الأحد 22 سبتمبر 2024 آخر تحديث: السبت 14 سبتمبر 2024
نحو كتابة عبر أجناسية قراءة في «نسور لقمان» لسيف الرحبي - رضا عطية
الساعة 11:58 (الرأي برس - أدب وثقافة)

 


يبدو نص «نسور لقمان الحكيم» للشاعر سيف الرحبي مفجرًا للأسئلة أكثر من تقديم أجوبة، وأول هذه الأسئلة وأهمها: إلى أي نوع، «جنس»، ينتمي هذا النص؟ ولِمَ صاغ الشاعر/ السارد/ المرسل نصه على النحو؟
 

إذا كانت «الكتابة» كمفهوم واسع قد تجاوزت «الثنائيات التقليدية» التي كانت تَشطِر أي ممارسة كتابية جنسيًا إلى نوعين متقابلين يكاد أن يذهب التصور الكلاسيكي إلى الدفع بقطيعة فارقة بين حدي كل ثنائية من نوعية: (الشعر/ النثر)، (الشعر/ السرد)، (السرد/ الدراما)، فإنّ المفاهيم الحداثية تؤسس لمصطلح «السرد» كنص جمالي يتجاوز المفهوم الشائع له باعتباره فنًا للرواية والقصة بمفهومها التجنيسي المحدد، بل أمسى السرد كمفهوم يتجاوز «الكتابة» إلى اعتبار كل نص/ عمل يحكي حكاية أو يروي لمروي له هو «سرد»، كما أسس «رولان بارت» للسرد باعتباره متنوعًا من أجناس وفنون مختلفة تكون معنية بالحكي ومُوجَهَة لمروي له، ليشمل «السرد» بذلك «الأفلام السينمائية»، و«اللوحات الفنية»، و«فنون الأداء الحركي»، وغيرها من «الفنون التعبيرية»، كذلك فإنّ «الشعر» نفسه يدخل ضمن مجال «السرد» باعتباره خطابًا للحكي رغم اختلاف لغته وتمايز وسائله عن فنون السرد الأخرى كالرواية والقصة. لذا فمن نتائج ما أسس بارت للسرد بتطوير مفهومه وتوسيع مجاله إعادة تشكيل خارطة الأجناس الفنية.
 

ويأتي نص سيف الرحبي نسور لقمان الحكيم ليؤسس لما يمكن أن نعده «كتابة عبر أجناسية» باعتباره «سردية» يتراوح الخطاب اللغوي فيها بين النثر والشعر في تفاعل كيميائي يمزج العنصرين في توليف ديالكتيكي. النثر لغة إخبار أو يميل لأن يكون كذلك، أما الشعر فهو أقرب إلى أن يكون لغة إنشاء، تتجاوز الحكم على مقولاتها بالصدق أو الكذب. النثر سعي لبلوغ اليقين أما الشعر فهو تخلٍّ عن ذلك اليقين ونفيه.
 

فضاء الجبل وفعل الصعود
من استهلال الخطاب بنصين لنيتشه ومحمود درويش يتقاطع معهما ويُصدِّر بهما النص يبدو «الجبل» فضاءً مكانيًّا لتلك «السردية» النثر- شعرية، فيبدأ الخطاب بنص لنيتشه:
«من أين ينبثق أعلى الجبال؟ هكذا سألت نفسي ذات مرة. وعندما عرفت أنها من البحر تطلع.. هذه الشهادة مرسومة على صخورها وعلى جدران قممها. من أعمق الأعماق، ينبغي على أعلى القمم أن تصعد إلى ذروتها» (ص5).

 

في نص نيتشه نبدو إزاء ثنائية (الجبل- البحر)، الجبل بارتفاعه الشاهق رمز لاتصال الأرض بالسماء، والبحر باتساعه وفسحاته رمز لاتصال الأرض بالأرض البعيدة، أما فعل صعود الجبل فينطوي على أمرين أو رُبما فضيلتين: الأولى، فعل الارتقاء أو مساعي الصعود بما يرمز للجهاد والكفاح ومحاولة التسامي، والثانية، فعل الاعتلاء، والتمركز بذروة الجبل وقمته، ما يتيح للذات امتلاك الأفق، وبانورامية الرؤية إزاء عالمها.
 

أما في نص محمود درويش فثمة دور مغاير يبدو للجبل:
مضت الغيومُ وشرَّدتني
ورمت معاطفها الجبال
وخبَّأتني. (ص6).
إذا كان نص نيتشه يتعامل مع الجبل من منظور رأسي كمصعد ومرتقى، فنص درويش يتعامل مع الجبل من منظور أفقي، كمأوى ومسكن، مستقر للذوات وملاذ لهم. وكأنّ الذات تتمثل بنيتشه ودرويش في اعتبار الجبل مصعدها ومأوها في آنٍ.

 

أما صوت الذات المتلفظة في النص فيبدو أنّه في حالة تحدٍّ مع «الجبل» لصعوده وطيه:
قلتُ: سأطوي الجبالَ
كأرضٍ خَلاءٍ
قلتُ: سأطوي الغيومَ
كأرضٍ مَلاءٍ
وأرى ما وراءَ النجوم
قلتُ: سأطوي السماءَ
كسجادة
وأرى ما وراء السراب. (ص68).

 

تبدو الذات -من خلال ارتيادها الجبل وصعوده- طامحة في احتواء العالم وامتلاك موضوعاته. ويمثَّل الفعل المكرور (قلتُ) مستوى الأحلام والتصورات التي راودت الذات وهو ما يجعلنا نسائل في مدى إمكانية تحققها أو في تردد الذات بين الحلم والوهم. ويبدو أنّ الذات -ضد الجاذبية الأرضية- أو تسعى لأن تكون كذلك، تخلق عالمها الذاتي بجغرافيته الخاصة، فالجبال أرض خلاء والغيوم أرض ملاء والسماء سجادة، في انقلاب للذات على قوانين العالم المادية، وكأنّ للشعر قوانينه المتمردة التي تنتصر لمركزية الذات على قواعد العالم، فتعيد تشكيله وصياغته وفقًا لرؤى الشاعر.
 

زمكانية الجبل
 

إذا كان الجبل هو مركز العالم والواصل بين الأرض والسماء، فيما يبدو أن للجبل تكوينًا زمكانيًّا عند سيف الرحبي الذي يستل خطابه من وعي جمعي مسكون بحضورات أسطورية تشكّلت على امتداد التاريخ:
الجبل الأخضر
وهو يسترخي في ظهيرة قائظة
يشبه عرين أسود
تتجه برؤوسها الوبريَّة الغاضبة
نحو البحر..
ويتبدّى حين يكون الجو غائمًا، على شفا مطر، سفينة أسطورية
تشق عباب الطوفان والزمن وغبار الصحراء، حاملة من كل زوجين اثنين، يقودها الربان الذي سيتحول لاحقًا إلى رمزٍ لإنقاذ البشرية التي أشرفت على الانقراض والمحاق..(ص7)

 

تتمرأى تبديات الجبل في الوعي في تمازج تمظهري المكان والزمان في مُتَصل زمكاني، فتجليات الجبل كمكان ترتبط بالزمن والوقت، فيبدو «الكرونوتوب» بالمفهوم الباختيني حاديًّا بالوعي في تَمثُّله «الجبل»، ففي وقت الظهيرة القائظة يشبه الجبل الأخضر (عرين أسود تتجه برؤوسها الوبريَّة الغاضبة نحو البحر) في تمثُّل سوريالي للوعي في معاينة المكان، أما في وقت الغيم وحين يكون الجو على شفا مطر، فيتبدى الجبل نفسه (سفينة أسطورية تشق عباب الطوفان والزمن وغبار الصحراء) أي كـ(سفينة نوح) في تجلٍّ أسطوري للمكان بعد مبارحة الوعي الزمن الموضوعي بواقعانيته إلى زمن مفارق بأسطوريته.
 

 

ثم يستأنف صوت النص «نثرًا» ما بدأه «شعرًا» في سرديته عن «الجبل» مُلاحِقًا العلاقة الزمكانية في أعطاف الجبل:
مشهد حياة مدهش في البلدة المحاطة بالأبراج والكهوف والصفير..
لكنّ عناق الصخرة وجذور الشجرة ظل هو مركز الروح المتشظية في هذا الفضاء المهيب، ظلَّ الأكثر مهابة روحية وتأملاً.
أكثر انغراسًا في الذاكرة التي لم يزدها هذا العناق المترامي إلا عذابًا وتيهًا، كأنما كل تلك الحشود من السنين، كل تلك الحروب والبعاد، لم تزده إلا نضارةً وخفاءً يستحيل سبر أغواره الدفينة المتراكمة..(ص8).

 

تأتي الكتابة المرسلة خطيًّا -فيما ينتمي إلى الكتابة النثرية بالتبادل مع الكتابة الشعرية التي تعتمد نظام الجملة الكتابية (السطر الشعري) مع ترك بياض طباعي بتمام الجملة وحدة للخطاب- بمثابة الملاحظات المُمَهِدة للخطاب الشعري، فيما تلعب دورًا أقرب لدور «البرولوج» في المسرح الذي يُمهِّد للحدث الدرامي، وتسهم هذه التبادلية بين خطي الكتابة الشعرية والنثرية المتعاضدة في تشكيل خطاب هذه «السردية» في خلق مراوحة إيقاعية.
 

في حين تبدو البلدة موزعة بين معالم الحداثة لاسيما الصناعية (الأبراج)، والقِدَم الطبيعية (الكهوف)، فإنّ (الروح) المتشظيّة تتمركز في ملتقى جذور الشجرة بالصخرة، رغم حشود السنين والحروب، فقد احتفظ المكان ببهائه رغم مرور الزمن، وهو ما يدفع بالذات إلى التموضع بالذاكرة واللواذ بالتأمل، وكأنّ للمكان (الجبل) تكويناته في داخل الذات (الذاكرة).
 

 

طغيان «الأيديللا»
 

إذا كانت «الأيديللا» تعني الحياة الرعوية في ارتباط الإنسان والذوات بالمكان عبر أجيال متعاقبة وتاريخ ممتدّ، في إيقاع مكرور للزمن، فلنا أن نرى في «نسور لقمان الحكيم» لسيف الرحبي طغيان «الأيديللا» حيث يبدو الجبل مركزًا لحياة أجيال وحوله يلتف الزمن متناسخًا في أحقابه وأجياله المتعاقبة:
 

في طفولة بعيدة، على رغم مرور سنواتها السريع، ظلت بسكونها العميق، مشهدَ بهاءٍ في الذاكرة، وعلى انفراط تلك السنوات وتعاقبها، ظلّتْ كأنما في حضرة الأبد وخارج إعصار الزمان..
منذ عهود طفولتنا البعيدة، في الداخل الحجريّ لعُمان، والجبل الأخضر، يسكن خيالات تلك الطفولة الغضة ويعشعش فيها، حكايات وخرافات، جبالاً وتلالا تتناسل في مرابضه الغيبيّة.. طيورًا كواسر وحروبًا لا تهدأ في رقعة التاريخ، إلا وتستمر ويطول استمرارها في لاوعي الجماعات وفي خيال الطفولة والمراهقة الملتهب..(ص9).

 

لقد ترسَّخ مشهد الجبل الأخضر وصوره في وعي الذات منذ الطفولة، حتى أنّ المكان (الجبل) قد أخرج الوعي من الزمن، وأبقى الذات في زمن الطفولة لا تبارح مشاهدها الجبليّة لتساكن لاوعي الجماعات، ويبدو في رؤية الذات والجماعات للعالم ومعرفتها به أنها تنبنى على معرفة حدسية ورؤية مثيولوجية للعالم ترى الخرافة قانونًا وتبعد المنطق ولا تتمسك بالعلّية:
لم يكن ذلك الجبل الواقعيّ الرابض على مقربة من قرى طفولتنا، إلا أسطورة، ولم يكن للواقع والتاريخ المتراكم إلا ظلال الأسطورة التي تغذيها روافد خرافات شتى كثيرة المرايا والسَحرة والأشباح. (ص13).

 

نبدو إزاء زمكان (الجبل/ قُرى)- الطفولة وهو ما يئول في الوعي إلى تجلٍّ أسطوري، وكأنّ الأسطورة هي المعادل الزمكاني للجبل والقرى المتاخمة له وقد تغذى بروافد الخرافة والسحر فيما يعني نفيًّا للمكان الفيزيقي وزمنه الكرنولوجي وإحلالاً للمكان الميتافيزيقي وزمنه النفسي، وهو ما يؤسس لما يشبه الزمن الرعوي، زمن الأيديلا الذي يتسم بجماعية حلوله، أي أنّه يساكن وعيًّا جمعيًّا، كما أنّه يتناسخ على امتداد أجيال متعاقبة.
 

ولكنّ قد يبادرنا تساؤل حول علاقة العنوان «نسور لقمان الحكيم» بمتن هذه السردية «النثر- شعرية»، فإذا كانت نسور لقمان الحكيم السبعة هي التي منحته الخلود حينما راهن عليها سليمان فعاشت نسوره السبعة أربعة آلاف عام، وإذا كانت النسور طيورًا تحلّق في الأعالي فتمتلك رؤية فسيحة المدى، فهل يُعادل بها الكاتب رمزيًّا للذوات التي ترتاد الجبل وتصعده؟ هل يكون صاعدو الجبل كنسور لقمان الحكيم في الخلود وطول البقاء وامتلاك الرؤية الوسيعة؟
 

* ناقد أدبي من مصر

منقول من ملحق شرفات بجريدة عمان ...

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
اختيارات القراء
  • اليوم
  • الأسبوع
  • الشهر
  • الأكثر قراءة
  • الأكثر تعليقاً