الأحد 22 سبتمبر 2024 آخر تحديث: السبت 14 سبتمبر 2024
مقتنيات وسط البلد لمكاوي سعيد إعادة الاعتبار لوجود مهدور- علوان مهدي الجيلاني
الساعة 11:12 (الرأي برس (خاص) - أدب وثقافة)

 


كتاب مختلف كتب بأسلوب مميز وحصيف يجمع بين حلاوة الحكاية وفتنة الوصف والالتفات الحاذق إلى دقائق في الحياة عادة ما يفوت على العين العادية سحرها وجاذبيتها ،لقد ذهب مكاوي سعيد بنا إلى مكان تتتقاطع عليه خطى الحياة دون أن يشير أحد إلى عمق تأثيره في العابرين به أو المتعثرين مختارين أو مرغمين في دائرة الطباشير التي تحتضن عوالمه المغوية . 
 

وعلى مساحة 471 صفحة وفي عوالم إحدى وأربعين شخصية ناهيك عن عشرات الأمكنة يغوص بنا في ثنايا وأغوار وزوايا " مقتنيات وسط البلد " .
ليس ما ضمه الكتاب مجرد اشتغالات سيرية عادية ، إنه سرد يغتني بمراميَ أبعد عمقاً مما يمكن أن تقدمه الكتابات السيرية ، نحن هنا أمام شكل من الابداع يتوسع فيه صوت السرد بتقنياته المخاتلة وألاعيبه الفنية ، وقد مكن ذلك الكاتب من التفنن في رسم الشخصيات وإعادة إنتاجها مبهرة مضافاً عليها الكثير من البطارخ والتحابيش ليقدمها لنا كوكتيلا مذهلا من الفن في أرقى تجلياته

 

النجاح الحقيقي للكتاب يأتي من جعل مهمشي الكتابة والثقافة والأدب والفن الذي يتخلّق في مقاهي وكافتريات وفنادق وبارات وسط البلد هم المتن ، هم اللوحة والمشهد المسرود ؛ فيما يتحول نجوم الفن والفكر والادب ومشاهير الكتابة إلى مجرد كومبارس أو خلفية تعطي الصورة وضوحاً أكثر .
عشرات الشخصيات كانت كلها مشاريع مغنين وممثلين وعازفين وتشكيليين وشعراء وروائيين ومنتجين ونقاد ومخرجين القليل منها نجح إلى حد ما ، لكن أكثرها سقط ضحية ظروفه أو شخصيته أو واقعه المر، فهم بين حالم خطوته في الوهم أكبر منها في الواقع ، أو طائش ينساق لعواطفه وجنون شبابه ، أو مُرَفّهٍ حوّله تبدل واقعه إلى محترف للنصب والاحتيال . أومصدوم في عاطفته أبعدته صدمته عن طريق الابداع الى طريق الخراب والدمار ..

 

يحتشد الكتاب بعشرات الوجوه والاحداث والوقائع الحياتية الحقيقية ، وفي ثنايا السرد الساخر- أغلب الأوقات - تتكشف الكواليس الفنتازية لكثير من الأعمال الفنية والأدبية التي طالما شغفنا بها وبمبدعيها .
لا يتوخي مكاوي سعيد أن يكتب عن مقتنياته بلغة نبيلة دائماً ، اللغة النبيلة موجودة أحياناً ، لكنه ينحاز غالباً إلى لغة سردية فاتنة ، تعبق بروائح المكان التي يستعذبها الوصف ، ويتعامل معها بنوستالجيا فائضة الحنين ، المعجم معبّرٌ لا يتكلّف الكاتب نحته أو يتحذلق في خلقه ، بل يتركه على سجيته يتعاشق مع الصورة العامة والحوارات وألاعيب الكتابة المختلفة التي يجيدها المؤلف بوصفه روائيا وكاتبا للسينما .

 

جانب آخر يبرزه هذا العمل هو حلاوة الحياة الجماعية التي تنتظم مقتنياته ، وغواية وسحر المكان الذي يمثله وسط البلد ، بما يعنيه ذلك من ثراء حضاري وتقاليد شديدة السطوة ، وقدرة على إضاءة خيال القارىء بحكم كون وسط البلد يمثل بؤرة الحركة الثقافية والأدبية الفنية التي ألهمت العرب جميعاً خلال أكثر من مئة عام مضت .
 

بالرغم من أن الكاتب استعمل في الغالب أسماء مستعارة لمقتنياته ، إلا أننا نستطيع معرفة الكثير منها ونعرف صلاتها بشخصيات أدبية ، أو فنية شهيرة وذلك بفضل الإشارات والتلمحيات التي كان يدسها بذكاء وحذق هنا وهناك في ثنايا السرد ، ولا يمكن أن يجهلها ، أو أن تكون مغلقة إلا على غير قارىء أو متابع جيد " قتلة بالفطرة " أو " يا تبر سايل بين شطين .. يا حلو يا اسمر " –على سبيل المثال –
إنها سير أناس تفوق في حياتهم الوهم على الحياة فانتقمت الحياة منهم بتوجيه الصفعات تلو الصفعات إلى أقفائهم فهم في النهاية لم يكونوا يعلمون أنهم مجرد دمى تلعب بها الحياة ، فقد تعجل بعضهم الوصول سذاجةً وجهلاً بتجارب الحياة " ابن الوز " واستعصى بعض آخر على السير على قواعدها المرسومة " غير قابل للتعلم في قارات العالم الخمس " و " الشغل يجيب الفقر" .. وغيرها.


-وقد استطاع الكاتب - رغم عدم اتكائه كثيراً على اللغة النبيلة – أن يفجر عواطفنا تجاه تلك الشخصيات أو المقتنيات بسب قدراته القوية على رسم مشاهدها الحياتية رسماً موحياً وآسراً في نفس الوقت ، يتجلى ذلك على نحو رائع في " فن إهداء المحفظة " و " سيدة الممر " و " اليعسوب" 
" مقتنيات وسط البلد " يضعنا أمام هاجسين يخصان الكاتب بالذات ؛ هاجس التوثيق وهذا بديهي تحيل إليه مفردات الكتاب من أول عتباته " عنوان الكتاب – مقتنيات وسط البلد – " مروراً بالشخصيات والفترات الزمنية التي جاءت في متن الكلام المتعلق بحياة شخصية مّا أو وردت فيه عرضاً كمرجعيات توضح خلفية مكان أو حدث تاريخي أو تم الاستطراد إليها لحاجة السرد لها ، وانتهاءً بالجزء الثاني من المقتنيات " كتاب المكان " الذي يسرد في أحد عشر فصلاً تاريخاً موجزاً لما يضمه أو يقتنيه وسط البلد من ميادين وأسواق وشوارع ومقاهي وكافتيريات وفنادق وبارات وكاباريهات وأماكن ثقافية ..

 

أما الهاجس الثاني فيتعلق بذات الكاتب ، فالمؤلف علاوة على كونه الرواي دائماً ، وهذا يعني حضوره الشخصي في معظم الأحداث كصديق للشخصيات ، أو على معرفة بها ، أو على صلة بمتصلين بها صلة وثيقة ، فإنه أيضاً مضمر في كثير من الشخوص والأحداث بمقدار حضوره في الأمكنة أيضاً ، مكاوي سعيد أحياناً لا يروي عن الشخص الذي يكتب عنه ،هو يتقمصه ويتلبس مشاعره " طواويس العفن " .. إنه ضرب من تنصيص الذات التي تتواطأ مع الوقائع وتندمج فيها تعيشها وتتعايش معها بتوهج وتفاعلية تكفي لتظل شخصية الكاتب مرتبطة بالمكان لأزمنة طويلة قادمة ..

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
اختيارات القراء
  • اليوم
  • الأسبوع
  • الشهر
  • الأكثر قراءة
  • الأكثر تعليقاً