الثلاثاء 24 سبتمبر 2024 آخر تحديث: السبت 14 سبتمبر 2024
وعــاد جسـداً - ريا أحمد
الساعة 19:21 (الرأي برس - أدب وثقافة)

 


*أسفت لأنك لست معي
وحين التقينا ..
أسفت كثيراً لأنكَ..لستَ معي.
كانت الدموع تحاول عبثاً حجب رؤيتها لتلك السطور الغالية التي طالما انتظرتها . أخيراً سيعود وتعود أحلامها المؤجلة، وتٌبعث روحها المدفونة برحيله،سينـزاح ذلك العبء الثقيل عن كاهلها لتتنفس الصعداء وتشعر بإنسانيتها مهما نساها الزمن .
تتصور الفرحة التي سيشعر بها أبناؤها فقد عاشوا أيتاماً ولهم أب بجسدٍ وروح .ضمت الرسالة إلى صدرها ووقفت أمام المرآة تتلمس وجهها الذي تحاول التجاعيد سلب جماله. حملتها الذكريات إلى الماضي البعيد يوم التقته عاملاً فقيراً في مكتبة الجامعة حين أرشدها إلى الكتب التي ستثري بحثها .منذ ذلك الحين وهي تقصد المكتبة فقط لرؤيته ،تبتسم وهي تتذكر تعليق أحدهم : "أظن الكتاب هو المفتوح بين يديك وليس ذلك الشاب الواقف أمامك " حينها شعرت بالحرج وتركت المكتبة لكنها لم تتركه.
نظرت إلى صورته المعلقة على الحائط، لكم سخر والدها الدكتور منه عندما جاء لخطبتها .."يالك من مسكين ،مؤلمة تلك الإهانات التي تلقيتها من أجلي .." لقد أحبها أكثر مما أحبته ولكنها أيضاً تركت من أجله كل شيء ،الحفلات والسفريات والرفاهية التي اعتادت عليها ، بل إنها تركت عائلتها من أجله ،لقد تحملت الجوع معه وجعلت من قرصاته الموجعة أنغاماً لحبهما العظيم، و من قسوة البرد أسطورة لحياتهما الجديدة .نعم لقد صبرت كثيراً وكان أقواه ذلك الذي كان بعد رحيله تاركاً لها طفلين وجنيناً في أحشائها ..لقد تألمت كثيراً وبكت ليال طويلة.
"ولكن تباً لهذه الذكريات التي تحاول وأد الفرحة التي هجرتني معه . ".
هلل أبناؤها لخبر عودته، وأخذ كل منهم يحلم بالحياة الجديدة التي ستأتي بقدوم الحبيب الغائب، وأصبحت حياتهم تزهر وروداً وتطرب أنغاماً ؛فطالما غابت عنهم الطمأنينة وأضناهم الشوق إليه. كان خبر عودته حديث الحارة فالجارات لا حديث لهن سوى رجوعه وسرد حياتها المعذبة ، والجيران يثنون على صبرها وجلدها ونظرتها الثاقبة للحياة التي لم تسمح لها بالتلاعب بها رغم تأرجحها الأزلي ..
وجاء اليوم المنتظر،القلق والخوف يتسللان إلى قلبها الضعيف،لا تدري لماذا هي متوترة ؟,إنها تشعر بريبة تربكها تظهر ضعفها أمام أبنائها الذين طالما رأوها جبلاً صامتاً وظهراً قوياً يستندون إليه .كانت تبحث عنه بين وجوه المسافرين،فأين هو منهم؟ هل غيرَّ وجهته ؟ هل فضَّل البقاء حيث يعيش بعيداً عنها ..؟ ربما أخطأت في اليوم ولكنه الجمعة لقد قال الجمعة . ربما أنه لم يجد مقعداً في الطائرة ..نعم تتذكر أن والدها أجل رجوعه في احدى المرات لأنه لم يجد مقعداً، لكنه بعد ذلك عاد متأبطاً عروساً جديدة ..لا ..مستحيل أن يختار أخرى لتشاركه حياته ،لكن لم لا، لقد عاش وحيداً ردحاً من الزمن .عشرين عاماً .. يالها من بلهاء! كيف يستطيع أن يستمر وفياً لها ؟..الويل لها إن فعل ذلك ! أمسكت رأسها بكلتا يديها علها تطرد هذه الأفكار اللعينة التي تعبث بمشاعرها ،انتظرته طويلاً لكنه لم يأتِ .
آه من خيبة الأمل التي تشعر بها وتراها في أعين أبنائها ،و من قسوة نظرات الإشفاق التي تلمحها في أعين الجيران، في اليوم التالي كانت قد وجدت شرارة أمل وعذرت تأخره :
-بني هلم بنا إلى المطار لاستقبال والدك ،لعله كان يقصد اليوم .لقد أخبرني عامل المطار أن هناك رحلة ستصل اليوم من هناك .
نظر إليها مشفقاً ورافقها صامتا .وتعود كالبارحة تجرٌّ أذيال الخيبة ،لم تتفوه بكلمة واحدة ،الجيران بنظراتهم المشفقة والأبناء بأحلامهم المحطمة . وتشرق الشمس عليها بعذرٍ جديد وأملٍ جديد أيضا. تأتي جمعة وترحل أخرى وهي والأعذار والأوهام في صراع لا ينتهي ..
-بني ..لعلة يأتي اليوم هلم بنا لاستقباله ..
أصبح عمال المطار يعرفونها جيداً ويرثون لحالها ،وهو يرافقها وفي كل مرة ثمة أمل يراوده للحظات خاطفة ،لكنه صامت مكتفٍ بعتاب الروح ودموع أطلالٍ لوالدٍ يحتفظ باسمه في أوراق رسمية.أصبحت حياة تلك الأسرة الوديعة حلقة من الانتظار والصمت والآهات المدفونة في صدور أحرقها الشوق وأضناها الحنين.
-بني ،لنذهب إلى المطار .سيأتي اليوم صدقني..
-ولكن يا أمي ألم تملي الانتظار ،ألم تيأسي الرجوع ..لن يأتي ..لن يأتي ..
لكنها تذهب كل جمعة تنتظر ذلك الطيف الذي هجرها واعداً بالعودة.وكالعادة تعود إلى محراب الصمت و مناجاة الذكريات وبحور الأعذار والأمنيات .
ستة أشهر وهي تنتظر رجوعه وتتلمس له الأعذار، وجاءت رسالة "سأعود يوم الجمعة ، انتظروني" أجبرت أبناءها على مرافقتها ..شيء ما بداخلها يهتف بقربة منها، نعم دقات قلبها يكاد يسمعها جميع من في الصالة تنبؤها بوصوله إليها ، هل تراه لا زال وسيماً كما كان أم أن الأيام قد هدته كما فعلت بها .؟.بلى إنه كذلك خصلات شعره الأبيض جعلته يبدو وكأنه شخص أرستقراطي حكيم ،والنظارة المرتكزة على أنفه الصغير زادت من وسامته ،لوحت إليه بيدها التي كانت في يوم بعيد غضَّةً بيضاء.هبَّ إليها محيياً أبناءه ،وكان لقاؤه يبدو حميمياً هي فقط من شعر ببردوته.
كان مجيؤه كفيلاً بغروب شمسهم التي هجرها الشروق ،وكان مخيباً لآمالهم العريضة؛ فقد جعلت منه الغربة شخصاً مختلفاً عن ذلك الزوج المهاجر قبل أعوام عدة وعن ذلك الأب المحبوس في مخيلة أبناء أرهقهم الانتظار و أتعسهم المجيء .
لقد أمسى شخصاً لا يطاق أصبحت حياتهما مزيجاً من الإهانات والأحزان ؛فقد أضحى التفاهم بينهما مستحيلاً لقد رأته رجلاً آخر ،ليس كذلك الشخص الذي تركها شاباً، ويراها هو رجلاً أكثر منها امرأة ،فهي المتصرفة في كل شيء بما في ذلك الأبناء . صار شخصاً اتكالياً لا عمل له سوى المقارنة بين عالمين بعيدين كل البعد عن بعضهما .أحياناً كثيرة تتمنى لو أنه لم يأتِ.لقد أرادته كما كان و ليس كما غيرته الغربة .يحزنه أن تكون كما صنعتها السنوات التي قضاها متسكعاً في شوارع الغربة ، ويؤلمها أن يعود جسداً بلا روح …

 

* مطلع قصيدة انتظار للشاعرة اليمنية نبيلة الزبير .

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
اختيارات القراء
  • اليوم
  • الأسبوع
  • الشهر
  • الأكثر قراءة
  • الأكثر تعليقاً