الأحد 22 سبتمبر 2024 آخر تحديث: السبت 14 سبتمبر 2024
الموت مشقة في بلد تحوّل إلى مقبرة - محمد تركي الدعفيس
الساعة 08:45 (الرأي برس - أدب وثقافة)

 

“كان بلبل يفكر بصمت ويتساءل ماذا تفعل بنصر يرشح دمًا؟”.
تلك كانت جملة من الصفحة 144 لرواية التساؤلات العريضة التي أطلقها الروائي السوري خالد خليفة في عمله الجديد الذي حمل عنوان “الموت عمل شاق”.

 

عبر نحو 150 صفحة، يجعلنا خليفة نشمّ رائحة الموت الذي يطل برأسه من كل الزوايا في بلد تحول إلى أشبه ما يكون بمقبرة مفتوحة الفاه تستقطب كل يوم عشرات الجثث، لكأنه يريد أن يقحم رؤوسنا في “الميكروباص” الذي تحول إلى تابوت يحمل جثة تتحول بفعل الحرب وتداعياتها وحواجزها وعوائقها لتكون على مشارف جيفة.
 

ثمة جثة، وثمة رجلان وامرأة في ميكروباص مشغولون بتنفيذ وصية والدهم بدفنه في قريته البعيدة نحو الشمال، لكن الطريق إليها والتي تستغرق عادة بضع ساعات، استغرقت في زمن الحرب خمسة أيام.
 

لحظة عاطفية أطلق بلبل خلالها وعدًا لأبيه بتنفيذ وصيته، لكن اللحظة العابرة تحولت عبئاً.. “مرور جنازة كان يثير تعاطف الجميع أيام السلم، السيارات تفسح الطريق، المارة يتوقفون وفي عيونهم تعاطف حقيقي، لكن في الحرب مرور جنازة حدث عادي لا يثير أي شيء سوى حسد الأحياء الذين تحولت حياتهم إلى انتظار مؤلم للموت”. صفحة 10.
 

الرحلة طويلة، والناقلة واحدة، لكن كلاً من الأشقاء الثلاثة الجالسين قرب بعضهم بعضاً في الميكروباص مسافر لوحده، غارق في أفكاره، يعاني الورطة التي وجد نفسه فيها على حين غرة، ولم يعد يستطيع النجاة منها إلا ببلوغ غايته وهي القرية التي بدت الطريق إليها ممتدة خلف زمن بعيد من الذكريات التي يسترجعها كل منهم بصمت، فتأخذه في رحيل خاص.
 

كان يفترض بالموت أن يعيد لمّ شمل العائلة التي فرقتها الحياة، لكنه في زمن الحرب يبدو مختلفًا، لا يقوم بدوره، لا يعيد الحميمية، ولا يؤلف القلوب، يصبح فعلاً شاقًّا حين تزدحم المقابر ويصبح الوصول إليها فوق الاحتمال، ولا يعود للأموات حرمة، ويتحول الإنسان، سواء أكان حيًّا أم ميتًا في نظر الناس مجرد “عبء”، وفي نظر الدولة كما قال أحد عناصر الحواجز التي عبرتها الجثة “مجرد وثائق وأوراق”.
 

تتحول رحلة مواراة جثمان الوالد إلى إيغال الأبناء كل في عالم، كأنه يعيد اكتشاف ذاته التي تاه عنها أو تاهت منه، وكذلك بحث عن خيوط تعيد وئام المجموعة المنكوبة التي فرقتها الأيام قبل أن تجمعها المهمة الأخيرة للوفاء لأب اشتهى العودة جسدًا إلى قريته التي افترق عنها روحًا حال حياته، لكن الرحلة بكل مشاقها تقود في النهاية إلى أن كلاً منهم يكتشف غربته وبعده عن البقية.
 

وعلى الرغم من أن الموت يشكل مفتاح ومدخل العتبة الأولى للرواية حيث يتصدر عنوانها، ويبقى له الحضور الطاغي فيها، إلا أن إيقاع الرواية بدا متمرّدًا على السكون الذي يفترضه الموت، وأخذنا في رحلة لهاث كأننا نسابق الميكروباص الساعي للوصول بالجثة إلى حيث ستوارى قبل تفسخها وتحللها، وذهب بنا في رحلة بانورامية أساسها الصورة وحركية الشخوص داخل النص وحواراتهم المتبادلة ومونولوجهم الداخلي لنتابع أحوال بلد تتجاذبه الجماعات المسلحة والمقاتلون والتيارات والطوائف، ولنقرأ طقوس الناس المطحونة بحرب لا يبدو أن لها قرارًا.
 

الرواية تمضي بمسارين، ثمة حياة، وثمة حضور طاغ للموت، وفي تقابلهما وتصارعهما تمضي أحداثها، كأنها رحلة طويلة لاكتشاف كل الندوب التي تركتها الحرب على أجساد من يعيشون جحيمها بلا حول منهم ولا قوة.
 

الرواية عمل شاق، لكنه يقدم المتعة، ويستحق في النهاية أن يكون إضافة لسلسلة أعمال خالد خليفة التي حظيت بالتقدير وبعدد من الجوائز.

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
اختيارات القراء
  • اليوم
  • الأسبوع
  • الشهر
  • الأكثر قراءة
  • الأكثر تعليقاً