الأحد 22 سبتمبر 2024 آخر تحديث: السبت 14 سبتمبر 2024
«مأخوذة بالنهايات» للشاعر بلال قائد… دراما الوجع اليمني - أحمد الأغبري
الساعة 13:00 (الرأي برس - أدب وثقافة)

 

يطلُّ الشاعر بلال قائد في مجموعته «مأخوذة بالنهايات» (مؤسسة أروقة ـ القاهرة 2016) بأداء لُغوي وفيض شعري، لم يمكّنه من الفوز بالدورة الخامسة لجائزة عبد العزيز المقالح وحسب، بل سيمنحه حضوراً متقدماً بين مجايليه من شعراء القصيدة النصية في اليمن؛ مع استمرار اشتغاله على التجريب الذي يتجاوز بقصيدته أصداء الآخرين، مستكملاً بناء عالمه الشعري، الذي يتجلى مُدهشاً من نافذة هذه المجموعة. 
 

ضمّت المجموعة اثنين وخمسين نصاً موزعا تحت عناوين زمنية (أسبوعية)، بدأت بالأسبوع الأول وانتهت بالأسبوع الثاني والخمسين. وربما جاء (التزمين الأسبوعي) للنصوص من التسلسل الزمني في (متواليات/ حالات يومية) لذات الألم (ألم الذات)، الذي نزل به الشاعر إلى قعر (ذات و روح أنثى) مستنطقاً ومعالجاً، بصوتها وهذياناتها وهواجسها، وجع الحرمان والكبت تحت عنوان الحُرية على سطح الجسد، الذي وإن حضر بجرعات (زائدة قليلاً)؛ إلا أنه لم يحجب ضوء تجربة روحية منحت النصوص فضاءً، بل فضاءات جديدة لقراءة الشاعر واكتشاف تميزه الرؤيوي واللغوي (الإيقاعي والانفعالي والإيحائي)؛ على الرغم مما يظهر في سياقات بعض النصوص من فجوات تتعثر بها القراءة، ويشعر معها القارئ وكأن الشاعر بالغ في ممارسة الحذف، من دون معالجة لآثار البتر، علاوة على اهتزاز بعض الصور بمفردات مألوفة وبعضها مهجورة يضطر معها القارئ للجوء للمعجم. 
 

 

وعلى الرغم من ذلك؛ تبرز اللغة من أهم الجداول التي أخصبت نصوص المجموعة وتعزّزت معها شعريتها، من خلال ما تميّزت به من اقتصاد وتآلف و(وضوح غامض) منح التعبير والتصوير والدلالة طاقات انفعلت معها العبارة حدا لم يخب معها الإيقاع ولم تضق الرؤية… كقول الشاعر: 
تسكُنُ رائحتي محرابي/ وتتخثَّرُ الثواني/ على أنغام الصلوات/ أعزفُ دمعي قليلاً/ فتُنبتُ لي الدهشةُ / يُغذّيها الضَّجرُ/ ولا شيءَ سوايَ/ يَشيخُ. 

 

ويستمر صاعداً في ذات النص قائلاً: أفتحُ نافذةَ الحياة الأولى/ لا أرى إلا السقوط / تفتحُني الثانيةُ/ تُعفّر وجهي بالتراب/ أصرُخُ بالثالثة/ فلا يَسمعني الكون. 
استهل الشاعر (النصوص/الأسبوعيات) بنص «مدخل»، وهو تقليدٌ غير معهود في الكتب الشعرية، إلا أن الشاعر ربما رأى في هذا النص ضرورة موضوعية أكثر منها فنية؛ تقديماً يختزل مشهد الواقع بعين الذات (المحرومة)، الذي سينتقل بنا إلى يوميات حالاتها بين جدران الغرفة في النصوص المتوالية، ما معناه أن هذا النص الاستهلالي ربما يندرج ضمن تدخلات الراوي الذي تجاوز الشاعر؛ ليضعنا (أولاً) أمام مشهد المدينة من نافذة الغرفة، وهو المشهد ذاته الذي يفتح لنا النافذة لنطلُّ منها على الذات من الداخل؛ وهي صورة غير حسية تضج بالمفارقات برع الشاعر في تصويرها من خلال تعابير حسية: 
المدينةُ نائمةٌ / الليلُ يَروي أرضَ الأرَق/ يُؤرقُ ظمأ الألوان/ على حافة النافذة فَتح ذراعَيه/ لاحتضان المآذن/ يُحرقني المدى/ وتُشعلني القُبَل/ تُسيّجُني الشهقةُ الأخيرة/ وبرُكان. 

 

 

لم يكن مستغرباً اختيار الشاعر ذات الأنثى بطلة يوميات مجموعته الشعرية؛ بقدر ما كان الشاعر مدهشاً في ممارسة دور (الراوي) من دون أن تفقد النصوص شعريتها، على الرغم من أن جميعها تصوُّر وتروي (حالات/ حكايات) تلازمت فيها ياء المتكلم مع تاء التأنيث، وتجلت معها المجموعة كأنها حكاية واحدة لذات واحدة: حكاية من حكايات الوجع الإنساني في المجتمع اليمني في تجربة من تجارب البوح والهذيان الذاتي لم تتجاوز ثلاثية (الجسد والرغبة والحُلم)، التي اشتغلت جميع النصوص على (نزيف حريتها) بدءاً من نص»الأسبوع الأول»:
أربعةُ جُدران تُعانقني /كأسلاك شائكة /أوهامُ حُرّيَّتي تنزفُ/ من شُقوق الألوان/أَدخُلُها / يرتدُّ جسدي خائباً/ أقطعُ المسافات داخلَها / ليس معي إلا رغيف الصبر.

 

وعلى الرغم من أن النصوص تكاد تنغلق سطوحها على الجسد مع حضور (متكلف أحياناً) لكثير من مفردات قاموس الجنس الأنثوي، إلا أن الشاعر استطاع أن يتخلق مفتوحاً على عوالم جديدة وصولاً إلى آفاق تتصوَّف معها العبارة ولا ينفك المعنى عن الروح متجاوزاً الواقع إلى عوالم لاحسية حيث يتداخل فيها الذاتي بالكوني والواقعي باللامادي، كما يقول بصوتها الموجوع في نص» الأسبوع الثامن والثلاثين»: 
مسائي يسألُني أن / أفرش سُجَّادة الشوق / أدعو حنيني/ عسى يرتديكَ الإيابُ/ ألا تسمعُ الصهيلَ/ من خلف غابات غيابكَ؟/ ألا تسمعُ الجنون/ يحثُ الخُطى إليكَ/ فأذوي في وشوشات الغياب/ وتغدو خُطاك سراباً؟!

 

 

ويبلغ الهذيان النازف ذروة تجلياته الروحية في خاتمة المجموعة؛ في نص «الأسبوع الثاني والخمسين»: 
من ثنايايَ يخبو ضوءٌ / حزنٌ نقيٌّ/ ليمحو ما علِقَ بي/ من «رأسِ السنة/ رأس العِقْد/ رأس القَرْن»…/ يزحفُ نحوي رُخامُ التَّوقُّد/ يرصِدُي اللا مَناص./»أوراقي التي اكتملت / تأبى أن تتجلَّد»/ زياراتي المتكررة للسماء / خَدَشتْ براءتي/ أفزعني الموتُ اللامرئي/ تستكينُ في طريقي رائحةُ/ يَدان عابقتان بالشيزوفرينيا/ «لا يَلجُ السماءَ من لم / يمت مرَّتين» /»هكذا ينتهي العالم»/ ومُغامراتي لمَّا تبدأ بعدُ. 

 

وفي الجملة الشعرية الأخيرة في النص الأخير للمجموعة يفتح الشاعر أملاً للحرية متجاوزاً الأسوار التي حفل بها النص الأول، ودراما الألم التي ضجّت بها جميع النصوص، إلى الحياة باعتبارها إرادة الإنسان ومغامرته في مواجهة مخاوفه وقيوده. ولهذا نجد الشاعر والناقد عبد العزيز المقالح يقول في تقديم المجموعة: «أعترف بأنني فوجئت بها كثيراً، ووجدتني أقول -بلا تحفظ – لقد ولد هذا المبدع شاعراً».

 

منقول من القدس العربي ...

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
اختيارات القراء
  • اليوم
  • الأسبوع
  • الشهر
  • الأكثر قراءة
  • الأكثر تعليقاً