الأحد 22 سبتمبر 2024 آخر تحديث: السبت 14 سبتمبر 2024
( زليخات يوسف ) لهب متعال أضرمه البهلول علي السباعي في جسد الظلم - كاظم الحصيني
الساعة 10:51 (الرأي برس (خاص) - أدب وثقافة)

 

قرأت قصص ( زليخات يوسف ) مرات عديدة ، لم تتقدم ( زليخات يوسف ) نحو الأمام بين قراءة وأخرى ، نحوي ، ولم تتراجع إلى الوراء ، بقيت محتفظة بنفسها كعلبة مجوهرات عصية على الفتح، في هذه المجموعة القصصية التي صدرت عن دار الشؤون الثقافية العامة في بغداد عام 2005 م . أنتصر ( علي السباعي ) على واقعيته الشديدة في مجموعته القصصية البكر ، والموسومة بعنوان :-

 

( إيقاعات الزمن الراقص ) ، وكتب بفن قصصي جميل ونادر ، وحافظ على مكانته ككاتب همه الإنسان ، وبحثه الدائم عما يلوع هذا الإنسان ، ( علي السباعي  ) كاتب يبحث عن الالتزام بما يهم الإنسان أكثر من بحثه عن ما يخص الإبهار ، وذلك ما يحسب له من فضيلة بين شبان راحوا يبحثون عن ذواتهم وتركوا المجموع ، كتب ( علي السباعي ) عن المجموع ، عن الجموع الغفيرة ، عن الناس ، ناسه ، عن العراقيين كتب قصص ( زليخات يوسف ) . مجموعة لوحات فوتوغرافية لمصور حساس ذو عين رائية ، عين رائية لحياة العراقيين ، وائية لحياة مدينة معاصرة ، مدينة جنوبية عراقية معاصرة تقع جنوب بغداد ب 380 كم ، وما قصة ( وساخات آدم ) إلا تجسيد معبر بصدق عال وبريشة فنان كتب لوحاته الفوتوغرافية – القصصية -  عن حياة مدينته الناصرية ، حركتها الشعبية داخل جسد القصة من متسول يهدي أسنانه إلى الشمس إلى جامعي النتانة إلى هذا التيه الإنساني وسط بقايا حروب ، وألم ، وفقر حاضرين  مثل ذلك التيه ، تيه آدم الذي يضيع بين أبنائه ولا يعرفه أحد ولا يهتم به أحد ولا يفهمه أحد . . . كما إن كل ما يدور في هذه المدينة هو بعيد كل البعد عن الحضارة ، لقد حطمت الحرب الحضارة ، وتلك عجلات النظافة مأوى لأبناء الزنا والقطط ، ويتوهم الآخرون بأنهم يستطيعون أن يبنوا الحضارة بعيداً عن العلم والاقتصاد ، فالحضارة في هذه المدينة ليس أكثر من جمع براميل القمامة ، كما قلت القصة ، قصة ( وساخات آدم ) رؤيا للواقع لم تخض به فتغطس ولم تبتعد عنه فتنأى وتصير ضرب خيال وكلمات مجنحة ، هذا كله للقصة . إذن . ما عليها ؟ 
أعتقد إن ما على القصة قليل حتى وإن لم تكن قصة مثيرة محركة لكوامن النفس إلا أنها رؤيا لحركة مدينة ، مدينة الناصرية إبان الحصار ، مدينة لم يتدفق حدثها بسيل جار بل دارت على نفسها ، أنقذ قصته ، أنقذها من الروتين تعدد زوايا النظر لقصة ( وساخات آدم ) ، وإن كان الواقع واحداً إلا أنه نظر إليه من عدة زوايا ووقف شاهداً على ذلك الدوران الصبي المتسول الذي عاصر جميع دورات التحول ، دورات الحياة العراقية ، فكانت ( وساخات آدم ) شهادة جميلة . إذاً .

 

أراد ( علي السباعي ) هذا النوع من القص كعلامة مميزة لكتابته ، فهذا من حقه ونشد على يده غير أننا نهمس له إن هذا النوع يتطلب بناءً فنياً عالياً لأن السرد يغيب تقريباً من متون القصة ، وحل مكانه الوصف . 
 

قصة ( عطش ذاكرة النهر ) تمثل امتلاء ذاكرة الطفولة ، طفولة ( علي السباعي ) لحدث واقعي أسقط القاص عليه قدراته فأوقفه كتمثال لا يتحرك ، لم يتغير الزمن ولا المكان أثناء القصة ، وتلك براعة للكاتب تنم عن تمكنه من هذا الفن الراقي ، القص ، فقد كتب قصة جميلة دون أن يتحرك الزمن أو يتبدل المكان ، ومع ذلك جاءت القصة ممتلئة متفجرة ، ولعل البراعة في الوصف عوضت حركة الزمان والمكان وكذلك تعدد الشخصيات دون تشتت النص  وانعكست المعاناة الجماعية بمواجهة الطبيعة التي كانت تنذر بالموت ، الموت الوشيك إلا إن الإنسان كان شجاعاً غير مستسلم ، فهو يبحث دون كلل وإن أطر ذلك البحث بخيط من الرجاء في الغائب إن ذلك لم يؤثر على حركة النص الحياتية ، فقد ذكرني النص بمثل ضربة الدكتور حسام الدين الآلوسي لاستقبال الناس للكوارث ، فقد قال :-  " إن افترضنا وقوع صواعق فإن بعض الناس تغرس مانعة صواعق دون الابتهال ، وقسم يبتهل إلى الله دون أن يضع مانعة صواعق والأكثرية تضع مانعة صواعق وتبتهل " .
 

 

فمرونة الحركة وعدم فرض الفكرة القسرية جعلت القصة أكثر تقبلاً ك- (( انتظرناك ألف عام وعام ولم تأتي )) و(( أمجنونة أنت من يكون حتى يمنحنا الحياة )) مقابل ذلك هناك المتمسكون بالغائب :- (( أنفض القبر عنك نحن نموت . . . نموت )) و (( وعد . لقد ولى زمن الغربة . عد )) تلك الحركة هي حركة الناس صورت بشجاعة ، ولم يصادر تفكير على حساب تفكير آخر ، وقد خاب الوهم في القصة حيث لم يقبل سوى متعهد دفن الموتى ، وتبدد الحلم المثالي . 
 

لقد كانت القصة موفقة ضاجة بالعافية ، ومكتنزة الحدث ، ولعل المقاطع الصغيرة زادتها إيماءً ، وفتحت باباً كلما وصلنا إلى وجوب غلق الأبواب المشرعة على مصراعيها . أنها الخيوط الطولية للنسيج الذي يجب أن ينسج عليه . 
 

لقد حاول القاص ( علي السباعي ) فرض بعض رؤاه ومشاهداته اليومية ، أنا لا أقول أنه أخفق بل نجح بعض الشيء على الرغم من الإقحام الظاهر .نجح في هذه القصة بحدثها المفارق وطريقة كتابتها المعتمدة على الوصف ، الوصف الناجح ، كان وصفه في القصة وصفاً ناجحاً ، أما شخصية المجنونة فإنها لم تعمق  الحدث ، فهي ، دخلت متن القصة بواسطة القاص ، ولم تفعل فعلها بالقصة ، في حين كانت مهيأة أن تلعب دوراً إنسانياً مهماً لو كانت امرأة عاجزة عن حفر قبر لها ، كانت قلقة من بقاء جثتها في العراء ، عراء النهر ، نهر الفرات ، تنهشها الطيور ، واستبشرت بمجيء متعهد الدفن لأنها ستكون كالآخرين تملك قبراً ، لقد انتشل الكاتب الحدث من الخصوصية الغارقة المشوبة بالعاطفة ووضعها باقتدار في شواطئ الإنسانية مع احتفاظه بطريقته المثلى في الكتابة وهي الكتابة القصصية بالإيماء الرمزي . 
 

 

لقد شحذ السباعي مخيلتنا حين أخرج لنا قصة جميلة لافتة معبرة متفردة ، تفرد حدث قصته الكبير ، وجعلنا نستبدل خيالنا القديم بآخر جديد ، وحديث ، وأدخلنا ضمن نسيج متون قصته ( عطش ذاكرة النهر ) ،  بطريقة فذة جعلتنا نتخيل تخيلاً ايجابياً واسعاً وسع الحياة العراقية الممتدة الأزمان بمقطعه الأخير الذي ختم  قصته به :- (( أنهم متعهدو دفن الموتى ؟!! )) .
 

أما قصة : - ( احتراق مملكة الورق ) ، فقد جاءت بلهيب متعالي لكن ! بوقود غير مرئي . قصة جاءت بخطوط موصولة واصلة بين التاريخ والحاضر . أنها أشبه بجبل من جليد ما خفي منه كان أكبر بكثير مما هو طاف فوق سطح الماء ، فالأطفال ليسوا أكثر من أن يلعبوا . لكنهم يهتفون :- (( الحجاج حي )) ، ونحن نعلم ما يمثله الحجاج في التاريخ " أنا لست بن فلانة بل أنا من قطع ثلاثون ألف رقبة في يوم واحد " . . . هذا قول للحجاج . إذن . هل مجرد لعبة أن يقول الأطفال إن هذا الشخص حي ؟ 
 

وهكذا تستمر القصة ، قصة ( احتراق مملكة الورق ) ، تستمر كالنول ، تحوك خيوط التاريخ على خيوط الحاضر ، خيوطنا ، مقاطع غزلها الكاتب بمغزله ضمن نسيج القصة قد لا تراها منسجمة . لكنها تدور على نفسها ، تدافع عن الإنسان بشكل خفي ، وذلك من خلال فضح مجرمي التاريخ ، وإحضارهم أمام محكمة الزمن الحاضر :- ((  تأبط صبي أسمر طائرته الورقية ، دندن مترنماً :- موطني . . . موطني )) ، أما معتوهو ( علي السباعي ) ، أبطاله ، فلهم ميزتهم الخاصة فهم يعكسون الحياة ، ينبهون إلى حالات الخطأ ، ربما كان أكثر وحيهم من " البهلول " ، ذلك الجنون الحكيم في التاريخ ، ربما كانوا أحفاده الحقيقيون ، فهذه الفتاة تلبس يافطة تنعى الموتى ، تلك اليافطة التي علمتنا الحرب . أن تعلقها على الجدران بعد أن صار يموت من لا تتوقع موته ، أما على مستوى الفن القصصي فكما أسلفت أننا لا نتلمس تأثيرات الآخرين في كتابة السباعي القصصية ، وقد تنحى السرد القصصي تماماً ، فلا استرسال في القصة أنما هي لقطات للحياة من زوايا متعددة إن هذه الزوايا مشدودة بألم حبيس ، وحين يسترسل المتألم في سرد حكايته قد تصل موقع أسرار لا يريد البوح بها ، لكن !  ذلك يفقد القارئ لذة القراءة ، فالكتابة هي جمع من اللذة والكشف عن حيف قد يلحق بالإنسان ، وإن تغلب أحدهما على الأخر أصبحت الكتابة تخص أناس دون الآخرين ، فإن تغلبت لذة الكتابة أصبحت القصة تخص أولئك الذين يتسلون بالقراءة بانتظار دورهم في الحلاقة ، وإن تغلب الكشف أصبحت تخص أولئك المتشددين الذين يصرخون دائماً بصوت عال دون اعتصار رحيق الحياة ، وربما تكون كتابة من هذا النوع بسهولة تقع بالتزمت اللامبرر ، فإن الكشف بهدوء مع السرد هو أكثر أقناعاً .
 

 

كانت الخاتمة مقنعة جداً ، فالمقطع الأخير أحكم ضم جسد القصة بين ذراعيه ،  ضمها بدرجة عالية من الإتقان والإدهاش والمفارقة ، ليفجر لنا بمبضع الجراح الماهر والخبير بالجراحات العراقية ، نكأ ( علي السباعي ) بقلمه الجرح العراقي الأزلي :- (( الظلم )) . بالمقطع الأخير :- (( ضحك الحجاج . . . فوسوس بأذن سمسم – أغلق الأبواب )) ، فتلك جمالية تجمع بين البداية ، بداية القصة يفتح الأبواب من قبل " سمسم " ، وإغلاقها كذلك إيذاناً بغلق القصة .
 

فكانت بحق طريقة كتابة قصة ( احتراق مملكة الورق ) طريقة تظهر الثورة ، وتخفي أسبابها كلهب متعالي بوقود غير مرئي .
 

وتجيء قصة :- ( الزاماما  ) ، كأفضل ما كتبه القاص ( علي السباعي ) ، بل ، أفضل ما قرأت خلال عقد التسعينيات حقاً .
لا أود أن أكتب أي شيء عن ( الزاماما ) . لكن أتساءل كم من الكتاب يكتبون بهذا المستوى يمسكون الخيال فيجعلونه واقعاً ، وإذا كان الأدب هو نقطة التقاء الواقع والخيال في نقطة فوق الواقع على رأي النقاد ، فإن قصة ( الزاماما ) أنصهر فيها الواقع والخيال في بوتقة واحدة مشكلاً أراء واقعية جريئة في السياسية ، وأفكار خرافية ببطلها الحدث – الحادثة – حدث القصة :- (( الموت ))، وكانت إدانة للدكتاتورية ، وخضوع خرافي قوي لمشيئة مجهول .

 

 

قصة ( زليخات يوسف ) ، جاءت محملة بهموم العراقيين المحاصرين ، ومرة أخرى يكتب ( علي السباعي ) عن همومه اليومية ، ويكاد نص ( علي السباعي ) ، لا ينفصل عن روحه ، ورؤاه ، فلا غرابة أن يستغربه الآخرون الذين يبعدون ( علي السباعي ) كذات لها همومها عن النص ، ويقرؤون لكاتب يريدونه أن يضع اليد على ما يعانون هم ، والمعاناة بالتأكيد تختلف بين شخص وآخر ، ولعل أثقلها هموم الناس . 
 

حمل ( علي السباعي ) هموم ناسه باكراً ، وما قصته هذه إلا انعكاس لتلك الهموم الجسام التي تقصم الظهر . لذا . لا يمكن قراءة نص السباعي بعيداً عن ذاته ، وأن لم تكن خطوطه عريضة ومباشرة إلا أنها صرخات معزوفة بإتقان ، أي أن القارئ وبكل سهولة يستطيع إن يخلق قرينة لم يبتعد بها عن ( علي السباعي ) ، وعن همومه ، همومه التي هي هموم الآخرين  ، غير صور تصوراتهم ( أي تصورات الناس ) برؤى فنتازية ، فذاك الذي يضع حبلاً برقبة تمثال ( ألحبوبي ) ، إلى سيارة النظافة التي تضع يافطة :- (( متى تينع الرؤوس ؟ )) . إذن . نستطيع أن نقول إن ( علي السباعي ) يراقب هموم الناس بعين فنتازية تماماً ، مما يبعده عن القارئ الذي لا يرى في هموم الناس أن يربطوا حبلاً برقبة ألحبوبي ، ولا عربة الرؤوس الشمعية .
 

 

ترى هل كان ( علي السباعي ) في ( زليخات يوسف ) سجين النص أم أن النص سجين ( علي السباعي ) ؟
حقاً . وأنت تعيد قراءة النص تتساءل هل وظف ( علي السباعي ) الناس ليقوموا بهذه الأدوار اللامعقولة مسقطاً عليهم آراءه ؟ هل يريد أن يشكل من أبطاله دمى يجعلها مألوفة ، وعلى مر تاريخ كتابته ؟ قد يصبح هذا طموح لكل كاتب أن ينمي بطله عبر كتاباته . لذا . فالسباعي علي يود أن يحافظ على مجتمعه ضمن كتاباته غير إن ذلك لا يبعد كونه مسجون داخل النص ، النص ملاذه الوحيد ليبث همومه التي يخجل أن يبثها بسرد واقعي مباشر ، لقد كان الكاتب موفقاً بالنص كجامع لمعاناة ، ومسقطاً لرؤاه على المجتمع ، أما بالنسبة للقارئ ، فإنه ينظر إلى هياج مجانين من الناس الذين لا يعرفون كيف يخرجون من مأزقهم ؟ لا خطوات عملية ولا بناء علمي ولا موقف سياسي واضح لديهم ، ليست أكثر من محاولات شنق النفس ، أني أرى الكاتب وإن لم يضع عصا القدر التي هي بيد الإنسان المعاصر في دولاب – ترس – الحياة العراقية ، عجلة حياة المجتمع العراقي ، غير أن القاص خلق مجتمع فوضى ، الفوضى التي تليق بالبطالة المقنعة التي تملأ أرصفتنا وأسواقنا ، ونحن ندعي العمل في ظل حصار قاس مضروب حولنا ، وراكنين قدراتنا الجسدية والعلمية في رفوف تكاثر عليها غبار الحصار فصدئت . 

 

الناصرية مدينة الكاتب ليست وحدها محاصرة ؟ أن التجمعات الفنتازية حسب رؤية الكاتب في مدينة الناصرية تلك المدينة الملأى بالتناقضات وحسب ما جاء في النص ، وأنا أتساءل لماذا هذا التأكيد وتحجيم أثر الحصار الإنساني الكامل على العراق وجعله في هذه المدينة ؟ هل تخلو مدن العراق الأخرى من سوق الهرج وباعة الأرصفة ؟ إن ذلك تقليل للرؤيا في النص وتحجيم للكتابة قد تصل المغالطة . 
 

أن ( زليخات يوسف ) تؤكد ارتباط الكاتب بمدينته الناصرية ، والكاتب ملك للناصرية ، وكتاباته ملك للإنسان في كل مكان ، و ألحبوبي هذه الشخصية الفذة  ، ألحبوبي شهيداً في معارك الشعيبة ضد الاحتلال البريطاني ، وعالم ديني ، وله معرفة بالطب ، وقد استقبلته مدينة الناصرية وأهلها في ساعاته الأخيرة ، فمات فيها . ترى هل تعرف أجيال الحصار التي سجنها ( علي السباعي ) في دائرة النص ذلك ؟ 
 

قصة ( زليخات يوسف ) ، والتي وسمت المجموعة بها كانت نصاً ذا أثر كبير ، نص يحمل رؤيا تاريخية ومستقبلية ما بين الجيل الذي دخل الحصار وكأن البطل هوى من شاهق ، جيل عاش حرمانه ونضج شبابه وسط ذاك الانحدار السريع لمنظومة الأخلاق والقيم نحو الهاوية ، جيل ستقع عليه تبعات الخلاص من آثار الحصار الصعبة . كنت أتمنى أن يتحدث الكاتب ويمزج هذه الأجيال على لمسات مدرس التاريخ لوضع خطة اجتماعية ناضجة والخروج بنص يعمر طويلاً بدلاً من نص محصور بفترة زمنية هي :- زمن الحصار . كانت لغة القصة ، قصة ( زليخات يوسف ) ، لغة مشعرنة ومموسقه ومؤثثة بشك أنيق ، ومعبرة بطريقة صادحة وهي تعرج على التاريخ وتلامسه ، وعبأت منه الكثير ، وقد استمر القاص ( علي السباعي ) يكتب القصة بطريقته الخاصة في كتابة قصة قصيرة تبتعد عن الواقعية لتتجه صوب مرافئ  الحداثة ، وهي طريقة جميلة في كتابة نص حديث يتطلب من القاص العراقي ( علي السباعي ) الثبات عليها ، وبصلابة  ، لأنني أراه يسير وحده وخطواته مع الجميع .
 

 

تأتي قصة ( الجذر ألتربيعي للقمر ) ضمن لحمة وسدى ( زليخات يوسف ) ، ليس هناك شك بأن عالم الأدب هو سياحة حرة في وجدان الإنسان ، فإذا كان هناك جدل وسجال يعم ليزدحم في خلد القارئ العازف عن القراءة والمتابعة ، ولا أخفي رأيي بان أنسب هذا العزوف إلى ابتعاد الكاتب عن وجدان القارئ . لكني ، وبنفس الوقت أجد لزاماً الاعتراف بان القارئ يتحمل نصيبه في جمود الحركة الثقافية ، وذلك متأتي من الظروف الاقتصادية الصعبة التي تعصف بالبلد ، أجد أن أي قلم حر من الأقلام الشريفة تستطيع أن تصل إلى ما يجول في ذهن أب لا يملك ما يسد به رمق أطفاله الجياع ، ربما تكون القراءة لهذا الرجل هي محض هراء ، وقد قال جان بول سارتر : " لا قيمة لكل ما تكتب إزاء جوع طفل بأفريقيا " . . . أسوق ذلك كله وأنا أقرأ قصة المبدع العراقي الملتزم أدبياً بهموم الإنسان ( علي السباعي ) ، قرأت قصة ( الجذر ألتربيعي للقمر ) أربع مرات ، وأنا أعرف تماماً ما تحمله هذه القصة ، ف  ( علي السباعي ) لا يعرض حدثاً يتنامى ويتصاعد ، بل ، هو ينفخ الروح بسطور متفرقة ، فقارئ ( علي السباعي )  في هذه القصة يجب أن يحضر ومعه الخطوط العريضة لموضوع " ثيمة "  القصة ، ومن ثم تتلمس الخطى على خطواتها ، فتصبح دليلاً لخطانا ، نحن القراء ، وتكاد تتلمس جزع القاص ( علي السباعي ) الذي يمتلك الوعي والثقافة لأنه يعيش أمراً محيراً يشعره بأن كتاباته مهما أجهد نفسه في صياغتها إلا أنها تبقى دون همة الشخص بكثير ، جلب ( علي السباعي ) جنازة لدفنها ، وهي لا زالت حية تجثم على الصدور ، فهل نستطيع أن نقول بان ذلك تفاؤل ؟ أم هي أمنيات ؟ القمر المحبوس في تربيعه ، حيث لا زمن آخر ، وكأن هذا الزمن قد أكل الأزمان القادمة (( أكلوني جياع العالم الثالث )) ، لا شك إن العبارة تكفي لان العراق من دول العالم الثالث ، الديكة وتزاوجها ليس أكثر من زهو فارغ ، أني أرى أن ( علي السباعي )  بات يخط طريقته في كتابة القصة الحديثة ، ويبدو انه مصر على رأيه حد العناد ، فهذه القصة الثالثة من مجموعته ( زليخات يوسف ) التي تفتقد إلى الوصف ، القصص لديه بلا سرد ، السرد الذي يمنح القارئ اللذة ، بل ، هو مصر كما أسلفنا أن يأتي القارئ إلى منطقته ، أليه ، يأتيه القارئ محملاً بثورته على الظروف الاقتصادية ليبحثوا همومهم للكاتب ، ل ( علي السباعي ) ، مبتعدين عن لعبة الأدب الحقيقية ، حيث أني أرى أنه من الممكن أن تكتب هذه القصة بطريقة السرد ، حيث إن الحصار هو أبن الحرب ، وقد تحدث القاص عن الحرب وإلتماع الأنفجارات ، ماذا لو كانت هذه الجنازة قد ولدت من يوم ما أتحدت الأرض بالقنابل  ، فولد هذا المخلوق المشوه (( فرس الأمير شهريار الذي أستعرض عليه يوم النصر والسلام )) حين كان ينتظر من العراقيين جميعاً أن يسيروا خلف جنازة فرسه  مشيعينها إلى مثواها الأخير حزانى متأسفين لفقدها ، مثلهم كمثل مشيعي جنازة بغلة قاضي المدينة ، من أجل أن ينالوا رضا الأمير ، ليعودوا إلى حياتهم ، الحياة العراقية ، وبعدها يكمل القمر دورته الاعتيادية . 
 

 

قصة ( مومياء البهلول ) ، لا ينفرد ( علي السباعي ) بأمانيه حين يصب في قصته التي يكتبها كل همومه ، وهموم محيطه العراقي ، في كل قصة يكتبها ، وكأنها آخر ما سيكتبه ، فلا يريد أن يبقى في جعبته شيء ، الحصار الاقتصادي ، الوضع الاجتماعي ، التاريخ ، و ( علي السباعي ) مغرم بالناس كافة . مغرم بناسه الذين يمثلون قاع المجتمع من  :- (( نساء شحاذات ، ومجنونات ، وصانعات سحر )) ، ورغم شبابه إلا انه لم يتعرض للمرأة المكافئة له كحبيبة ، أو رافضة ، أو ضحية ، لعل ذلك متأتي أولاً :- من وعي ( علي السباعي ) الإنساني ، فهو يغلب هموم الإنسان على همومه الخاصة (( فالمرأة هم خاص للرجل )) ، وهم خاص عند ( علي السباعي ) ، ستظل حواء ترافق القاص ( علي السباعي ) في كل قصة كتبها وسيكتبها ، ذلك قدره ، الكتابة عن حواء قدره ، وثانياً :- تربيته الخاصة ، الملتزمة ، حقاً قد أحسن أهل ( علي السباعي ) تربيته ، وأن ( علي السباعي ) لا يمتلك تجارب لهو وعبث تجعله ينظر إلى العلاقة مع النساء جزء من الانضباط الأخلاقي ، كل ذلك سقته لأصل لعلاقة السباعي بكتابته ، بقصصه ، ترى هل تمثله قصصه ، كتاباته ، كلها أو بعضها  ؟!!
 

 

أنا أعتقد أنها تمثل الآخرين . لكنها . قط لا تمثل القاص ( علي السباعي ) كإنسان غاضب ، وكأديب رافض لما وصل له الآخرون من فتور همة ، وفقر حال ، ولعل قصة ( مومياء البهلول ) المشحونة بهذه الأوصاف المتشعبة تتحمل ثقلها ، تلك المرأة (( أم الحصار )) بعربتها التي تدور بها في محاولة منها لشحذ الهمم ، وما أشد ما تذكرنا به هذه المرأة ، البطلة ، بطلة القصة ، قصة ( مومياء البهلول )  ، تذكرنا ب :- " الأم شجاعة " لبريخت ، وشاء ( علي السباعي ) بطريقته المتميزة بكتابة القصة القصيرة أن يجعل من شخصياته المتعددة كلها تدور في فلك (( أم الحصار ))  ، وهذا ما أعطى القصة ، قصة ( مومياء البهلول ) إيجابية عالية، وارتقى بها إلى مصاف النصوص العالمية الحديثة . 
 

 

لقد ورثنا أرثاً شعبياً عن البهلول ، وعرفناه حكيماً مضحكاً ،ولكن ! أليس لكل زمن بهلوله ؟ 
فكان ( علي السباعي ) بهلولنا ، بهلول هذا العصر ، هذا ، وقد نأخذ على البهلول ( علي السباعي ) ، أنه ربط بهلوله بالهامش ، جعل من نفسه هامشاً ، وكان من المفترض أن يتركها متناً ، أساساً ، وليس هامشاً ، عموماً ، كانت هذه الشخصية الغريبة " البهلول " غريبة علينا ، عنا ، فكم من البهاليل يحملون البنادق ، ويتمنون أن لا يصيب رصاصها أحد ؟!!! 

 

كما أن البهلول ( علي السباعي ) ، آثر أن تبقى (( أمارجي )) أسماً ، لا أكثر ، فلم نشم عبق التاريخ فيه ، وتلك كانت لعبته ، ضربته الموفقة ، فقد بقي اله الحرية طفلاً ، طفلاً أسيراً لأبيه البهلول علي السباعي ، ولم تظهر نوازعه كإله للحرية  " هامش القصة " كان بحد ذاته متناً حكائياً أساسيا ، أما الطفلة (( سارة )) السباقة لقضم تفاحة النار ، فقد كان الهامش مفصلاً حسب مقاسها ، كانت هامشاً مثيراً ، مثير بما حواه من مضامين إنسانية عالية ، كانت شخصية " سارة " في قصة ( مومياء البهلول ) مثيرة حينما جيء بها إلى متن النص على أنها آخر طفلة وأدت في عهد الرسالة ، فمن جلل هذه القصة ، وهولها ، حدثها ، هذا الحدث المرعب :- الموت ، الكل ينتظر موته ، الموت الذي سيمتلك الجميع ، وله  مكاناً مميزاً ، حيث أتاح له القاص في سياق القصة أن يكون الحدث هو :- بطل قصة ( مومياء البهلول ) ، وبهذا الحدث أبقى الكاتب " سارة " طفلة عادية تقدمت لشراء حاجتها ، كنت أتمنى أن ينجح الكاتب بإعطاء " سارة " ما تستحقه من مكانة تاريخيه مؤلمة تدخلت السماء لرفع الظلم عنها إلا إن ذلك لم يحدث في القصة ، وكما أسلفت إن هذا الإحباط مرده إن القاص ( علي السباعي ) لا يتعامل مع شخصياته  وفقاً للمبدأ العلمي الاجتماعي " الصراع الطبقي " ، بل ، أنه ينظر إلى ما يحدث وإلى شخصياته بنظرة تقرب للتأثيرات الأخلاقية المثالية ، ولعل قارئ آخر يعترض على ذلك بان " أم الحصار " تمثل طبقات الفقراء ، فأني أقول أن " أم الحصار "  لم تحمل غير الصوت ، ولم تكن تمتلك سلاحاً غير ما يمت إلى الشعوذة والسحر ، وهذا لا يهيئ شخصياتها لصراع طبقي ثوري ، قدر ما يمثل آراء البورجوازية الإصلاحية ، لقد أراد الكاتب أن يعوض النقص الإيديولوجي في النص بالانتماء إلى أظهار معارفه التاريخية ، أو ، العادات الشعبية حتى لدى شعوب أخرى ، ليظهر تعاطفه المنبثق من تفكيره الإنساني المرهف لذا تجد " امارجي "  ، و " سارة " ، و " البهلول " ، و " المهل " ، و " مسحوق قرن الخرتيت " ، وفي تلك الاستعمالات وقف الكاتب مع الإنسان ، ولم يقف ضده . لكنه . لم يشبع تلك الشخصيات أو الكلمات مثل :- (( المهل ، مسحوق الخرتيت )) بحس واعي ينتقل إلى القارئ وذلك متأت من وقوفه كمتفرج من الصراع الطبقي ، لا منتمي إليه . لكنه ! متفرج . متفرج ايجابي . 
 

 

أما لغة قصة ( مومياء البهلول ) رغم طول القصة إلا أنها لذيذة ، أنيسة حين تكون معها لا يخل صديقنا الضجر الذي يلاحقنا دائماً كما يقول الشاعر الراحل ( حسين مردان ) . لغتها رشيقة تنم عن قدرة كبيرة ، قدرة كتابية فذة ، كانت قصة ( مومياء البهلول علي السباعي ) قصة تعيش في وجدان القارئ ، حقاً كان ( علي السباعي ) يكتب لا كما يكتب الآخرون الذين يكتبون القصص اليومية المهتمة بالشكلانية والألفاظ المفبركة .
 

قصة ( بكاء الغربان ) ، آخر قصة من المجموعة القصصية ( زليخات يوسف ) ، حملت الرقم عشرة ، مسك الختام ، ترى هل كان لها طعم مسك الختام ؟ كانت قصة لها طعمها الأدبي ، مضموناً ، وشكلاً . أذن . ما يكتبه القاص العراقي ( علي السباعي ) هو القصة الحداثوية . إن قصة ( بكاء الغربان ) حين تقرأها تحس بما يعانيه البطل في سجنه . لكنه . بطل مقطوع ليس له تاريخ ، غير التنويه بأنه "-  (( بائس )) . فهل  يكفي البؤس ليكون دليلاً على انحياز القارئ للبطل لا أتصور ذلك ، وقد تخبط البطل في إعلان من يكون ، وها هو البطل يصرخ في وجوههم :- (( اذا صفعتموني أصير أمامكم مثل عبد الناصر !!! )) من هو عبد الناصر ؟ نحن لا نعرف ، قد يكون عبد الناصر السياسي ، ورئيس الدولة ، وهو أقرب شيء إلى ذهن القارئ ، وقد يكون رمزاً آخر لا نعرفه . لذا . ضاع البطل بضياعه. 
 

 

ختاماً :

أستطيع أن أرسم خطاً لتطور القاص العراقي ( علي السباعي ) الأدبي . لكن ! إذ ما رسمت هذا الخط فهل ياترى سيكون خطاً تصاعدياً دائما ً ؟ بالتأكيد . كلا . ولو وجد كاتب كتب بخط تصاعدي لا استقرار ولا هبوط فيه ، لبلغ علواً قد لا تراه فيه العيون المجردة . لكن ! أستطيع  أن أقول إن ( علي السباعي ) تخلص من مواضيعه المباشرة حد البساطة ، والتي كانت تداعب عواطف العامة ، عامة الناس ، وانتهى به المطاف إلى الإمساك بفن الكتابة ، أمسك القاص ( علي السباعي ) بفن الكتابة القصصية هذا أولاً ، وثانياً: أستطيع أن أقول وبكل ثقة إن ( علي السباعي ) يمتلك خطاً يتميز به ، يميزه هو فقط من دون باقي الكتاب ، فنحن لا نلاحظ أثر كاتب في كتاباته القصصية . ثالثاً :- امتلاءه بالهموم الإنسانية لا الهموم الكتابية فحسب ، وتلك ميزة أصبحت اليوم نادرة يفتقدها الكثيرون من الكتاب الشبان ، حيث أن همهم الوحيد أن تكون الكتابة بفنها كبيرة ، وأنا أعتقد إن تلك الكتابة وإن أزهرت فإنها كنباتات الظل التي تبقى حبيسة في غرفت غارسيها . 

 


 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
اختيارات القراء
  • اليوم
  • الأسبوع
  • الشهر
  • الأكثر قراءة
  • الأكثر تعليقاً