقة التي حاولوا طمرها في نصوصهم الشعرية من حيث: البنيات الحكائيةـ الوظائف الانفعاليةـ المكونات الأسلوبيةـ حداثة التشكل البنائي. وكما لا بد لنا هنا أنْ نؤكد على مديات الاختلاف بين ما يكتب فيه الشاعر أحمد الشهاوي أو عبد العزيز جاسم مثلاً، وما يكتب فيه خالد بدر أو إبراهيم الملا، وكذلك غيرهم من الشعراء الذين تناولتهم هذه الدراسة، وذلك لأنَّ القصيدة هي فعل سردي يقوم بالأساس على تكثيف النثر في إطار زمني مقنن، حتى أننا ولكثير من الأحايين نجد ظاهرة البياض/الحذف تلعب دوراً فاعلاً في مكونات قصائدهم التي تتطلب من القارئ/المتلقي إعمال الذهن من أجل استشراف العوالم المحذوفة التي وصفت بالبياض.. وكأن البياض ‘إقصاء’ لكتابة ‘السواد’ ويلعب دوراً كبيراً في إزاحة المعنى من أجل إنتاجه أو استدعائه من قبل القارئ ليتولد المعنى المغمور الغاطس في البنى العميقة للنص”.

ويؤكد أن القصيدة هي نتاج تصور فاعل للعالم ولرؤيا الشاعر، لذا فإن اختلاف رؤى هؤلاء الشعراء جعلهم يتلاعبون، ولو بنسب ضئيلة، في إظهار المعنى تاركين للمتلقي تصوره واكتماله. وعليه تحولت مهمة النقد هنا من شارح للنص، كما هو عليه في تناول القصيدة الكلاسيكية إلى قارئ مختلف يحاول بجد وإخلاص أن يتعدّى حدود البنية السطحية إلى البنى العميقة بمفهوم تشومسكي.. ولأننا نؤكد أن القصيدة التي يكتبها شعراء محدثون هي فعل سردي، حيث أنَّ السرود لا حصر لها، بل هي ذاتها امتداد لا متناه بتعبير رولان بارت، ولهذا فإن اجتراح سرود مختلفة يبدو واضحاً عند هؤلاء الشعراء في تباينهم ما استدعى منذ البدء أن نقرر اختلافهم.

ويقول “هنا تبدو قصيدة أحمد الشهاوي صوفية في إطار من المناجاة وكأنها تعيش في بنية من التخيل الخطابي الذي يعنى بما وراء الكوني من خلال الانثيالات الواعية. وتبدو قصيدة ثاني السويدي محكومة بعدمية تسيطر عليها ظاهرة ‘موت الجسد’ باعتبارها مهيمنة تتحكم في جلّ رؤيته للعالم، بينما يبدو سعد جمعة في قصيدته نقيضاً صارخاً في احتفائه بالجسد وتقديسه له لأنه أداة الراقص الذي يرى بهجة الحركة اللامألوفة في جسده مطبوعة في عيون الآخرين. وهو ذات المعنى الذي تحاول قصيدة ميسون صقر أن تقتحمه في استكناه العلاقة بين لغة جسد القصيدة والمعنى في جسد الواقع بوصفها مكوّناً عضوياً أو وظيفة مرجعية تبتهج بها القصيدة وبذاتها، كأنما يبتهج الجسد الآدمي بمكوّناته. في الوقت الذي تحتفل فيه قصيدة عادل خزام بالطقوس الشعائرية وباللغة الانبهارية، حيث يهيل الشاعر أردية لغوية على كل معنى واضح يحاول العبور إلى القارئ/المتلقي وكأنه بذلك يتستر وراء اللغة التي تبدو في تضاد دائم في كل تناقضاتها لديه والقائم على الانبهار في التلاعب بالقوافي المعكوسة الداخلية والخارجية”.

قصيدة النثر لم تحظ نقدياً حتى اليوم بما يتوافق وحضورها الفاعل والمكثف والذي يتوافق إلى حد كبير مع سيرورتها اليومية ومعيشها الآني
ويضيف “وهذا ما نشاهده في قصيدة نجوم الغانم التي تبدو في مراثيها أقرب إلى التهجد الجمعي النسوي غير أنها بدت واصفة من الخارج عبر تحولها المستمر من ضمير المتكلم المفرد إلى ضمير المتكلم الجمعي مجانسة للطقوس الاحتفائية بالحزن.. وكأنها تشترك مع عادل خزام برؤيا واحدة للعالم منظور إليها من زاويتين مختلفتين. في الوقت الذي نرى أن ما يؤطر قصيدة إبراهيم الهاشمي هو ازدواجية الحضور/الغياب التي تؤكد حالة الانشطار التي يعلن صراحة عنها في ديوانه المزدوج ‘قلق/ تفاصيل’ الذي ينحو منحى شكلياً يفضح فيه البنى الموضوعاتيه لمكوّنات شعره ولا نستبعد قصيدة أحمد راشد ثاني مما طرحناه حول مفهوم ‘الامتلاء/ الخلو’، ‘السواد/ البياض’، حيث حفلت قصائد الشاعر ببعثرة القصيدة وبإيجاد فراغات زمنية مفقودة ذات فعل سردي اعتمد أن يكون ناقصاً كي يجهد القارئ في لعبة تشكل المعنى الذي يرتئيه”.

ويشير كاصد “لأننا نؤكد ظاهرة اختلاف رؤى الشعراء نؤكد أيضاً ظاهرة تشابه مكوّنات قصائد الشاعر مع بعضها عبر أسلوبية المحايثة التي نجدها عند الهنوف محمد التي بدت انتقالاتها في بناها الشكلية ممّا هو تفصيلي إلى ما هو خلاصة أي من الخاص إلى العام واضحاً وبيِّناً. وعليه يبدو أن عبدالعزيز جاسم قد يفارق الآخرين بملحمية قصيدته التي تتشكل على بنى نثرية ذات هيكلية سردية حكائية واضحة. ولتأكيد مبدأ الاختلاف نجد إبراهيم الملا ينحى منحى خاصاً يمسك فيه شعرية المكان من خلال الاستعارة التي تتعارض مع نثرية قصيدته بمفهوم التضاد بين الاستعارة والكناية وتشاكلهما مع الشعر والنثر.. حتى ليبدو إبراهيم الملا قد خرق ما هو مصطلح عليه في تشابك الشعر بالاستعارة والنثر بالكناية فبدت قصيدته استعارة نثرية.

وكي تكتمل صورة قصيدة النثر لا بد أن ندرس بعناية قصيدة خالد بدر في مجموعته ‘ليل’ بوصفها حاملة لرؤية مختلفة للعالم تبدو فيها رؤى الشاعر راصداً لانهيار العالم، وكأنه في تنازع دائم بين محاولة إبصاره للأشياء وبين غياب تلك الأشياء بالانهيار إذ بدا فيه الشاعر مبصراً لمأساوية الكون التخيلي الذي يصنعه عبر مأساوية الكون الواقعي الذي يراه”.

ويلفت إلى أن محاولته النصية في الكشف عن عوالم القصيدة الحداثية جعلته يرى أن يجترح مفهوم المؤثر النصي الذي يرشح المنهج والذي يكشف عن مكونات القصيدة، أي أن القصيدة هي التي تفرض منهجها النقدي الذي يعالجها، لذا كان تعدد المفاهيم بين التفكيكية والبنيوية طريقاً نعتقده فاعلاً في سبر أغوار تلك القصيدة التي تحاول آليات هذين المنهجين أن تصل إليها لتكشف عن بناها العميقة، وهي بحد ذاتها قراءة ليست بالضرورة، نقول إنها وصلت إلى “كليّ المعنى” بل هي تحاول أن تصل إلى تخومه في القصيدة التي يكتبها شعراء عرب في تحولهم الحداثي الذي بدأ يطرق كل أبواب التغيرات السوسيولوجية والأنظمة البنائية في المجتمع والثقافة والاتصال بالآخر ومضارعته.


تأسيس جماليات جديدة
وتساءل كاصد عن السبب الذي يجعل جلَّ شعرنا العربي قديمه وحديثه معنياً بالمراثي، ويقول “تستغرق هذه الفكرة شعر أحمد الشهاوي ونجوم الغانم وعادل خزام وثاني السويدي، وأخيراً جئنا إلى قراءة قصيدة محمود درويش التي تجسِّد قمة المراثي العربية بالرغم من اعتمادها الوزن والقافية وتركيبها على بحري المتدارك والمتقارب، فإنّنا نشعر أنّها ذات بنية نثرية لم تخرج عن المتداول اللفظي في خطابها الشعري فلو قرئت تفكيكيا لاتضح أنها ذات بنية سردية لا تقل قربا إلى المنثور الشعري من قصائد الشعراء الآخرين”.

ويرى كاصد أنه من المبالغ فيه حقاً أنْ نتصور أنَّ مواجهات قصيدة النثر في مشهدنا الثقافي تستمد أسلحتها من الشكل الغربي، إذ ينكر سركون بولص أن يكون للقصيدة المترجمة الأثر الفاعل في بنية قصيدتنا النثرية بقوله “إنهم يعتقدون أنَّ كلَّ قصيدة غربية تصلهم عن طريق ترجمة رديئة هي قصيدة حديثة فيكتبون مثلها.. إنها تدل على فقر ثقافي عجائبي سائد بيننا، لذلك نجد كل هذا التخبط. إنَّ الحداثة جرأة، فكيف نكون حديثين بينما مخيلتنا مقيدة، لذا فإذا ما أردت أن تكون حديثاً فعليك أنْ تتخلص من القيود التي تحميك من نفسك”، ولا أعتقد أنَّ جبران خليل جبران بوصفه صاحب أول مواجهات حداثية مهدت لقصيدة النثر أو لخلق النص المضاد كما يسمي ذلك عبدالله الغذامي، قد أثارت السائد الثقافي على كتاباته مثلما هو اليوم، حيث المواجهات المعلنة والقاسية ضد حالات التجريب التي يحاول شعراء قصيدة النثر تأسيسها.ويؤكد أنَّ محاولة تأسيس جماليات جديدة تواجه بكسر الذائقة الجمعية السائدة وباسترضاء الحساسية النقدية التقليدية وكأنها بذلك تحاول الاكتفاء بذاتها دون الاتكاء على أبويّة التقليد الشعري. لقد بات واضحاً أنَّ قصيدة النثر تجربة قابلة للجدل ما دامت قد واجهت أهمّ معضلة في موروثنا الشعري، وهي ثنائية “الشكل/المضمون” بسبب وعيها الحاد وثقافة كتابها وإحساسهم بضرورة التحول نحو أنماط مختلفة، نتيجة تحولات البنى الفكرية والاقتصادية للمكونات المجتمعية المعيشة في عالم صارت فيه التقنيات المتوالدة تحاول كسر ـوباستمرارـ الشكل الواحد المهيمن والمضمون أحادي الموقف، ولكن كلَّ هذا لا يعني أنَّ هذه القصيدة لم تحمل معها تجارب عالمية حاولت أن تقيم آليات جديدة في استخدام الجملة الشعرية اللامألوفة وتوظيف الدلالات المتعددة لتخصيب كيانها المخالف من أجل خلق مغامرة حديثة في الكتابة الشعرية، لهذا نستشهد بقول ت.س. إليوت “لقد صار الشعر إقلاقاً للوعي السائد”.

إنَّ قصيدة النثر لم تحظ نقدياً حتى اليوم بما يتوافق وحضورها الفاعل والمكثف والذي يتوافق إلى حد كبير مع سيرورتها اليومية ومعيشها الآني، لذا أجد أنَّ حركة الشعراء الشباب قد اتصفت ببلوغ تطمين الذات والاقتناع الحقيقي بتجاربهم التي هي تجارب محسوسة، مغامرة، تحاول أن تخلق أصواتاً متفردة بمواصفات إبداعية خاصة.

كاتب من مصر

منقولة من صحيفة العرب ...

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
اختيارات القراء
  • اليوم
  • الأسبوع
  • الشهر
  • الأكثر قراءة
  • الأكثر تعليقاً