الأحد 22 سبتمبر 2024 آخر تحديث: السبت 14 سبتمبر 2024
الغزل حين يكون تربوياً .. عند لغتيري قصة (غزل) نموذجاً - زيد الفقيه
الساعة 18:44 (الرأي برس - أدب وثقافة)

 


أولاً النص:    

(بعد قراءته لقصيدة غزلية لبشار بن برد مطلعها :
يا ليلتي تزداد نكرا  : من حب من أحببت بكرا 
بحماس لا مثيل له انبرى الأستاذ لشرح القصيدة .. أخذت تلميذة قلماً .. رسمت قلباً يخترقه سهم .. شردت الفتاة برهة ، ثم استفاقت على عبارة نطقها بصوته الجهوري العميق "الحب عاطفة جميلة" .. فجأة حانت منه التفاتة يقظة نحو الفتاة .. لمح القلم بين أناملها يداعب الورقة .. غاضباً وضع الأستاذ الكتاب ، وبحزم توجه نحوها .. مرتبكة أخفت الفتاه الورقة ..متوتراً وقف بجانبها ثم بنبرة ساخطة خاطبها :
ـ ماذا تفعلين؟
وجلة أجابت : 
ـ لا شيء أستاذ.
مصراً أردف قائلاً :
ـ أريني الورقة .
حمرة الخجل خضبت وجنتيها .. ترددت برهة ، ثم ناولته الورقة .. تأملها لحظة .. استفزه القلب والسهم يخترقه .. جلد الفتاة بنظرة حانقة .. مزق الورقة ، ثم خاطبها قائلاً: 
ـ أنتِ فتاة قليلة الدب.)

 

ثانياً القراءة : 
أطلعت على المجموعة القصصية القصيرة جداً الموسومة بـ(تسونامي) لمصطفى لغتيري  من المغرب الشقيق ، ما لفت نظري فيها كان قصة (غزل) التي تعالج        بأسلوب تربوي سمة التناقض العربي بين ما يؤمن به المواطن العربي وما يمارسه في الواقع ، وقد احترت في اختيار المنهج الذي أدرس من خلا له هذه القصة  ، لكني رأيت أن ما يناسب دراسة النص هو: (البنيوية التوليدية عند لوسيان جلدمان ) ، مع الاستعانة (بالمنهج الاجتماعي عند مدام ديستال) لعلهما يحقان للقارئ مقاربات نصية تصل بنا إلى الغوص في النص وأبعاده ومراميه .
 

إن النص ـ كونه جسداً لغوياً واحداً ـ يصور لقارئه ذلك الانفلات  الأخلاقي في الذات العربية المعاصرة ، فالفرد يعد لبنة أساسية في البناء الاجتماعي ، إذا صلُح  صلُح به البناء الاجتماعي ، والمهم في القصة التي بين أيدينا هذا المنظور لشخص المدرس الذي يعوُّل عليه إصلاح وبناء هذا الهرم الاجتماعي ، وقد أحسن القاص إذ اختار المعلم وهو يتحدث إلى تلاميذه عن قيمة جد مهمة هي الحب الذي عليه تُبْنى مؤسسة هذا النسيج الاجتماعي المهم ، حيث وظَف القاص تراثنا العربي متمثلاً بقول الشاعر العربي بشار بن برد :
يا ليلتي تزداد نكُراء    :  من حُبِ من أحببت بكرا
هذا الاستدعاء مثَّل القيمة الحضارية والإنسانية في تراثنا العربي إبَّان ازدهار الحضارة العربية ، حين كان الاسلام يملئ مشارق الأرض ومغاربها ، ولم يكن الحب قيمة سلبية في نظر المجتمع حين ذاك ، بل كان النظام الاجتماعي والسياسي يؤيد بل ويشجع على هذه القيمة الحضارية ، وكان هذان النظامان صادقين قولاً وعملاً ، ومن ثمَّ كان على الكاتب أن يضع القارئ في عتبته الأولى للنص أمام حاصرتين متناقضتين ،(تراث بحجم الانسانية ، وحاضر بحجم لحية) لأنه " يكتب في مقام جاد ، ويوجه كتابته إلى شخصيات جليلة وهدفه توجيه المتلقي عموماً إلى تبني مجموعة من الأفكار النظرية والأخلاقيات العملية التي يمكن أن تفعَل في علاقات الحياة اليومية في المجال الاجتماعي كله ، بدءا بعلاقة الرجل الزوج بالمرأة داخل الأسرة وانتهاءً بعلاقتهما بالجماعة القرابية أو الوطنية أو الدينية أو الإنسانية عموماً"  ، ذلك الحماس الذي تلبَّس المدرس عند قراءته للنص لم يكن إلا لشيء في نفسه يرغب أن يجسده هو فقط ، لكنه ـ في نظره ـ محرم على غيره ، وهذا سلوك التيارات المتأسلمة ، التي خرجت من عباءة العم ( محمد عبدالوهاب) في الدرعية ، ولأن المتلقي جزء من العملية التفاعلية للنص ؛ فقد انبرت الطالبة للتفاعل مع النص إذ يعد النص ـ بنظر الدراسات النقدية الحديثة ـ هو أنت بكل مكوناتك : الفكرية ، والأيدلوجية ، والبيئية  ، وأخذت تعبر عمَّ تتلقاه من معلمها متكئة على تلك القيم النبيلة لمفهوم الحب والمعلم يقول في شرحه : "الحب عاطفة نبيلة " ، لكن الأيدلوجيا الخاطئة والدخيلة على مجتمعنا الإسلامي الصحيح جعلت من ذلك المعلم شخصاً آخر عند رؤيته للفتاة وهي تترجم تفاعلها مع النص بتعبير صادق وبري ، لكن المعلم يعبر عن شخصية يشوبها الصراع داخل الذات ويكشف عن واقع الفواجع وتشظي الذات وانشطار الهوية  لدى الشخصية العربية الحديثة . إننا إذا أمام خطاب مغالط مبنى ومعنى ومن أي منظور قاربناه ، يتجلى منطق المغالطات المتهافت في المستويين المعرفي والأخلاقي حين يُبنى القياس على المضاهات بين الكائن الإنساني العاقل ، والكائن الحيواني الأعجم الذي لا يجوز عليه أي حكم أخلاقي لعدم عاقليته ، وهو قياس فاسد لا يصح في مقام النصح والوعظ ، والتربية والتعليم ، وخاصة إذ يتجه الخطاب إلى تحقير الفتاة  ، فهذا المعلم بذلك الحكم على الفتاة قد جردها من كل القيم الإنسانية والأخلاقية ، ونظر إليها من منظور حيواني يغص بالشهوة ، فالطالبة حين تفاعلت بالتلقي مع المدرس لم تكن تعرف أنه يحمل في داخله رؤية أيدلوجية تناقض أقواله ، ولعلها تكون من أسرة منفتحة أخذت الحياة كما هي مشاعة ما لم تحرم بنص ، فخفقت جوانحها لهذه القيمة الجمالية التي يطرحها عليهم المدرس ، ومن ثمَّ قفزت إلى أعماقها (فرحة الفقراء ) لهذا القادم الجديد إلى أعماقها ، لكن سرعان ما تبدد حين وقف المدرس بجانبها وخاطبها بنبرة ساخطة :
"ماذا تفعلين ؟ أجابت وجلة :
لا شي أستاذي ــ مصراً أردف قائلاً : 
أريني الورقة 

 

حين ناولته الورقة  أستفزه القلب والسهم يخترقه ، جلدها بنظرة حانقة ومزق الورقة ثم خاطبها : أنت فتاة قليلة الأدب " 
هذا هو النص الظاهر ، لكنه لم يعد يحظى باهتمام القراءة ، فالنص " الظاهر هو النص الملفوظ الذي نراه بالعين الناظرة ، أما النص المستتر فهو النص الذي ينبغي أن (نبخشه) لنستخرج منه مضان النص وما يذهب إليه " ، من حالة مضطربة ومتناقضة في الهوية العربية ، لأن الإنسان العربي المعاصر يتكأ على المغالطات وعدم الصدق مع نفسه ، ويتخذ من هذه المغالطات أقنعة لتخفي هذه التشظيات الكامنة في نفسه ،  فهذا التشظي في عمق الشخصية العربية التي يمثلها المدرس هو تعبير عن الحالة العربية الراهنة التي ظلت تراوح في مكانها لم تستطع أن تبز الحضارات الأخرى ، ولم تستطع أن تحافظ على ما كانت عليه أبان تقدمها ، لهذا أصبحت الشخصية العربية مصابة بانفصام الهوية ، مع استحالة العودة إلى التربة العربية الأصيلة ، وصارت ضمن ظاهرة معاصرة ، يضاف إليها هذا المأساوي بكل تمظهراته ، حالة الوحدة والشتات التي يعيشها أغلب الشعب العربي إن لم نقل كله . 

 

اشتغل الكاتب على المتواليات النصِّية التي بدأها بتلاوة المدرس لقصيدة بشاربن برد :
ياليلتي تزداد نُكرى           :   من حب من أحببت بكرا 
وقد وجه الخطاب إلى طالبات في قاعة الدرس ، فنبأ إلى ذهن كل واحدة منهن أنها المعنية بالخطاب ، وهذا خطاب مستقدم من تراثنا العربي دفع بالطالبة للتفاعل معه ، ثم أردفه بقوله " الحب عاطفة نبيلة " ، هذه المتواليات النصِّية العلنية أوحت للمتلقي أن ثمة شخصيةً سويةً للمدرس لكن حين لمح الفتاة وقد رسمت قلباً يخترقه سهم نهض الرجل المريض في أعماقه وأجبره على وضع الكتاب ، وتوجه نحوها ، هذا الاندفاع المباغت للفتاة أربكها ، مما اضطرها لإخفاء الورقة ، هذا الموقف دفع بالمتتلية النصية للحوار المربك بينهما الذي أفضى إلى استسلام الطالبة وتسليم ورقتها إليه ، لينظر غليها باحتقار .

 

أجاد الكاتب توظيف اللفظ في إطار المنظومة اللُغوية للنص ، كما وظف في هذه المنظومة ـ في سياق المتتالية النصِّية ـ الفراغ الناطق في أكثر من مكان في مثل قوله : ( لشرح القصيدة ... ، ويخترقه سهم ...، والحب عاطفة نبيلة ...، وبحزم توجه نحوها ...) هذا الفراغ متروك للمساحة التفاعلية بين النص والمتلقي يضع فيه القارئ ما شاء من الألفاظ من خلال تحاوره مع النص ، وهذا التحاور يعتمد على ثقافة المتلقي وأسلوب تفكيره ، والبيئة التي تشرب ثقافته منها ، وهذه الحالة تجسدت بشخصية المدرس ، وهو نماذج لهذا الاضطراب العربي الذي يقف اليوم على رمالٍ متحركة لا يستطيع أن يثْبتْ باقتدار في مكانٍ واحدٍ ، فتهبه الرياح حيث ما تتجه .
         
       

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
اختيارات القراء
  • اليوم
  • الأسبوع
  • الشهر
  • الأكثر قراءة
  • الأكثر تعليقاً