الثلاثاء 24 سبتمبر 2024 آخر تحديث: السبت 14 سبتمبر 2024
نبوءة.. - المصطفى فاتح
الساعة 17:15 (الرأي برس (خاص) - أدب وثقافة)

 


سألت جدي ببراءة خبيثة:لماذا لسنا من الأغنياء؟وكيف يمكن أن نصير أغنياء؟ولماذا الآخرون أغنياء ونحن فقراء...؟
 لم يكن،وهو الوقور الحكيم الذي نصب نفسه مالكا لكل الأجوبة،يجد جوابا لأسئلتي الخبيثة.فيقول لجدتي: "هذ البعلوك" فيه صفات شيطانية.
لكنني كنت ألاحقه بأسئلتي باحثا عن أجوبة وإن كانت غير مقنعة،كان الأستاذ وكنت التلميذ.وعليه أن يجيب.
بعد طول تفكير أسر لي أن كل الأغنياء،هم بالضرورة،أصحاب كنز وجدوه مدفونا تحت التراب..فأصبحوا عبيد مال،فرفعوا من وحل الفقر إلى صفاء الغنى،من أسافل القوم إلى علية القوم.
جوابه ولد لدي سؤالا آخر:وما هو الكنز؟
-الكنز هو مال دفنه صاحبه تحت الأرض،ولما طال عليه الوقت أصبح مالا وفيرا مختلطا بالذهب والفضة تحرسه جيوش الجن التي تمنع كل من يقترب بجانبه،والويل لمن سولت له نفسه مد يده إليه فقد يتشوه أو يرمى في الثلث الخالي.
-طيب ياجدي، ومن يأخذه إذن؟
-صاحبه وهو الوحيد المسموح له باستخراجه..
-أقاطعه:وإذا مات أو نسيه؟
-يستخرجه شخص محظوظ تسمح له كتيبة الجن بأخذه بعد أن تناديه ليلا...وتعطيه وصفة استخراجه..
-ولماذا لم تناديك أنت يا جدي هذه الكتيبة،أكيد أنك رجل غير صالح..فيك الخبث والنذالة والخسة...لذلك ورثْت الفقر وستورثه لنا بالتواتر...
هنا،يجيبني بركلة يصوبها،برجله الكبيرة،صوب بطني الضامر فأصدر صوتا شبيها بصوت القطط أوووووه.فانهض و اهرب فيتبعني بفردة حذائه فتصيبني في الظهر فأصدر صوتا أخر أيييييييي...تفوووووووووو عائلة المساخيط المناكيد..فيتوعدني بأشد العذاب.
بعد تفكير طويل قررت،وأنا المعدم الفقير، أن أشتري من السوق قلة صغيرة من الطين بها فتحة صغيرة ،ثم شرعت في ملئها بالنقود،تسولت من أفراد العائلة ،سرقت من صرة جدتي،من سروال جدي الفضفاض،خدعت أختي الصغيرة واستوليت لها على العيدية(نقود تمنح للصغار صبيحة العيد من طرف الأقارب والأهالي) حتى امتلأت القلة.
دفنتها سرا خلف المنزل قرب نخلة سامقة وأنا أمني النفس بأن تتحول إلى كنز فأتحول بدوري إلى ثري،فأشتري بقعا في طريق البحر وأمنع الفقراء والمعتوهين وسفلة القوم من الاقتراب من ساحتي،أن أصير من وجهاء القوم فأقطع الهواء على من هم دوني...متعتي إذلال الناس وتعذيبهم انتقاما من أيام الفقر والظلم التي عشتها...ولتذهب الأخلاق إلى الجحيم.
أصبح لا شغل لي سوى مراقبة القلة ريثما تصبح كنزا منتفخا،أختي الصغيرة بالكاد تفتح وعيها عن الحياة،رقيقة،مشاغبة،ذكية،حادة المزاج...لا تترك ركنا في البيت إلا قلبت سافله إلى أعلاه،لذلك أصبحت أراقبها وأتبعها دوما مخافة وصولها إلى الكنز المدفون،وكلما اقتربت من تلك النخلة صحت في وجهها هائجا عصبيا:
-ابتعدي من هنا..سيضربك الجنون ويشوهون صورتك الآدمية...ابتعدي...
-سيضربونك أنت إن شاء الله أيها النصاب العاق....وبعدها تهرب..
بعد أختي أصبحت أطرد كل من يقترب من النخلة من الجيران والأقارب  والأباعد وأفراد عائلتي ...أحرس المكان أكابد وأصبر آملا في تحقق نبوءة جدي. 
كلما تذكرته أقفز من مكاني وكأني تذكرت عزيزا بعيدا غاب عن القلب،كلما حل طيفه بخاطري أفرح وأصير مسكونا بالشوق إليه، وهو الراقد خلف بيتنا شبه المهجور.
الجميع تيقن أني مصاب بمس.فطاف بي جدي كل الأضرحة التي قيل له إنها تداوي الجن.بل بت بعض الأيام مربوطا بالسلاسل إلى جوار كرمة الولي الصالح.
في إحدى الصباحات،اختفى الكنز من مكانه.لم أحتج بل فرحت لأنه حسب جدي سيذهب إلى مكان آخر وسيتكاثر ويصبح ثمينا إذ ستتحول تلك القطع النقدية الصفراء إلى حلي وجواهر وسبائك من الذهب القح...بقي فقط أن أن يأتي ذلك الكائن الهلامي،في المنام، ليدلني على مكانه لأستخرجه.
صرت كل ليلة أحلم به في مكان ما،فأرى حليا كثيرة وأموالا خيالية وذهبا براقا لامعا يعمي الأبصار...و في الصباح أشمر على ساعدي،أحمل الفأس وأحفر المكان الذي دلني عليه المبشر في المنام حتى خربت أرضية البيت الذي أصبح كله حفر،لكن دون فائدة.
في لحظة يأس،غافلت جدي وأمسكته من قبه وقلبته إلى الخلف وأنا أصرخ في وجهه:فين الكنز آلمسخوط..فين مشا...فتخلص مني و ضربني بعكازه ثم نزع العمامة من فوق رأسه ومسح بها الأرض وهو يردد:والله المسخوط لا ربحتي ولا طفرتيه...وليغضني أكثر كان يرفع أكفه متضرعا إلى الله أن يمنح أختي رضاه وييسر أمورها في الحياة..
يئست من أمر الكنز،لكن أصبت برعب كبير وأنا أرى أختى كل لحظة غادية رائحة إلى الدكان القريب منا لاشتراء سيارات،من الحلوى طبعا،تلعب بها ولما تتعب تأكلها وفي أحايين كثيرة ترفسها برجلها،ولماما ترميني ببعض الفتات..وأنا أرمقها بلهفة طفل محروم فيسيل لعابي..أترجاها فلا تبالي..أحذهرها من التبذير وأذكرها بأن المبذرين كانوا إخوان الشياطين،فترد علي بمكر:
-الشيطان هو من طرد من الجنة وأضحى يعيش على الهامش،وفي الأخير سيدوق العذاب المرير..لاهناء في الحياة الدنيا ولا طمع في اللآخرة.
ولما لم أجد جوابا أرد به على خبثها،أبكي وأتساءل في قرارة نفسي:هل ستتحقق نبوءة جدي التي توعدني فيها بالشر والفقر،بعدما لم تتحقق نبوءة الكنز والغنى؟ 

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
اختيارات القراء
  • اليوم
  • الأسبوع
  • الشهر
  • الأكثر قراءة
  • الأكثر تعليقاً